يزيد صايغ
اقتصاد الظل: المنافسة والتواطؤ
عادةً مايكون الفساد أكثر وضوحاً في الشرطة التي يتفاعل الجمهور معها بصورة أكثر شيوعاً، لكنه يمتدّ إلى فروع أخرى وإلى الأجهزة الأمنية، وغالباً مايخلق فرصاً أكبر للحصول على دخل غير مشروع.
إحدى أهم نتائج التحولات في الدول العربية، وأكثرها ضرراً في كثير من النواحي، هي توسّع اقتصاد السوق السوداء وما يرتبط به من ازدياد التنافس والتواطؤ بين أجهزة الدولة، من جهة، والجماعات الإجرامية أو الجماعات المسلّحة والميليشيات، من جهة أخرى.
وسواء حدث هذا بالقوة كما هو الحال في العراق أو بصورة سلمية نسبياً كما هو الحال في تونس، فقد أحدث الانتقال السياسي سيولة كبيرة في الاقتصادات الوطنية والعلاقات الاجتماعية، وطمس الحدود بين الفعاليات الاقتصادية والإدارية والأمنية الرسمية وغير الرسمية.
كانت النتيجة التي ترتبت على ذلك هي حدوث “تكامل أفقي لشبكات السرقة” كما عبّرت عنها تشايس، شمل القطاعين العام والخاص والجماعات الإجرامية والميليشيات، ما أضفى شرعية بصورة ضمنية على الجريمة.
ولأن تواطؤ قطاع الأمن في الاقتصاد الخفي يوسّع دائرة المستفيدين ويوقع مصالحهم في شراكه، فإنه يضيف عقبة أخرى أمام الإصلاح.
في العديد من الحالات، أحدث الانتقال بدايةً فراغاً أمنياً استغلته الجماعات الإجرامية المنظّمة لتوسيع أنشطتها. في مصر، على سبيل المثال، انخرطت العصابات الإجرامية في أعمال الابتزاز والاتجار والدعارة من دون عقاب.
والواقع أنه خلال الفترة الطويلة التي طبقت فيها الشرطة الغاضبة تباطؤاً فعلياً في أداء عملها، تم نصح المواطنين الذين يلتمسون الحماية من الهجمات على أشخاصهم أو ممتلكاتهم إما بتوظيف البلطجية سيئي السمعة في مصر لاستعادة حقوقهم بالقوة أو رشوة مهاجميهم واللصوص.
وفي اليمن، غيّرت بعض اللجان الشعبية التي وفّرت الخدمات الأمنية الأساسية في جنوب البلاد بعد العام 2011، ولاءها من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب إلى الحكومة في العام 2012 بعد اختلافها مع القاعدة على حصتها من الرسوم المتحصلة من التجارة المحلية والمواطنين أو من غنائم الحرب الأخرى. ومع ذلك، كانت معارضة وحشية تنظيم “أنصار الشريعة” التابع لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب العامل الرئيس في ذلك التغيير بالنسبة إلى معظم أعضاء اللجان.
عادةً مايكون الفساد أكثر وضوحاً في الشرطة، لكنه يمتدّ إلى فروع أخرى وإلى الأجهزة الأمنية، وغالباً مايخلق فرصاً أكبر للحصول على دخل غير مشروع.
كما أصبحت الاقتصادات السوداء إقليمية عندما وسّعت الجماعات الإجرامية والمسلّحة شبكاتها وعملياتها عبر الحدود الوطنية.
أصبحت ليبيا سيئة السمعة بخاصة بعد العام 2011 باعتبارها المصدر الرئيس لتدفّق الأسلحة غير المشروعة ونقطة عبور للهجرة والاتجار بالبشر، ماتسبّب مراراً في حصول اشتباكات بين الجماعات القبلية والإثنية بهدف السيطرة على المعابر الحدودية، في الجنوب على وجه الخصوص.
وكان قطاع الأمن في تونس المجاورة حصل بالفعل على “وظيفة اقتصادية” في ظل حكم بن علي في التسعينيات، كما أوضحت الباحثة التونسية ألفة لملوم، ماورّطه في “تنظيم أنشطة غير قانونية وأشكال أخرى من استخدام الأموال لغير الغرض المخصص لها والابتزاز“.
