يزيد صايغ

العنف كعملة سياسية

إلى جانب هذه الصراعات في النظم السياسية، دفع تآكل الأمن الأساسي والعقود الاجتماعية الأطراف الفاعلة على أنواعها الجهوية أو الطائفية أو الإثنية أو القبلية إلى القيام بعملية تعبئة مضادّة.

وقد شمل ذلك في كثير من الأحيان حمل السلاح وتحدّي سلطة الدولة مباشرة. وفي الوقت نفسه، سهّل اتّساع رقعة التصدّعات في مؤسّسات الدولة تشكيل هياكل أمنية موازية، وضاعف احتمالات وقوع أعمال العنف. وقد امتدّت ثقافة الإفلات من العقاب المتأصّلة في الأجهزة الأمنية الرسمية بسهولة إلى الأطراف المسلّحة غير الرسمية، التي إمّا كانت موجودة قبل عمليات الانتقال أو ظهرت في أعقابها، وأعادت إنتاج اللجوء إلى العنف والإكراه والقمع.

وقد بات عكس هذه الديناميكيات ووقف الابتعاد عن المركز، من أصعب التحدّيات التي برزت في أعقاب الربيع العربي، كما حدث في حالات الانتقال السابقة في مرحلة مابعد الصراع في الجزائر والعراق ولبنان والسلطة الفلسطينية

كانت هذه الاتجاهات واضحة جدّاً في ليبيا، حيث كانت الديناميكيات السياسية في أوساط العدد الكبير من الميليشيات، التي ظهرت بعد الانتفاضة ولدى فلول القوى الحكومية أو الهياكل الأمنية الهجينة والمجالس البلدية معقّدة للغاية.

وهذا يعكس المصالح الاجتماعية ذات الطابع المحلي جدّاً التي تُمثِّلها تلك القوى والهيئات والمستوى المنخفض من قدرة المؤسّسات الرسمية والأطر القانونية على ممارسة وظائفها الأساسية، والتي تختلف، علاوةً على ذلك، بصورة ملحوظة من منطقة إلى أخرى.

وحتى بعد أن أنتجت الانتخابات البرلمانية التي جرت في تموز/يوليو 2012 بنجاح المؤتمر الوطني العام، فقد طغى على المؤتمر أيضاً التنافس المتزايد بين المعسكرين الإسلامي والعلماني؛ ومسلسل اغتيالات الضباط والمسؤولين من عهد الزعيم الليبي معمر القذافي؛ والاستياء وعدم الثقة المتبادلَين بين فلول الجيش وقطاع الأمن من جهة والميليشيات الثورية من جهة أخرى.

دفع تآكل الأمن الأساسي والعقود الاجتماعية الأطراف الفاعلة على أنواعها إلى القيام بعملية تعبئة مضادّة. وقد شمل ذلك في كثير من الأحيان حمل السلاح وتحدّي سلطة الدولة مباشرة.

كانت مركزية عملية الإكراه كعامل في تشكيل السياسة الانتقالية، واضحة أيضاً في معظم الحالات الأخرى.

ففي اليمن، عُقِد مؤتمر الحوار الوطني بين أذار/مارس 2013 وكانون الثاني/يناير 2014 في ظل عملية إعادة تجميع عسكرية كانت تلوح في الأفق لشبكات الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح في القوات المسلّحة، وحشد تعبئة لدى أنصار الله (الجماعة المتمرّدة الزيدية المعروفة باسم الحوثيين الذين يقاتلون الحكومة المركزية منذ العام 2004)، وتهديد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب المتجسد في سلسلة طويلة من عمليات اغتيال لمسؤولين أمنيين.

وفي سورية، حيث تم إفراغ هياكل الدولة إلى حدّ كبير منذ بداية الأزمة في العام 2011، أصبح نظام الرئيس بشار الأسد يعتمد على الميليشيات التي ترعاها الدولة والشبكات الاقتصادية الوكيلة، مثلما فعلت جماعات المعارضة المختلفة

وقد ساهمت الفوارق الجَهوية أيضاً في ظهور وصمود الجهات المسلّحة غير الدُّولتية، وغالباً ماتزامن هذا مع المظالم والتعبئة الطائفية. ويبدو هذا واضحاً بالتأكيد في ليبيا، حيث إن الحركة الفيدرالية التي تدعم الحكم الذاتي لبرقة قوية في الشرق، فيما تسعى الأقلية الأمازيغية إلى الحصول على مزيد من الحكم الذاتي في أقصى الغرب.

