يزيد صايغ

ثلاث معضلات

تعقّدت عملية إصلاح قطاع الأمن في الدول العربية بما لايقاس، بسبب إرث تلك الدول من الحكم الاستبدادي أو القائم على المحسوبية، وأيضاً بسبب النخب التي لاتخدم إلّا نفسها، وجماعات المصالح الاقتصادية ذات الامتيازات، والمؤسّسات العامة المختلّة وظيفياً أو المتدهورة.

فقد طوّرت الأنظمة الاستبدادية في العقود السابقة للربيع العربي منظومات حكم جذبت معظم الأطراف والشبكات الفاعلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى فلكها، مادفعها إلى التكيُّف معها والتعايش مع متطلّباتها.

وفي موازاة ذلك، قوبِلت الأعداد المتزايدة من السكان من ذوي الدخل المنخفض وفي المناطق النائية، الذين تم تهميشهم بسبب برامج التكيّف الهيكلي، واقتصادات الليبرالية الجديدة المَشوبة بالمحسوبية، والخصخصة الجائرة من ثمانينيات القرن الماضي فصاعداً، قوبِلت بالعنف الروتيني ذي الوتيرة المنخفضة من جانب قطاعات الأمن، وكثيراً ماعاقبتهم نظم القضاء الجنائي عندما قاوموها، مادفع الكثير منهم إلى اللجوء بدلاً من ذلك إلى أساليب غير رسمية لضبط الأمن والفصل في المنازعات.

كان هذا واضحاً على وجه الخصوص في بلدان الربيع العربي التي شهدت انتقالاً في نهاية المطاف في مصر وليبيا واليمن، ومع بعض التحفظات في تونسأو محاولة انتقالفي البحرين وسورية.

غير أن اتجاهات وديناميكيات مماثلة، انبثقت أيضاً بدرجات متفاوتة في العمليات الانتقالية (وإن الجزئية) في مرحلة مابعد الصراع والتي حصلت في الجزائر والعراق ولبنان والسلطة الفلسطينية

السيولة الفائقة للمراحل الانتقالية في فترة مابعد الانتفاضة وما بعد الصراع، تجعل مهمة إصلاح قطاع الأمن صعبة للغاية:

فبصرف النظر عن النهج المُتَّبَع تجاهه، يؤثّر الإصلاح على مصالح مروحة متنوّعة من الأطراف الفاعلة، وغالباً بطرق متناقضة. وعلى المنوال نفسه، فإن إصلاح قطاع الأمن بل وتحوّله التام في الواقع هو جزء لايتجزأ من عملية الانتقال الديمقراطي، ويجب أن يجري بالتوازي معها. بيد أن هناك ثلاث معضلات تقف في طريقه.

تتعلّق المعضلة الأولى بالتسييس المُفرَط:

مدى الأهمية السياسية التي يكتسبها كل جانب ومظهر ممكن من مظاهر العملية الانتقالية ليصبح السبب والهدف في نزاع الحصيلة صفر (فيه غالب ومغلوب)، الأمر الذي يؤدّي إلى شلّ الدولة، هذا إن لم يقوّض مفهوم الدولة نفسه.

ذلك أن استعادة قطاع أمن فاعل كلّياً، ناهيك عن إصلاحه، يتطلّب تأسيس مستوى معقول من التوافق المجتمعي حول طبيعته ودوره (جنباً إلى جنب مع القوات المسلّحة) كجهاز قسري رئيس للدولة.

غير أن هذا أمر صعب المنال في سياق السياسة المزدوجة حيث يأخذ الفائز كل شيء ويذهب الخاسر إلى السجن، ويزداد صعوبة عندما تكون طبيعة ودور الدولة نفسها أيضاً موضع نقاش

أدّت السيولة الملحوظة في مرحلة مابعد الصراع والتحوّلات الديمقراطية على مدى العقدين الماضيين، والإرث القوي للسياسة المزدوجة والسياسات الإقصائية، إلى تسييس المناقشات حول قطاع الأمن إلى حدّ كبير.

