التفسيرات المقبولة لفشل الإنذار المسبق
على الرغم من أنَّ التفسيرات التي تركز على التحيز المعرفي والشخصي، والانغلاق المفاهيمي، والتفكير الجماعي ليست خاطئة، فإنَّها تفقد صلاحيتها عندما تواجه النجاح العالمي للمفاجأة الاستراتيجية خلال القرن العشرين. لا يوجد تباين في النتائج بين الحالات يمكن أن يعزى إلى الاختلافات في هذه العوامل.
وقد جرى اقتراح تفسيرات أخرى مختلفة لنجاح المفاجآت الاستراتيجية في الأدبيات العلمية، وخاصة في أعمال ريتشارد بيتس وإفرايم كام من قبيل أنَّه أولًا وقبل كل شيء، فإنَّ حالة الحرب نادرة مقارنة بفترات طويلة من الهدوء.
وكما أوضح الجنرال إيلي زعيرا، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” في عام 1973، في التحقيق الشامل الذي أجراه أفيرام باركاي بعنوان “رفرفة أجنحة الخطأ”:
“افترض أنَّ لديك ببغاء أحمر يتنبأ بالحرب كل يوم وببغاء أزرق يقول إنَّه لن تكون هناك حرب، وأنَّ الببغاء الأزرق على حق يومًا بعد يوم لآلاف الأيام، بينما الببغاء الأحمر مخطئ في كل شيء. أيهما ستصدق؟”.
في حالة الصراع المطول مثل الصراع العربي الإسرائيلي، حيث يمكن أن تحدث الانفجارات في أي وقت، يكاد يكون من المستحيل الحفاظ على مستوى عالٍ من الاستعداد واليقظة لاندلاع الحرب في كل لحظة.
يتطور الروتين، جنبًا إلى جنب مع متلازمة “الذئب الباكي”. وهذا يتناقض مع حالة الحرب النشطة، حيث يكون الاستعداد لهجمات العدو أكبر ويفسر لماذا تنجح بعض المفاجآت العملياتية والتكتيكية بينما يفشل بعضها الآخر، على عكس المفاجآت الاستراتيجية، التي نجحت باستمرار.
وعلاوة على ذلك، وكما أوضحت روبرتا وولستيتر، الباحثة الرائدة في مجال المفاجأة الاستراتيجية، فإنَّ أجهزة الاستخبارات تغرق في آلاف الإشارات قبل أي هجوم.
وبعض هذه الإشارات تشير بالفعل إلى هجوم وشيك “علامات”، في حين أنَّ بعضها الآخر عبارة عن تشتيتات مضللة “ضوضاء”. ولا يمكن التمييز بين الاثنين سوى في وقت لاحق.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للتقييمات الخاطئة لتوازن القوى بين الخصوم، وبالتالي مدى تحقق الردع، أن تلعب دورًا رئيسيًّا في إخفاقات أجهزة الاستخبارات.
وغني عن القول إنَّ هذا العامل كان بارزًا في مفاجآت السادس من أكتوبر 1973 والسابع من أكتوبر 2023. ومع ذلك، لا يزال لغز النجاح المتواصل للمفاجأة الاستراتيجية قائمًا.
إنَّ هذا صحيح بشكل خاص لأنَّ الهجمات المفاجئة على الأرض (وبشكل أقل في الهجمات البحرية، كما في بورت آرثر في عام 1904 وجزر فوكلاند في عام 1982، وأقل حتى في الهجمات الجوية كما في بيرل هاربور في عام 1941 وعملية فوكس الإسرائيلية في بداية حرب 1967)، عادة ما تسبقها تحشيدات هائلة من القوات والمعدات والإمدادات والذخائر على طول الجبهة المحددة.
ولا يمكن إخفاء هذه التحشيدات حيث تكون مرئية بوضوح للجانب المهاجم في كل الحالات تقريبًا في الفترة التي تسبق الهجوم المفاجئ واندلاع الحرب.
كان هذا صحيحًا فيما يتعلق بالتحشيدات الهائلة للجيشين المصري والسوري في سبتمبر وأوائل أكتوبر 1973، على الرغم من أنَّه ينطبق بدرجة أقل بكثير على جيش حماس خفيف التسليح المنتشر على حدود غزة في أكتوبر 2023.
تفسيرات إضافية لنجاح المفاجأة الاستراتيجية في القرن العشرين
حتى عندما تكون تحشيدات قوات العدو والاستعدادات اللوجستية على الجانب الآخر من الحدود مرئية بوضوح، يمكن تفسيرها كجزء من سياسة “حافة الهاوية” للضغط في الصراع.
