ماذا يمكن عمله؟

إنَّ النتائج المقدمة هنا لا لبس فيها. إنَّ التجربة خلال القرن العشرين، بعد أن سمحت الميكنة بضربة مفاجئة خاطفة في بداية الحرب لأول مرة، تظهر أنَّ منع المفاجأة الاستراتيجية أمر صعب للغاية.

وفي عدد كبير من الحالات الشهيرة، كانت المفاجأة التي تحققت ذات أهمية حاسمة.

والواقع أنَّ هذا يعلمنا أنَّ المفاجأة تحقق فيها كل محاولة خلال القرن العشرين دون استثناء.

إنَّ هذا الاكتشاف المهم يثير أسئلة بالغة الصعوبة حول جدوى الإنذار المسبق بالحرب وقيمة أجهزة الاستخبارات الضخمة التي أنشئت لهذا الغرض. ولقد اعتُبِرت وظيفة هذه الأجهزة بالغة الأهمية بالنسبة لإسرائيل، نظرًا لصغر حجمها والدور الأساسي الذي تلعبه قوات الاحتياط في قوتها العسكرية.

وقد عُرِفَت التحذيرات الاستخباراتية بالحرب باعتبارها ركيزة أساسية لعقيدة الدفاع الإسرائيلية ومهمة محورية لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان”.

 ومع ذلك، وعلى الرغم من الإنجازات المثيرة للإعجاب في المجال العملياتي، فقد فشلت “أمان” في توفير الإنذار في حالتين كانت فيهما إسرائيل هدفًا لهجمات مفاجئة في عامي 1973 و2023 (بالإضافة إلى دخول الجيش المصري إلى سيناء دون أن يُكتَشف أثناء أزمة روتم في عام 1960).

والاستنتاج الواضح ظاهريًّا من كل هذا، إلى جانب سجل أجهزة الاستخبارات في جميع حالات المفاجأة الاستراتيجية طوال القرن العشرين، هو أنَّ الاستخبارات غير فعّالة في توفير الإنذار الاستراتيجي المسبق بحرب وشيكة.

ويبدو أنَّ الأدلة تدعم هذا الاستنتاج المتناقض والمخالف للحدس، ولكن إلى أي مدى هو صحيح؟

قبل أن نتناول هذا السؤال، دعونا أولًا ننتقل من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين ــ إلى الغزو الروسي لأوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير 2022.

لقد كانت العوامل المألوفة التي تدعم المفاجأة الناجحة حاضرة هنا أيضًا. فقد تنكر الروس لنشر قواتهم في دونيتسك وبيلاروسيا باعتباره تدريبًا واسع النطاق، واعتقدت السلطات الأوكرانية أنَّ حشد القوات الروسية كان جزءًا من حملة تهديدات وجهود سياسية قسرية من جانب بوتن لن تؤدي إلى الحرب والغزو (باستثناء زئيف إلكين، عضو مجلس الوزراء السابق من أصل سوفييتي، سمع المؤلف جميع الخبراء في إسرائيل يصرحون بأنَّهم يعتقدون أيضًا أنَّه لن يكون هناك غزو).

ومع ذلك، أعلنت الاستخبارات الأمريكية في الأيام التي سبقت الحرب أنَّ الغزو وشيك، بل إنَّها حددت التاريخ الذي سيحدث فيه (ثم تم تأجيله بعد ذلك بيومين). ولم تُقدم أي معلومات عن المصدر الذي يقف وراء هذا الإعلان الاستخباراتي الأمريكي، ولكن دقة تاريخ الغزو المعلن قد تشير إلى أنَّه جاء من معلومات داخلية، ربما من مصدر رفيع المستوى في القيادة السياسية أو العسكرية الروسية، وليس عبر استنتاجه من أدلة ظرفية.

وبالتالي، كما هو الحال مع جميع الظواهر البشرية، هناك استثناءات واختلافات كبيرة في المفاجآت الاستراتيجية، وهو ما يستحق الاهتمام.

ضع في اعتبارك أنَّه حتى في الليلة التي سبقت يوم الغفران عام 1973، أعطى أشرف مروان، “الملاك” المقرب من السادات، إسرائيل تحذيرًا مسبقًا بشأن الحرب القادمة، مما دفع الجيش الإسرائيلي إلى التأهب والتعبئة. يتناقض هذا مع مفاجأة 7 أكتوبر 2023، حيث لم يكن لدى الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات الأخرى مخبر واحد بين الآلاف من مقاتلي نخبة القسام الذين قضوا الليل وساعات ما قبل الفجر في الاستعداد للهجوم.

يُجرى تقديم ادعاءين مرتبطين في أعقاب المفاجآت الاستراتيجية الناجحة.

الأول هو أنَّ عمليات النشر والتنبيهات يجب أن تستند إلى قدرات العدو، وليس النوايا المفترضة.

إنَّ الحجة الثانية هي أنَّ مستوى القوات واليقظة يجب أن يظلا على أعلى مستوى في كل الأوقات.

وقد انتقدت هاتين الحجتين، إلى حد كبير، باعتبارهما غير عمليتين ــ سواء بشكل عام أو فيما يتصل بإسرائيل بالتأكيد. ذلك أنَّ التهديدات بالحرب ضد إسرائيل تأتي من اتجاهات مختلفة، وإسرائيل غير قادرة على الاحتفاظ بقواتها الاحتياطية، التي تشكل الجزء الأكبر من جيشها، في حالة تعبئة لفترات طويلة. بيد أنَّ تحديد المسألة بعبارات مطلقة يغفل عن النقطة الأساسية.