ونتيجة لذلك، وبسبب تراجع قدرة الدولة واتّساع رقعة الانقسامات الاجتماعية، أصبح العنف، بطريقة ما، أداة للتنافس السياسي بين الأطراف الفاعلة الجَهويّة أو الطائفية أو العرقية أو القبلية

في المقابل، تعتمد الشرعية السياسية لحكومات مابعد المرحلة الانتقالية في الدول القوية بصورة متزايدة على وعودها بتوفير الاستقرار للمواطنين الذين ينظرون إلى ارتفاع معدلات الجريمة والإرهاب والفوضى الاجتماعية باعتبارها هموماً أكثر إلحاحاً من غياب الديمقراطية، أو سيادة القانون أو حقوق الإنسان. وبالتالي، ويذعن هؤلاء المواطنون إلى تجدّد الممارسات الاستبدادية

إن إصلاح قطاع الأمن بل وتحوّله التام في الواقع هو جزء لايتجزأ من عملية الانتقال الديمقراطي، ويجب أن يجري بالتوازي معها. بيد أن هناك ثلاث معضلات تقف في طريقه.

المُعضلة الثانية هي معضلة الاقتصاد السياسي.

ومع أن إنفاذ القانون يعتبر في العادة مصلحة عامة واضحة وخالصة، يبدو الواقع أكثر تعقيداً. فمن ناحية، تتصل هذه المعضلة بتكاليف التحديث والتأهيل المهني لقطاعات الأمن والنتائج المحتملة للإصلاح على الأمن الوظيفي والرعاية الاجتماعية، إذا كان يتطلّب القيام بعمليات تسريح واسعة للموظفين.

من ناحية أخرى، فإن أكثر من عقدَين من عمليات تحرير الاقتصاد المشوَّهة القائمة على المحسوبية، والخصخصة الجائرة في العديد من الدول العربية، حفّزت على ضلوع قطاع الأمن الواسع في الفساد والأنشطة الاقتصادية الإجرامية. وقد عزّزت المرحلة الانتقالية هذه الاتجاهات بصورة كبيرة، ماحوّل عناصر الشرطة وغيرهم من أفراد الأمن إلى مايُسمّى مقاولي عدم الأمان، إذ هم لايفرضون القانون بقدر مايتفاوضون حوله، وغالباً عن طريق الفساد وبيع الحماية.

نتيجةً لهذه الديناميكيات، تتباعد الآراء والتوقعات بشأن الأهداف الرئيسة لضبط الأمن في المجتمع، مايُفضي إلى بروز المعضلة الثالثة. ذلك أن إنفاذ القانون يعني أكثر من مجرّد مكافحة الجريمة أو الحفاظ على السلم العام، إذ هو أساسي للحفاظ على النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد.

وهذا يتصل بالهياكل والقيم التي تضمن أمن الأشخاص والممتلكات وآليات حلّ النزاعات المتعلقة بها. كما يشمل مفاهيم مايشكّل اقتصاداً عادلاً، أي ماتعتبره فئات المواطنين أو المجتمعات المحلية توازناً عادلاً بين حقوقهم والتزامات النخب أو سلطات الدولة أو قوى السوق التي تشكّل حياتهم.

لم يُضعف الانتقال في الدول العربية الآليات الرسمية لضبط الأمن والفصل في المنازعات وحسب، بل جعل أيضاً من الصعب أيضاً الاستمرار في التسويات والمقايضات التي سمحت في السابق للمفاهيم المتباينة للنظام الاجتماعي والاقتصاد العادل بالتعايش ضمن فضاء وطني واحد. وعلى العكس من ذلك، من المرجّح أن ترسّخ أي محاولة لإعادة بناء أو إصلاح قطاع الأمن (ونظام القضاء الجنائي المرتبط به) التوقعات المتباينة لمختلف القطاعات الاجتماعية بشأن القيم الاجتماعية التي ينبغي مراعاتها.

