عبدالله الكبير
من أبسط بديهيات العمل السياسي اتساق ووحدة الرأي والموقف تجاه الأحداث حين تتشابه، أي لا تكون هناك ازدواجية في الموقف تبعا للمصلحة، بل بناء الاستراتيجة من الأساس وفقا للمصالح والغايات، وهذا بالضرورة سيؤدي إلى تجنب ازدواجية الموقف.
فلا يمكن، على سبيل المثال، للسياسي أن ينتهك القانون أو لا يعترض على انتهاكه مادام مفيدا له، ويحتج ويرفض انتهاكه إذا كان في غير مصلحته.
الخشية من الوقوع في فخ التناقض هي سبب غموض بعض تصريحات الشخصيات السياسية، وحملها لأكثر من وجه، لذلك نراهم يتريثون في إعلان مواقفهم، يذهبون أولا إلى تقييم الموقف في كل أبعاده، وينشطوا ذاكرتهم بحثا عن مواقف أو أحداث مشابهة سابقة، وماذا كان تعليقهم عليهما آنذاك.
أما الهواة فغالبا من يقعون في فخ التناقض، من دون أن يفكروا أو يشعروا غالبا، ذلك لأنهم يمارسون العمل السياسي بأفق محدود لا يتجاوز المصالح الضيقة.
مع تطورات الأزمة الممتدة خلال أكثر من عقد بعد ثورة فبراير، ظهرت على المسرح السياسي الليبي شخصيات كثيرة وقعت في تناقضات لا حصر لها، ومع زيادة حدة الأزمة، واشتداد الصراع، باتت هذه التناقضات واضحة لكل متابع، ومثار سخرية نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي.
فبعض النواب في مجلس النواب يظهرون كثيرا على الفضائيات، لم يوفروا مناسبة إلا وانتقدوا فيها استعانة حكومة الوفاق بطرابلس بالحكومة التركية لإحباط هجوم حفتر على طرابلس، معتبرا هذا الإجراء انتهاك للسيادة الوطنية، ويتجاهلون موافقة مجلس النواب، على جلب المليشيات التابعة له شركة فاغنر الأمنية الروسية، باتفاق غير معلن، كما صرح وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف.
ويتجاوز بعضهم القانون، فلا يلتزمون بالقواعد القانونية، ويرفضون تطبيق أحكام القضاء إذا كانت ضدهم، وفي نفس الوقت يلجأون لهذا القضاء للطعن في قرارات مخالفيهم، ويتهمونهم بتجاوز صلاحياتهم وفقا للمرجعيات القانونية، التي سبق لهم عدم الالتزام بها.
فمجلس النواب، وحكومة الوحدة الوطنية، والمصرف المركزي، وغيرها من المؤسسات، لم تنفذ بعض الأحكام القانونية الصادرة ضدها، تجاهلتها تماما وكأنها لم تكن، وفي نفس الوقت لم تتأخر في رفع الدعاوى والعرائض إلى النائب العام، في إطار حالة الصراع السائدة بين الأطراف السياسية المتصارعة.
استخدام القانون كسلاح لضرب الخصوم، نهج اتبعه رئيس مجلس النواب، وصل إلى حد تأسيس محكمة دستورية، ليشطب الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا، لأنه سيطالب بنقل اختصاصات الدائرة الدستورية إلى محكمة عقيلة الدستورية.
وهنا سيبرز تناقضا لا يخلو من طرافة، فالبلاد لا تحتكم إلى دستور يستدعي محكمة دستورية، تنظم السلطة القانونية وفقا لمواد الدستور، وتفصل في أي خلاف دستوري بين المؤسسات، والإعلان الدستوري محدود الحجم ومؤقت، ومن ثم لا يحتاج إلى محكمة دستورية مستقلة.
التناقض الآخر هو تجاهل الشخصيات السياسية للرأي العام في حالات استباب الهدوء، وعدم وجود ما يهز السلطة والنفوذ، واللجوء إلى مخاطبته واستعطافه إذا بات كرسي السلطة مهددا بشكل جدي.
فيكثر السياسي من التصريحات والظهور الاعلامي، مؤملا التأثير على الرأي العام لكي يسنده قبل أن يقع من على كرسي السلطة ويتحطم، وحتى بعد السقوط لا يستنكف عن استعطاف الرأي العام، من خلال مخاطبته عبر وسائل الإعلام، بينما تجاهلت هذه الشخصيات شكاوى الناس واحتجاجاتهم، ومطالبهم المشروعة بتحسين ظروفهم، حين كانت سلطتهم راسخة لا يهددها الزوال.
هذه التناقضات الصارخة في السلوك السياسي الليبي، يمكن اعتبارها دروسا إضافية في مرحلة الانتقال السياسي، حين تتجاوز النخبة السياسية دورها الأساسي في التأسيس لقواعد الدولة، وتستهويها ممارسة السلطة، فتجنح بها بعيدا عن مهامها ودورها، ويصبح هدفها هو الحفاظ على هذه السلطة وما تمنحه من مزايا، والدخول في حالة صراع مع القوى والشخصيات السياسية الأخرى.
فتعم الفوضي ويزداد التفكك ويستمر الانهيار، كمقدمة لا مناص منها، حتى تأتي لحظة الانفجار، فيستعيد النظام حضوره بترتيبات جديدة، ليست سوى هنيهة مؤقتة بين فوضى وفوضى أو تندلع الثورة.
______________