ففي أوائل أكتوبر 1973، وفي أعقاب تدفق المعلومات حول الانتشار العربي على حدود إسرائيل، وعلى الرغم من تقييم “أمان” بأن الحرب غير واردة، أرسل الجيش الإسرائيلي اللواء المدرع السابع لتعزيز قواته بمرتفعات الجولان، مما أدى إلى زيادة عدد الدبابات هناك من 77 إلى 177 دبابة.

وقد اعتُبِرت جبهة الجولان أكثر أهمية بسبب الافتقار إلى العمق الاستراتيجي الذي توفره شبه جزيرة سيناء، وقرب الجولان من التجمعات المدنية ووسط إسرائيل.

وإلى جانب نقل لواء المدرعات الاحتياطي للتعبئة السريعة 179 إلى معسكر أكثر تقدمًا كجزء من حالة التأهب في وقت سابق من ذلك العام، لقد أنقذ هذا التعزيز مرتفعات الجولان.

وبالتالي، كان لتقييم “أمان” لقدرات العدو نظرًا لحشده لها، تأثير حاسم على استعداد الجيش الإسرائيلي ونتائج الحرب التي تلت ذلك. من هذا المنظور، كان الوضع في 7 أكتوبر 2023 أسوأ بكثير.

أخطأت أجهزة الاستخبارات في تقييمها لنوايا حماس وقدراتها. كما فشلت في تقديم تحذير مسبق دقيق، على الرغم من تلقي إشارات وتقارير مختلفة طوال الليل.

وبالتالي، لم تكن القوات على حدود غزة مستعدة للقتال، مما أدى إلى كارثة. وعلى الرغم من وجود علامات على نشاط غير عادي من قبل حماس، فإنَّ القوات في المنطقة لم توضع حتى في حالة تأهب قصوى عند الفجر.

لقد كان لدى إسرائيل تقييم أكثر دقة لقدرات حزب الله وقوة الرضوان على اختراق الحدود. ومع ذلك، من الواضح في الماضي أنَّه لم يكن هناك استعداد كافٍ لكبح هذا التهديد.

لقد اعتمد الجيش الإسرائيلي على قدرة “أمان” على توفير تحذير مسبق كافٍ يسمح بالاستعداد المناسب قبل مثل هذا الهجوم. ومن المستحيل أن نعرف ما إذا كانت شعبة “أمان” قادرة على تلبية هذه التوقعات.

ومع ذلك، يبدو في ضوء ما حدث أنَّ إسرائيل لم يكن ينبغي لها أن تعتمد على مثل هذا التحذير، وأنَّ انتشار الجيش الإسرائيلي على طول الحدود اللبنانية ــ من جانب القوات النظامي ووحدات الاحتياط وفرق الطوارئ المحلية في المدن والقرى ــ كان بعيدًا كل البعد عن الحد الأدنى الضروري لمنع وقوع كارثة، والتي كان من الممكن أن تكون أسوأ حتى من كارثة السابع من أكتوبر 2023.

لذلك، فإنَّ مسألة التحذير المسبق من الحرب لا تعتمد فقط على تحذير محدد واضح، مثل التحذير الذي حصل عليه الأمريكيون بشكل فريد في أوكرانيا، أو الذي حصلت عليه إسرائيل جزئيًّا عشية يوم الغفران في عام 1973.

وبالمثل، لا تقاس مسألة النوايا مقابل القدرات من حيث “الكل أو لا شيء”. وحتى في غياب تحذير دقيق، يتعين على البلدان والجيوش أن تسأل نفسها دائمًا عما قد يحدث إذا هاجمها عدو معاد وخطير.

ولكن ما الانتشار الدفاعي المطلوب إذا تحقق التهديد دون أي تحذير مسبق محدد؟

هذا هو السؤال الذي طُرح، على الرغم من تقييم “أمان”، في الأسبوع الذي سبق حرب يوم الغفران، وتم الرد عليه بشكل حاسم، وإن كان غير كامل، في ذلك الوقت.

وعلى النقيض من ذلك، لم يُطرح السؤال بشأن حماس وحزب الله بالجدية المطلوبة في عام 2023.

لذلك فإنَّ صورة الفشل الاستخباراتي من حيث المفاجآت الاستراتيجية جاءت أكثر شمولًا وتناسقًا مما يُفترض عادة. ومع ذلك، فهي أيضًا معقدة ومتعددة الأبعاد، مما يترك مجالًا للأمل الحذر عند استخلاص الدروس الاستخباراتية والعملياتية من الفشل التام في السابع من أكتوبر.

توضح سلسلة الإخفاقات السابقة أنَّه لا يوجد علاج لهذه المشكلة. الجهود المبذولة لتعزيز القدرة على تقديم تحذير محدد من الهجمات المحتملة في المستقبل القريب لا تزال غير كافية. وإنَّ استمرار الحرب الوشيكة يتطلب بذل الجهود الاستخباراتية الرامية إلى تحديد النوايا، حتى ولو أثبتت التجربة أنَّ هذا لا يمكن الوثوق به بشكل كامل.

ولكن في الوقت نفسه، لا بُدَّ من توفير استجابة دفاعية لقدرات العدو المهددة، والتي من شأنها على الأقل أن تمنع الانهيار التام في حالة حدوث المفاجأة الاستراتيجية.

_____________

مقالات