بعد العام 2011، تلبّس قطاع الأمن هذه الممارسات أكثر، حيث أتاح الازدهار السريع لاقتصاد المناطق الحدودية غير الرسمي وانهيار المراقبة من جانب الأجهزة الحكومية، فرصاً واسعة جدّاً للحصول على الدخل غير المشروع، وشجّع على ظهور عدد كبير من الفصائل المتنافسة وجماعات المصالح في وزارة الداخلية.
بدوره، أثّر النمو السريع للاقتصادات العابرة للحدود على المجتمعات المحلية، وفصلها عن الاقتصاد الرسمي والمراكز الإدارية في العواصم الوطنية، وأعاد توجيهها نحو الأسواق الخارجية والأطراف الفاعلة السياسية الأخرى.
وتبيّن منطقة الحدود المشتركة بين العراق وسورية هذا الأمر بصورة أكثر وضوحاً: ففي الفترة 1990-2003، عندما فُرِضَت العقوبات الدولية على العراق، أصبح التهريب ركناً اقتصادياً بالنسبة إلى محافظات مثل الأنبار، ووحّد العشائر على جانبي الحدود السورية، ووفّر في نهاية المطاف ملاذاً آمناً مكّن الدولة الإسلامية في العراق والشام (التي أعلنت تحوّلها إلى الدولة الإسلامية في العام 2014)، من إعادة بناء نفسها في الفترة 2008-2013.
يكشف نموذج العراق عن الدور الذي تضطلع به أجهزة الدولة بنشاط في ظهور الاقتصادات السوداء وتطوّرها لاحقاً. فقد شجّع نظام الرئيس آنذاك، صدام حسين، على انخراط العشائر العراقية على نطاق واسع في التهريب كجزء من استراتيجيته في خرق نظام العقوبات.
وبعد إزاحته في العام 2003، حملت العشائر نفسها السلاح في أماكن مثل الفلوجة عندما سعت قوات الاحتلال الأميركية إلى إغلاق الحدود لمنع تدفق المتمرّدين والأسلحة.
كما أصبحت الاقتصادات السوداء إقليمية عندما وسّعت الجماعات الإجرامية والمسلّحة شبكاتها وعملياتها عبر الحدود الوطنية.
ويُظهر النموذج السوري أن التكافل بين أجهزة الدولة والميليشيات قد يتغيّر من تقاربٍ براغماتي للمصالح، وإن كان محدوداً أو مؤقتاً نسبياً، إلى آخر أكثر منهجية وتواصلاً.
وقد أظهرت سورية تبعية للمسار مماثلة لتبعية العراق، لأن اقتصاد الحرب الذي ظهر بعد العام 2011 استفاد بصورة مباشرة من أنماط ماقبل الأزمة.
وخلال السنوات العشر أو أكثر التي سبقت الأزمة السورية، مَنحت الأجهزة الأمنية امتيازات فعلية لعصابات التهريب المفضلة، بينما انتزعت حصصاً بالقوة أيضاً في المجالات المشروعة التي كانت تدرّ أرباحاً سريعة أو حجم مبيعات مرتفعاً، مثل الهواتف المحمولة.
وقد تطوّرت العديد من الشبكات المتورّطة لتصبح ميليشيات مسلّحة من كلا الجانبين في الصراع الذي اندلع لاحقاً، فيما تحوّلت إلى محركات رئيسة لاقتصاد الحرب إلى جانب الأجهزة الأمنية.
وبالمثل، عندما وجدت الحكومة الانتقالية الليبية نفسها عاجزة عن تزويد “حرس المنشآت النفطية” بما يكفي من الرجال والمعدّات لحماية حقول ومنشآت النفط في البلاد في العام 2013، تعاقدت بدلاً من ذلك مع الميليشيات المحلية للقيام بهذه المهمة.
وبموازاة ذلك، تطورت سوق الحماية حيث دفعت الشركات المحلية أو الهيئات المدنية الرشاوى للميليشيات، مع أن الكثير منها كان يتقاضى رواتب من الدولة.