وفقًا لهذا التفسير –وهو صحيح في العديد من الحالات التي لا تؤدي إلى الحرب– فإنَّ الحرب مجرد تهديد، وشكل من أشكال التلويح بالسيف يُقصد منه أن يبدو موثوقًا به للضغط على الجانب الآخر دون أي نية حقيقية لبدء صراع مسلح.
وبشكل جزئي، بهذه الطريقة فسر ستالين حشود القوات الألمانية على الجبهة الشرقية في الأشهر التي سبقت عملية بارباروسا، نظرًا للتوترات بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا بشأن تقسيم أوروبا الشرقية، وخاصة رومانيا، التي كانت مواردها النفطية حاسمة بالنسبة لألمانيا.
وهذا هو التفسير الذي فسرت به الولايات المتحدة أيضًا الانتشار الضخم للقوات العراقية قبل غزو الكويت في عام 1990.
فلم يكن هناك شيء في الحشد العراقي لا تستطيع الأقمار الصناعية الأمريكية اكتشافه. ولكن الولايات المتحدة والكويت إلى جانب الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية اعتقدوا أنَّ العراق كان يتخذ موقفًا يهدف إلى إجبار الكويت على التنازل عن ملكية حقل نفط متنازع عليه على حدودهما المشتركة.
وقبل أيام قليلة من غزو الكويت، أكدت السفيرة الأمريكية في العراق لصدام حسين أنَّ الولايات المتحدة لا تدعم بالضرورة موقف الكويت بشأن هذه القضية.
فضلًا عن ذلك، فإنَّ نشر القوات لممارسة الضغط الدبلوماسي يُفسَّر أحيانًا على أنَّه إيماءات لأغراض داخلية تستهدف الرأي العام المحلي والقوات المسلحة.
على سبيل المثال، كانت تهديدات السادات بالحرب بعد عام 1971 تُرى على أنَّها موجهة ليس فقط إلى إسرائيل والساحة الدولية، بل وأيضًا لاسترضاء الرأي العام المصري في ظل غياب أي عمل عسكري حقيقي.
وعلى نحو مماثل، اعتبرت “أمان” أنَّ المناورات المكثفة التي أجرتها حماس لمحاكاة غزو واسع النطاق للحدود قبل السابع من أكتوبر، والتي كانت مرئية وحتى مصورة بالتلفاز، تهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على الاستعداد العملياتي والجاهزية الجهادية داخل وحداتها القتالية.
وهناك تفسير آخر لحشد قوات العدو ونشرها على طول الحدود وهو أنَّ العدو يخشى أن نهاجمه، فيضع قواته في وضع دفاعي. ومرة أخرى، هذا هو ما اعتقده ستالين جزئيًّا فيما يتصل بالانتشار الألماني في عام 1941.
وعلى النقيض من نظريات المؤامرة التي ظهرت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لم يكن لدى ستالين أي نية لمهاجمة ألمانيا، حتى لو كانت الخطط العملياتية للجيش الأحمر هجومية.
لقد كان ستالين يخشى بشدة من قوة هتلر وألمانيا، وكان يأمل في كسب الوقت للسماح للجيش الأحمر بالتعافي من الأضرار التي لحقت به نتيجة لعمليات التطهير التي طالت صفوفه في الفترة 1937-1938.
وفي الأشهر التي سبقت الحرب، زاد ستالين من شحنات المواد الخام السوفييتية إلى ألمانيا ومنع أي إجراءات يمكن للألمان أن يفسروها على أنَّها استفزاز أو تشير إلى نية سوفييتية هجومية، بما في ذلك الدوريات البرية والجوية عبر الحدود.
وكما هو معروف، عزت “أمان” تركيز القوات السورية في مرتفعات الجولان في عام 1973 إلى مخاوف سوريا من هجوم إسرائيلي في أعقاب المعركة الجوية التي وقعت في 13 سبتمبر، والتي أسقطت فيها القوات الجوية الإسرائيلية 12 طائرة حربية سورية.
وحتى بعد تلقي تحذيرات من حرب وشيكة على الجبهة المصرية في يوم الغفران، لم تُنقل القوات المدرعة الإسرائيلية إلى محطات متقدمة إلا بعد فوات الأوان، خوفًا من أن يفسر المصريون هذه الخطوة على أنَّها استعداد لهجوم إسرائيلي.
إنَّ هناك طريقة أخرى لإخفاء النية وراء نشر القوات لشن هجوم، وهي إخفاؤها في هيئة تدريبات.
ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا في عام 1968، والذي قُدم على أنَّه مجرد تدريبات لحلف وارسو. وعلى الرغم من إدراك الاستخبارات الإسرائيلية لهذه السابقة، فقد فسرت الحشد المصري الضخم للقوات على طول قناة السويس على أنَّه تدريب يتسق مع الروتين المصري لسنوات عديدة.
…
يتبع
_______________