التسييس المفرط والسخط الناجم عنه

تآكل أو انهيار النظم السياسية والنظام الدستوري في عدد متزايد من الدول العربية، لايفضي إلى بدائل واضحة. وهذا يتناقض مع حالات انتقالية تاريخية سابقة انتقلت فيها السلطة وتغيّر شكل الدولة، لكنها بقيت على حالها.

كانت تلك التغييرات واضحة في الحقبة الاستعمارية حتى الاستقلال، ومن الحقبة الأولية لما بعد الاستقلال حتى الفترة الطويلة للحكومات المستقرّة، ولو أنها استبدادية عموماً، بعد العام 1970.

لكن الآن، لم يعد هناك اعتراف ذو قيمة بالدساتير كإطار مُلزِم، أو كسلطة عليا لتنظيم التنافس السياسي وتخفيف حدّته

في ظل غياب القواعد والمجالات المقبولة عموماً لخوض السياسة سلمياً، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، بات العمل السياسي يميل إلى اتّخاذ أشكال عنيفة أكثر فأكثر، وغالباً وفق انقسامات مجتمعية (سواء كانت طائفية أو عرقية أو قبلية أو جهويّة).

وقد أدّى تركيز الحكومات المحلية ونظيراتها الإقليمية والدولية على مكافحة الإرهاب، مع استبعاد أي أجندة جدّية لإصلاح قطاع الأمن، إلى تعزيز الميل إلى تفضيل استخدام الإكراه في التعامل مع المعارضة السياسية أو الاجتماعية

في ظل غياب القواعد والمجالات المقبولة عموماً لخوض السياسة سلمياً، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، بات العمل السياسي يميل إلى اتّخاذ أشكال عنيفة أكثر فأكثر.

كانت نتيجة ذلك حدوث استقطاب حادّ لأي نقاش يتعلّق بقطاع الأمن في الدول العربية، الأمر الذي عرقل إجراء حتى التحسينات الأساسية، ناهيك عن إصلاحات بعيدة المدى

ترسيخ معارضة الإصلاح

كانت الديمقراطيات الوليدة في الدول العربية مضطربة ومنفلتة، ماجعل استنساخ السياسة المزدوجة لحقبة ماقبل الانتقال أمراً لامفرّ منه تقريباً. وقد نشأت معظم الأحزاب السياسية والقادة الذين وصلوا إلى السلطة من خلال عمليات الانتقال الكبرى في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين في ظل الحكم السلطوي أو نظم الصراعات المسلّحة، وهو ماشكّل إلى حدّ كبير طبيعة تصوراتهم وأساليب عملهم.

وعندما أصبحوا في الحكم، مالوا بصورة عامة تقريباً إلى اعتبار قطاع الأمن إما عدوّاً محتملاً يمكن استرضاؤه من أجل ضمان بقاء إداراتهم الوليدة، أو أداة يجب السيطرة عليها لإضعاف منافسيهم وتوطيد سلطتهم. وحتى في الحالات التي تم فيها إرساء ديمقراطية محدودة، عُزّز مفهوم ضيّق عن الديمقراطية مفاده أن الفائز يحصل على كل شيءميل الأحزاب أو النخب الحاكمة الجديدة إلى تكييف مواقف أسلافهم ومقارباتهم تجاه قطاع الأمن، بدل استبدالها

وكما تدلّ مراجعة المحاولات الجزئية والمتردّدة لإصلاح قطاع الأمن في تونس ومصر وليبيا واليمن بعد العام 2011، فإن حكوماتها المؤقّتة لم تمِل تلقائياً إلى الانفتاح، ولم تسْعَ بصورة منهجية إلى عقد حوار واسع مع قطاع الأمن (أو الشركاء والمنافسين السياسيين)، أو المجتمع المدني.

