يوسف لطفي
سابعا: جذور الأزمة وأقطاب الثورة
خرجت قوى الثورة العسكرية من المعركة مع النظام أكثر قوة بعد استيلائها على ترسانة أسلحة القذافي الضخمة. وكانت كمية السلاح الأكبر من نصيب مدن المنطقة الغربية التي حظيت بالنصيب الأكبر من القتال ضد النظام وخصوصا مصراتة والزنتان.
ولعبت الكثافة السكانية وتركز جزء كبير من ترسانة النظام بمناطق محاذية لهذه المدن دورا كبيرا في هذا. ونظرا لتهلهل المؤسسات العسكرية والأمنية في عهد القذافي تولت هذه الكتائب مهام الأمن والعسكرة فور انتهاء الحرب.
وبطبيعة الحال تضخم عدد التشكيلات العسكرية فور انتهاء الحرب وبرزت تشكيلات وشخصيات لم تشارك بشكل فعال أو لم تشارك مطلقا في الحرب التي استمرت 8 أشهر وقُدر عدد “الثوار” المسجلين رسميا بأكثر من 200 ألف بينما لم يتجاوز العدد الحقيقي على امتداد مراحل الثورة 30 ألفَ مقاتلٍ في كل أنحاء البلاد.
شكل هذا التضخم الغطاء المناسب لأزلام النظام السابق والمناطق الموالية لهم لإعادة إنتاج أنفسهم وتسليح مناطقهم وقبائلهم عبر الانضمام لهذه الكتائب وتشكيل تكتلات قوية داخلها. وقد سهل هذا كون هذه الكتائب مناطقية بالدرجة الأولى نتيجة عوامل عدة كالآتي :
-
التركيبة الاجتماعية للبلاد، فالهوية القبلية تلعب دورا مهما في المجتمع الليبي.
-
مسار الأحداث في الثورة، فالتشكيلات العسكرية تأسست على أساس الدفاع عن مدنها ومناطقها.
-
السياسات المتبعة من قبل النظام السابق في تغذية النزعة المناطقية والقبلية باللعب على وتر الصراعات التاريخية وتناقض المصالح بين القبائل والأقاليم.
أشعلت هذه النزعة بالإضافة للجرائم التي ارتكبتها قبائل موالية للنظام خلال الثورة فتيل الصراعات المحلية بين المناطق، وكان لها بمعية الدعم الخارجي الدور الأهم والأكبر في تشكيل خارطة التحالفات في المراحل القادمة.
وبالرغم من أن الاستقطاب الأيديولوجي والمصالح الحزبية لعبت دورا مهما في تشكيل المشهد أيضا إلا أنها كانت ثانوية في المراحل الأولى.
كحال المؤسسة الأمنية والعسكرية كان القضاء مؤسسة ضعيفة وغير موثوقة عند
الليبيين مما جعل من عملية أخذ الحقوق بقوة السلاح ورد المظالم حالة سائدة.
فتصاعدت أعمال العنف والانتقام التي جاء معظمها على شكل حوادث اغتيال لأعضاء اللجان الثورية وعساكر النظام السابق وضباط الأمن الداخلي وكان أبرزها حادثة اغتيال وزير الداخلية السابق عبد الفتاح يونس العبيدي والتي تبعها حوادث عنف وانتقام كان أبرزها اقتحام مسلحين لمبنى وزارة الداخلية لتحرير أحد المتهمين باغتياله كما تبع ذلك صدام بين تشكيلات من ثوار بنغازي وقبيلة العبيدات التي هددت بإغلاق النفط والطرقات ردا على اغتيال عبدالفتاح العبيدي.
انتشار السلاح في ظل المظالم المتراكمة عبر عقود وغياب مؤسسات الأمن والقضاء أدى إلى إنتاج ظروف غير مستقرة في البلاد، وسرَّع من الصدام بين قوى الثورة والكتائب والشخصيات المنشقة عن النظام خصوصا في شرق البلاد الذي تحرر في مدة وجيزة ولم يحظ بفرصة لغربلة صفوفه لاندماج مكونات المنطقة في وعاء الثورة.
انهالت التوصيات الدولية على المجلس الانتقالي بضرورة جمع السلاح وتفكيك ميلشيات الثوار ودمجها تحت قيادة “الجيش” قبل أن تتوغل في مفاصل الدولة وتدخل خط العمل السياسي محملة بهذا الكم الهائل من السلاح، إلا أن هذا كان مستحيلا لعدة أسباب منها:
-
غياب ثقة الثوار في تمثيلهم السياسي.
-
التنافس القبلي والمناطقي على الريادة والمكاسب –والذي تحول لاحقا لنزاعات مسلحة وفرت غطاء لنزاعات أخرى.
-
التخوف من عودة أزلام النظام السابق بثوب الثورة على رأس الأجهزة الأمنية والعسكرية.
-
تمسك الثوار بالمكاسب المادية والسياسية التي حققوها حيث كانوا على يقين من ضياعها فور تسليمهم السلاح أو حل كتائبهم.
-
تمسك الثوار بمطالبهم بتصفية الجيش من الرتب العليا وأزلام النظام.
في ظل هذه الأجواء المشحونة بالقلق من كل هذه القضايا العالقة (عودة الأزلام، التنافس القبلي المناطقي، غياب الثقة في التمثيل السياسي، تضخم الكتل الثورية) وفي ظل غياب قضاء يضمن الحقوق ويرد المظالم، وغياب مؤسسات عسكرية وأمنية راسخة قادرة على استيعاب كتائب الثوار، وغياب أي تطمينات للقوى على الأرض بدأت معركة استقطاب التحالفات بين القوى العسكرية والسياسية تتبلور وبالأخص بعد انتخابات المؤتمر الوطني التي أجريت في منتصف 2012.
