د. زكية القعود
إن البحث في هذا الموضوع ليس أمرا سهلا، ومرد ذلك إلى استحالة الحصول على معلومات وافية حول جوانبه المختلفة، لأن ما يتوفر عنه ينحصر في المخطوطات والوثائق والتي ما زالت في حاجة للمزيد من التحقيق والبحث عنها في مكتبات العالم.
كما أن ما كُتب حول الثقافة الليبية، هو عبارة عن كتابات متفرقة وعامة بالإضافة إلى تشابك المعلومات، وربما ذلك يعود إلى طبيعة وموقع طرابلس.
مهما يكن من أمر فإن طرابلس التي هي جزء من المغرب العربي، قامت بدور كبير في مجال الفكر والثقافة ضمن ما قدمته هذه المنطقة من إسهامات في الحضارة الإسلامية، سواء أكانت هذه الاسهامات قد نمت بمعزل عن ثقافات وافدة، أم تداخلت مع غيرها من الثقافات وألفت معها ثقافة واحدة.
وعند التحدث عن الجانب الثقافي في طرابلس ومقارنتها بجاراتها في العهود الإسلامية، أن نكون موضوعيين غير متحاملين أو مدافعين .. بحيث لا نقول إن الحياة الثقافية في طرابلس كانت على قدم وساق مع المراكز الثقافية الكبرى في المغرب العربي مثل تونس وفاس، ولا نبالغ بنفي دورها، بل علينا أن ننظر إلى
الموضوع نظرة تحليلية واقعية موضوعية من خلال استقراء المصادر التاريخية التي بين أيدينا، والبحث عن المفقود منها لإظهار دور طرابلس في الحياة الثقافية.
تجدر الإشارة هنا ألى أنه من الصعب الفصل بين التاريخ السياسي لطرابلس وبين الجانب الثقافي، لأن هذا يعكس ويبرز وضع طرابلس بين المراكز الاسلامية المجاورة (تونس، القاهرة، مراكش) إذ يتضح لنا من خلال دراسة التاريخ السياسي وأثره على الحياة الثقافية من حيث الإزدهار والضعف، وعلى ضوئه سنتفهم بموضوعية مكانة طرابلس الثقافية، وهي وإن كانت لا تضاهي المراكز الأخرى إلا إن ما كان بها من علماء وما قدموه من ذخائر العلوم الدينية والدنيوية في الحضارة الإسلامية لا يستهان به.
علينا قبل أن نمضي في تتبع ملامح الحياة الثقافية في طرابلس خلال الفترة التي نعالجها، يجدر بنا أن نتوقف هنيهة لنحاول تعليل ضعف الحياة الثقافية من خلال طرح السؤال التالي:
لماذا لم تشتهر ليبيا في مجال العلوم العقلية خاصة، والعلوم الأخرى عامة كما هو الحال في مصر وتونس المغرب والعراق؟.
إن محاولة تعليل هذه الظاهرة ليس أمرا سهلا، غير أن هناك بعض الباحثينذ تصدوا لتعليلها منه الدكتور إحسان عباس الذي علل هذه الظاهرة في مجمل حديثه عن العلماء والأدباء بقوله يرجع لذلك:
أـ أن العلماء الليبيين لم يتصلوا ببلاط الملوك في القيروان أو في مصر إذ أن أغلب العلماء والأدباء ترجع شهرتهم إلى اتصالهم ببلاط السلاطين.
ب ـ هجرة الكثير من أبناء ليبيا إلى المغرب أو المشرق
ج ـ عدم وجود عاصمة سياسية مستقرة، فطرابلس لم تتبلور كعاصمة إلا في فترات محدودة رغم ذلك لم تستطع أن تكون مركزا كبيرا لملتقى علماء البلاد.
أما النعمان عبد المتعال فيعلل ذلك بسبب عنف المعارك وقسوة القتال وإلى الهجرات العربية.
أما عبداللطيف البرغوتي يرجع ذلك إلى عدة أسباب منها، بُعد طرابلس عن مركز الخلافة، واتساع ليبيا وفقرها وقلة عدد سكانها، الفرق الإجتماعي بين البربر والعرب، وهجرة العلماء والأدباء.
ويمكن أن نعلّل هذه الظاهرة ضمن المؤثرات التي تؤثر في الحياة الثقافية بصفة عامة ليظهر لنا بعض الأسباب بالإضافة إلى الأسباب السابقة.
مؤثرات الحياة الثقافية:
هناك العديد من المؤثرات التي تؤثر في الحياة الثقافية سلبا أم إيجابا.
أولا، المؤثرات السلبية:
إن الظروف السياسية التي سادت ليبيا كانت في بعض العهود غير مساعدة على نمو وإزدهار الحياة الثقافية فيها، حيث أن الفترات التي كانت تتوافر فيها ظروف الاستقرار كانت أقصر، إذا قسناها بتلك الفترات الأخرى التي كانت تتسم بالفوضى والإضطراب. ومن أسباب ذلك ما يلي:
1 ـ سوء الإدارة
مع نهاية القرن الأول الهجري كان الإسلام قد استقر في ليبيا ثم تجاوزها حتى عمّ بقية أقطار المغرب العربي والأندلس، وكانت سياسة الولاة في الفترة الأولى من الفتح الإسلامي تمتاز بالمساواة والتسامح مع الأهالي، وأثر ذلك فيهم فتحول كثير منهم إلى الإسلام خاصة في فترة حكم حسان بن نعمان (73 ـ 85 هـ) ومن جاء بعده من ولاة صالحين سعوا على تطبيق مبدأ المساواة معهم.