كما تحرّض مختلف العداوات العرب وغير العرب والقبليين وغير القبليين وفلول نظام القذافي في الوسط والجنوب، ضدّ بعضهم البعض. والأمر نفسه ينطبق على سورية أيضاً، حيث رسمت الحرب الأهلية مناطق طائفية وإثنية وعشائرية واضحة نسبياً، يهيمن عليها العلويون في المنطقة الساحلية، والأكراد على الحدود الشمالية مع تركيا، والعشائر في الشمال الشرقي، والدروز على الحدود الجنوبية مع الأردن، وجيوب سنّية متعدّدة ومتنافسة تنتشر في جميع أنحاء البلاد.

وفي اليمن، اقتطعت الحركة الحوثية، وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وأنصار الرئيس عبد ربه منصور هادي، والانفصاليون الجنوبيون، بالقوة مناطق سيطرة متناحرة.

الشرعية ومكافحة الإرهاب

شهدت مطالبة المواطنين بإصلاح قطاع الأمن انحساراً حادّاً في معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية. ويبدو هذا أمراً مخالفاً للمنطق، لأن أداء قطاعات الأمن فيها لم يتحسّن حتى بصورة هامشية.

إلا أن ذلك يشكّل استجابة طبيعية لتنامي مدركات التهديد بين المواطنين، في مواجهة ظاهرة الارتفاع الواضح في معدّلات الجريمة (بما في ذلك جرائم العنف، التي كانت منخفضة على مدى عقود في البلدان العربية مقارنةً مع مناطق أخرى من العالم)، وانتشار الجماعات المسلّحة وزيادة الإرهاب، وعدم اليقين بشأن المستقبل السياسي والاقتصادي.

هذه الاتجاهات المُقلِقة تطرح إصلاح قطاع الأمن كضرورة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، لكنها أيضاً تجعل الإصلاح يبدو منفّراً وبغير وقته بالنسبة إلى عامّة المواطنين.

شهدت مطالبة المواطنين بإصلاح قطاع الأمن انحساراً حادّاً في معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية

ينظر المواطنون العرب، أكثر فأكثر، إلى الخيار السياسي الماثل أمامهم باعتباره ينحصر بين الديمقراطية والاستقرار. وبالنسبة إلى الكثيرين، لاتتأتّى شرعية الحكم من تعميق التحوُّل الديمقراطي وضمان احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، بل من إثبات الفعالية في قمع مصادر التهديد الملموسة.

وكما تبيّن بوضوح في مصر منذ إطاحة حكم الإخوان المسلمين في تموز/يوليو 2013، فإن ذلك ربما يمتدّ ليشمل مطالب بإقصاء قطاعات اجتماعية وسياسية برمّتها يُنظر إليها على أنها معادية بطبيعتها، وأحياناً حتى التخلّص منها كليّاً.

وقد أثّرت ديناميكية استقطابية مشابهة في العراق ولبنان وتونس لاطريقة نفسها، ولكن أقل بكثير في الجزائر، حيث سعى صنّاع القرار إلى إشراك جزء كبير من الطيف الإسلامي سياسياً كوسيلة لضمان الاستقرار.

علاوةً على ذلك، تتقاطع هذه الاتجاهات بسهولة مع الانقسامات الطائفية أو القبلية أو الإثنية أو الجهوية، التي تجعل من السهل تصوير الآخرين على أنّهم يمثّلون تهديدات جماعية.

الأهم من ذلك هو أن الاتجاهات تتزامن مع الانقسامات الطبقية في البلدان التي تعاني من نمو هائل في الطبقة الدنيا المهمّشة سياسياً واقتصادياً، أي الأعداد الكبيرة من الناس الذين يعيشون عند أو تحت خط الفقر، وغالباً في مساكن غير قانونية أو غير مسجّلة، في ظل محدودية أو عدم وجود الخدمات العامة والبنية التحتية، والذين يشكلون الاقتصاد غير الرسمي.