توقعت جماعة الإخوان المسلمين المصرية وحركة النهضة التونسية، اللتان كانتا أكبر الأحزاب في الحكومات والبرلمانات الانتقالية في بلديهما، الانتقال من التهميش السياسي والإداري والاجتماعي والاقتصادي إلى بؤرة المركز، وعليه فقد سعتا على أبعد تقدير إلى تحييد وزارتي الداخلية. ونتيجةً لذلك، تجنّب كلا البلدين حدوث انهيار شامل، ولكن على حساب إبقاء المقاومة العنيدة لأي إصلاح من جانب القطاعات الأمنية. وأعقب تلك المقاومة نكوص إلى الثورة المضادّة في مصر ورفض علني للرقابة الحكومية في تونس.

إن حكومات تونس ومصر وليبيا واليمن المؤقّتة لم تمِل تلقائياً إلى الانفتاح، ولم تسْعَ بصورة منهجية إلى عقد حوار واسع مع قطاع الأمن.

تباين مسار الإصلاح أو إعادة الهيكلة بصورة كبيرة في ليبيا واليمن، حيث شهد كلا البلدين انهياراً مؤسّسياً في أعقاب المرحلة الانتقالية.

فقد أصبحت الصراعات الهادفة إلى السيطرة على قطاع الأمن عنصراً أساسياً في السياسة الوطنية بعد العام 2011، ما أدّى إلى تقويض العمليات الانتقالية وفي نهاية المطاف إلى حرب أهلية في العام 2014.

ففي ليبيا، وفي غياب التفاهمات السياسية والقيود المؤسّسية الثابتة، جرى اختصار إصلاح قطاع الأمن إلى حدّ كبير في عمليات تطهير واسعة لموظفي النظام السابق، مدعومة بقانون عزل امتدّ ليشمل المجالين السياسي والإداري أيضاً.

كما تسبّبت ديناميكيات مماثلة في اليمن في عمليات تعبئة مضادّة مدمّرة عندما سعت فصائل النخبة المتنافسة إلى بناء قواعد دعم سياسي داخل قطاع الأمن وخارجه، من أجل إثبات ذاتها في ترتيبات الحكم الجديدة.

وجدت قطاعات الأمن في عدد من الدول العربية أن من الملائم سياسياً طرح ردّات فعلها الارتكاسية تجاه تحدّيات الإصلاح باعتبارها دفاعاً عن العلمانية في مواجهة سلطوية الإسلاميين المقبلة، ولاسترضاء جمهور محلّي محدود والحكومات الغربية، أو الحصول على دعم كلٍّ منها. والواقع أن ردّات فعلها هذه تكشف عن عدم الرغبة في الخضوع إلى إشراف وسيطرة أي نوع من السلطات المُنتخبة ديمقراطياً.

هذا الأسلوب في التفكير له سوابق تاريخية واضحة. ففي الجزائر، استولت أجهزة الأمن والجيش على السلطة في كانون الثاني/يناير 1992، عقب فوز الأحزاب الإسلامية في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية.

وهي فعلت ذلك لمنع الانتصار المتوقع للإسلاميين في الجولة الثانية، والذي كان سيدفعها إلى استبدال الحكومة القائمة منذ فترة طويلة. وبالمثل، رفضت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية إطاعة الحكومة الجديدة التي شكّلتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد فوزها في الانتخابات العامة في كانون الثاني/يناير 2006، ماعجّل من سيطرة حماس بالقوة على قطاع غزة بعد عام وبروز شرخ دائم في السلطة الفلسطينية.

تمثّلت المضاعفات المترتّبة على هذه الاتجاهات الاستقطابية في ترسيخ مقاومة الإصلاح كموقف تلقائي لدى قطاع الأمن في كل دولة عربية تمرّ في مرحلة انتقالية تقريباً، وتكريس عدم الثقة في إصلاح قطاع الأمن بين النخب السياسية والقطاعات الاجتماعية والفعاليات الاقتصادية، حتى عندما تكون هي المستفيدة منه

يتبع

***

يزيد صايغ ـ باحث رئيسي, مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

______________

مقالات