إلا أنه بعد ذلك وخاصة في الفترة ما بين (102 ـ 132 هـ) تولى خلفاء وولاة، ليسوا بالصلاح الذي كان عليه من سبقهم أدى ذلك إلى سوء الأحوال السياسية والإدارية، فكان ذلك عاملا أساسيا من عوامل الثورات التي قام بها البربر على العرب في ليبيا.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور إحسان عباس: “إن اعتناق الأهالي للمذهب الخارجي ذو دلالات عميقة، فهو يعبر عن ميلهم إلى التشدد في فهم التعاليم الإسلامية وتمسكهم بها تمسكا يصبح قوة معارضة ضخمة في وجه الدولة حيث سلك ولاتها مسالك اجتهادية يشوبها التساهل في ممارسة بعض الأمور بحكم تطور الزمن، وهو يدل على التشبت بتطبيقها دون خلل ـ وذلك أمر لا يدرك العسر فيه إلا من أضطلع بمسؤولية تطبيقه، وحين يصبح الدين سلاحا فقد تختفي وراءه نزعات أخرى كالعصبية العنصرية والرغبات المادية وغير ذلك ـ ولكن ثورات البربر في أغلبها ـ كان غضبها المحنق على إهدار الحقوق“.
كما يقول محمود ناجي في هذا الصدد: “إلا أنه في أواخر حكمهم (الأمويين) ادى
سوء تصرف بعضهم لإغراق إفريقية وخاصة طرابلس في الفتن والحروب الأهلية“.
ويضيف البرغوتي: “لم تكن (ثورات الأهالي) ناجمة عن تعصب للعرقية البربرية في مجابهة العرقية العربية، بقدر ما كانت ناجمة عن تشابه النظرة للحياة والتعلق بالحرية المطلقة والتمسك بالديمقراطية المتطرفة، ذلك أن البربر (الأهالي) شأنهم في ذلك شأن العرب من حرية وانطلاق … لذلك فقد كانوا نزاعين بطبيعتهم إلى تلك الحرية، وعلى ذلك الأساس فإن الوالي العربي المسلم أو البربري إذا لم يتصرف وفقا لروح الإسلام، فثار عليه البربر المسلمون“
2 ـ الصراع العقائدي
كان الاختلاف العقائدي بين (السنة والإباضية) من عوامل ضعف الحياة الثقافية في هذه الولاية. رغم أن هناك فترات سلام وإن لم تدم طويلا، فكان الصراع بين الأغالبة والرستميين يأخذ إضافة إلى جوانبه السياسية وجها آخر وهو الجانب العقائدي.
وكان إلى جانب ذلك اختلاف آخر في فترة الحكم الفاطمي (302 ـ 361 هـ) كان بين السنة والإباضية ضد الشيعة الإسماعيلية، خلال (311 ـ 361 هـ) إلا أن هذه الفترة تتسم بالهدوء النسبي عن الفترة السابقة (الأغالبة والرستمية).
3 ـ الصراع السياسي
إن المتتبع لتاريخ ولاية طرابلس خاصة، يلاحظ أنها كانت منطقة صراع بين، وغالبا ما كانت القوة المهيمنة من الغرب، فمثلا الأغالبة يرون في طرابلس ولاية تابعة لهم، وفي نفس الوقت يرى سكانها أنه يجب أن يكون لهم حكم ذاتي. وهذا جعلها في صراع دائم مما حرمها من الاستقرار أسوة بالمراكز الحضارية الأخرى كالقيروان والقاهرة.
إذ ظلت هذه المنطقة تشهد نزاعات وحروب بين الدول المتصارعة (الأغالبة والطولونيين والرستميين) كل منها تعمل على جعلها خاضعة لها، وفي نفس الوقت كان ولاة طرابلس يسعون كلما حانت لهم الفرصة لإعلان تمردهم محاولين تكوين حكومة مستقلة على غرار جاراتها، وهذا كله أثر بطبيعة الحال على الأوضاع الثقافية في البلاد، ففي فترة حكم الأغالبة تعاقب على ولاية طرابلس (179 ـ 296 هـ) أكثر من تسعة ولاة قام سكان طرابلس بالعديد من ثورات التمرد ضدهم، كذلك عندما أصبحت طرابلس تابعة للفاطميين بعد موقعة جادو سنة 311 هـ، قام سكانها بالثورة عليهم، إلا أن يوجه عام تمتعت ولاية طرابلس باستقرار نسبي في عهد الدولة الفاطمية.
كما شب صراع بين الصنهاجيين والرناتيين (367 ـ 391 هـ) وبين خزرون والزناتيين (381 ـ 540 هـ) كل ذلك أثر في الحياة الثقافية في ولاية طرابلس. كما كانت الأطماع النصرانية في الاستيلاء على مدينة طرابلس تمثل جانبا آخر من الأخطار التي تتهددها، حيث سقطت في يد النورمان (541 ـ 553 هـ)
كما اتخذ أعداء دولة الموحدين طرابلس مسرحا لمنازعاتهم السياسية المريرة وحرموها من الأمن والإستقرار، فأصبحت طرابلس منطقة شدّ وجذب ما بين الحفصيين أنصار الموحدين، وبني غانية وقرقوش وممالكيه خصوم الموحإدين، أضاف إلى ذلك غزو الأسبان وفرسان القديس يوحنا، وآخر هذه الفترة بسيطرة الدولة العثمانية على ليبيا.
…
يتبع
____________
المصدر: دراسة في العلوم العقلية في الفترة ما بين القرون (2-10 هـ \ 8 ـ 16 م)