وقد سبق أن تم استهداف هذا القطاع الاجتماعي الواسع بعمليات ضبط أمن قمعية لعقود من الزمن رداً على المعارضة الاجتماعية والاقتصادية، ولكن في دول عربية عدّة تمرّ في مراحل انتقالية، بات يُنظر إلى القطاع أكثر فأكثر باعتباره بيئة داعمة للتطرّف الإسلامي

وفّرت الحملة الآخذة بالتوسُّع ضد الإرهاب في أنحاء المنطقة إطاراً معيارياً شاملاً للسياسة العامة. فالنخب الحاكمة التي تقود دولها الآن تستغل مواقعها الرسمية لإضفاء الشرعية على سياسات الأمن الصدامية والقمع الوحشي للمعارضة، كما فعل الائتلاف الفضفاض الذي حكم مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ تموز/يوليو 2013، ونظام الرئيس السوري بشار الأسد.

علاوةً على ذلك، تمسّكت عناصر النظام القديم القوية وفلول شبكات السياسيين ورجال الأعمال والنخب البيروقراطية في هاتين الدولتين، كما في معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، بالخطاب الرسمي الذي يركّز على حفظ القانون والنظام العام ومكافحة الإرهاب.

وينطبق ذلك حتى على تونس، حيث أعطى حزب نداء تونس، الذي فاز في الانتخابات العامة التي أجريت في تشرين الأول/أكتوبر 2014 ويرأسه الباجي قائد السبسي (وهو سياسي من عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي)، إشارة الموافقة على تشكيل ائتلاف ضم حركة النهضة الإسلامية المعتدلة إلى حكومة الوحدة الوطنية الجديدة.

وعلى الرغم من ذلك، تبنّى قطاع الأمن التونسي خطاباً يرتكز على مكافحة الإرهاب لالتبرير معارضته للإصلاح وإعادة الهيكلة وحسب، بل أيضاً لتبرير معارضته لإشراف الحكومة عليه.

إن تجدّد ظاهرة إفلات قطاعات الأمن التي لم تتم إعادة هيكلتها من العقاب، صار يعني العودة إلى ممارسات الماضي السيّئة.

ولسوء الحظ، فإن تجدّد ظاهرة إفلات قطاعات الأمن التي لم تتم إعادة هيكلتها من العقاب، صار يعني العودة إلى ممارسات الماضي السيّئة، وبقدر أقل من الرقابة السياسية أو القضائية مما كان عليه الحال في السابق.

وفي موازاة ذلك، استعادت الحكومات، أو أصدرت، قوانين استبدادية ورجعية تؤثّر على حرية الصحافة ووسائل الإعلام الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية وعلى الحق العام في الاحتجاج والتظاهر. وحتى عندما لم تتعرّض إلى التخويف أو الاستلحاق، إلا أن قطاعات القضاء المُنهَكة بالعمل والتي تعاني من نقص التمويل، لم تتمكن من موازنة أو التخفيف من وطأة هذا الاتجاه، ولاتزال في حاجة ماسّة إلى إعادة التأهيل

الاقتصاد السياسي لضبط الأمن

تقلّل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن، أو تتجاهل بصورة مطّردة، أهمية نتائجه المالية الكاملة وآثاره الاجتماعية والاقتصادية. وتشمل هذه النتائج الاستثمارات الضخمة اللازمة لتطوير الطابع المهني لقطاع الأمن؛ والآثار الاجتماعية والاقتصادية للحد من تضخم التوظيف في قطاع الأمن؛ ومقاومة شبكات قطاع الأمن المستحكمة بعمق، لضياع فرص تحقيق مكاسب غير مشروعة من خلال الفساد ووقف الأنشطة الاقتصادية المربحة ولكن غير الشرعية.

وتركّز الردود التقليدية على التدريب الفنّي والإداري وإدخال قواعد الشفافية والرقابة، إلا أنها تتجاهل حقيقة أن الحكّام المُستبدّين والأنظمة السلطوية استخدمت التوظيف الفائض، وتسامحت مع الفساد في قطاع الأمن عمداً كوسيلة لاستلحاق القطاع، والتعويض عن نقص الاستثمار السياسي والمالي في مسألة إضفاء الطابع المهني عليه ورفع كفاءته.

يتبع

***

يزيد صايغ ـ باحث رئيسي, مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

______________

مركز كارنيغي للشرق الأوسط

مقالات