في العراق، طالبت ميليشيا الحشد الشعبي، التي ظهرت في العام 2014 وحصلت لاحقاً على تمويل حكومي، بأن تتولى إدارة ميزانيتها وتصرف رواتب مقاتليها بالطريقة التي تراها مناسبة.
وفي الآونة الأخيرة، في أوائل العام 2016، بدأ رجال مسلحون يرتدون الزي الرسمي في بغداد ومدن أخرى بجمع التبرعات باسم قوات الحشد الشعبي من دون إذن.
وكما تظهر التجربة الجزائرية في التسعينيات، فإن الميليشيات التي ترعاها الدولة التي تشكّلت بهدف خوض الحروب الداخلية أو مكافحة التمرّد تحصل على مصالح اقتصادية تصبح بعد ذلك متجذّرة. ومن ثم فإن هذا يشجّع المستفيدين في قطاع الأمن والمجتمعات المحلية التي تتم تعبئتها في حملات مكافحة التمرّد على مقاومة التغيير بأي ثمن.
ضبط النظام الاجتماعي والاقتصاد العادل
في كثيرٍ من الأحيان، ركّزت الحكومات الغربية والمؤيدون المحلّيون لإصلاح قطاع الأمن على إعادة الهيكلة، ورفع مستوى التدريب والتجهيز، وإدخال نظم الإدارة والمهارات الحديثة في القطاعات الأمنية التي ارتكبت انتهاكات في الماضي، أو انهارت نتيجة الصراع المسلّح أو العمليات الانتقالية موضع النزاع.
غير أن ذلك يغفل نقطة أساسية: الأمر يتعلق بضبط الأمن كمفهوم تم تقويضه بصورة أساسية في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية (أو تقاومها)، وليس بمجرّد إصلاح أجهزة شرطة أو أمن داخلي فردية.
ويكشف التركيز على تطوير القدرة العملية ووضع الحلول الفنية عن سوء فهم معياري، مفاده أن ضبط الأمن معنيٌّ في المقام الأول بمكافحة الجريمة والتهديدات العلنية للقانون والنظام العام.
بدلاً من ذلك، تضطلع الشرطة بما وصفته خبيرة إصلاح قانون العقوبات أنيتا دوكلي “دوراً أكثر جوهرية في حفظ السلام” في المجتمع، وتساعد في تكوين النظام الاجتماعي السائد والحفاظ عليه وتوسيع نفوذ الدولة.
الأمر يتعلق بضبط الأمن كمفهوم تم تقويضه بصورة أساسية في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية (أو تقاومها)، وليس بمجرّد إصلاح أجهزة شرطة أو أمن داخلي فردية.
نتيجةً لذلك، عندما تتعرّض سلطة الدولة والنظام الاجتماعي إلى التحدّي أو تنهار، تتعطّل الترتيبات الرسمية وغير الرسمية التي عزّز من خلالها ضبطُ الأمن في السابق التعايشَ الصعب بين المفاهيم المتباينة للنظام الاجتماعي والاقتصاد العادل، في التنافس والتعاون مع مختلف الفعاليات الاجتماعية.
وفي بيئة كهذه يصبح الخلاف على طبيعة وغرض ضبط الأمن أمراً محتوماً.
غير أنه من المستبعد أن يتم استبدال السلطة والنظام بطريقة سهلة أو تلقائية بالمفاهيم الليبرالية للحقوق الفردية والصالح العام.
بدلاً من ذلك، وكما تثبت أيضاً الدول العربية التي لاتمرّ في مراحل انتقالية، مثل المملكة العربية السعودية، فإن القطاعات الأمنية التي تعتمد التدريب والمعدات الغربية الحديثة وتظهر مستويات مهنية جديرة بالثناء بمعنى فنّي أو إجرائي ضيق، قد تكون مصمَّمَة في الواقع للحفاظ على أنماط حُكم إقصائية من الناحية الاجتماعية وسلطوية من الناحية السياسية.
…
يتبع
***
يزيد صايغ ـ باحث رئيسي, مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
______________