فظهر قطبان في المشهد، قطب التيار الإسلامي والتيار الثوري. وكانت كتائب ثوار مصراتة والزاوية ومعظم ثوار بنغازي الطرف الأبرز في هذا الحلف.
وقطب حلف المهمشين –إن صح التعبير– المكون من بعض الليبراليين والعسكريين وبعض القبائل والمدن التي تضررت وفقدت امتيازاتها بسقوط النظام وتغير موازين القوى بعد الثورة.
وقد نجح هذا التحالف في استقطاب كتائب ثوار الزنتان وتشكيل كتائب مكونة في معظمها من عناصر من النظام السابق تحت غطاء القبيلة لتكون ممثله على الأرض.
وبدأ الصراع بين الطرفين ومحاولات بسط النفوذ على المرافق الاستراتيجية والمؤسسات السيادية مبكرا خصوصا في المنطقة الغربية حيث يوجد أكبر تجمع للقوى العسكرية، وحيث العاصمة طرابلس التي ضمت المؤسسات والمرافق المهمة.
ثامنًا: الإسلاميون ودورهم في المشهد
لطالما كان الإسلاميون محركا قويا للأحداث في البلاد، ومع بداية الثورة برزوا كفاعل مهم على الساحة العسكرية والسياسية منذ الأيام الأولى، ولعب رجاله دورا مهما في العمل العسكري على الجبهتين الشرقية والغربية فبرزت شخصيات عسكرية كـ:
-
محمد المدني من الزنتان،
-
ومفتاح الذوادي وعبدالمنعم المدهوني من صبراتة،
-
وعبد الحكيم الحصادي وسالم دربي من درنة،
-
وفوزي بوكتف وعبد الجواد البدين وإسماعيل الصلابي ومحمد الغرابي من بنغازي،
-
وعبد الحكيم بالحاج ومهدي الحاراتي وخالد الشريف من طرابلس،
-
وعبد الوهاب القايد وأحمد الحسناوي وجبريل البابا من الجنوب،
-
ومحمد الكيلاني وشعبان هدية من الزاوية،
وغيرهم الكثير من مختلف مناطق ليبيا ممن لا يسع المقام لذكرهم.
وكل هؤلاء نشطوا في مقاومة نظام القذافي، أما في المشهد السياسي فكان التمثيل الأبرز لحزب جماعة الإخوان (حزب العدالة والبناء) بعدد 17 مقعدا في المؤتمر الوطني من أصل 80 مقعدا مخصصة للأحزاب و17 مقعدا من أصل 120 خصصت للمستقلين.
وحظيت بقية الأحزاب الإسلامية كحزب الوطن وحزب الرسالة وحزب الأصالة وحزب الأمة وحزب الإصلاح والتنمية بإجمالي 27 مقعدا من أصل 200، حيث شكلت مقاعد الزاوية ،طرابلس ،بنغازي النسبة الأكبر فيها .
ورغم قلة عدد المقاعد (61 مقعدا من أصل 200) إلا أن الإسلاميين كان لهم الحضور الأقوى سياسيا لأسباب عدة أهمها:
-
حضورهم القوي في الثورة .
-
التحالف مع أهم قوى الثورة.
-
انتماءات أعضائهم لمناطق ومدن ثورية.
-
تمتعهم بتمثيل عسكري قوي على الأرض .
-
تخبط الكتلة البرلمانية للخصم السياسي الأبرز ( تحالف القوى الوطنية).
حضور الإسلاميين القوي على الساحتين السياسية والعسكرية لم يقابله حضور ليبرالي بنفس القوة فعلى الصعيد السياسي لم يكن “حزب” تحالف القوى الوطنية” الذي تزعمه الليبرالي محمود جبريل والذي حظي بـ 64 مقعدا من إجمالي 200 مقعد حزبًا ليبراليًّا بالمفهوم الصحيح فقد كان “الحزب” تحالفا يضم مجموعة من الشخصيات المحلية ذات الشعبية ورجال الأعمال ورجال النظام السابق مثل:
-
سفير ليبيا السابق بإيطاليا حافظ قدور –الذي ظل مواليا للنظام حتى وقت متأخر من الثورة ووصف نفسه في مكالمة مسربة مع السنوسي بأنه مخلص للنظام.
-
عبد الرحمن شلقم الذي شغل مناصب عدة في حقبة القذافي انتهاءً بتعيينه مندوبا لليبيا في الأمم المتحدة.
-
رجل الأعمال عبد المجيد مليقطة من الزنتان الذي كان على علاقة بالنظام قبل أن يؤسس كتيبة القعقاع في الثورة, وكانت له قنوات تواصل مع دولة الإمارات في مرحلة مبكرة.
-
رجل الأعمال إسماعيل اشتيوي المقيم بدولة الإمارات، والذي زود حفتر لاحقا بمدرعات إماراتية في حرب بنغازي.
-
رجل الأعمال جمعة الأسطى –عضو سابق في اللجان الثورية– مالك قناة العاصمة كما دعم الحزب رجل الأعمال الشهير حسن طاطناكي صاحب قناة ليبيا أولا –المشهور بعدائه للإسلاميين.
…
يتبع
___________________