عطية صالح
يروى المرحوم الأستاذ فاضل المسعودي قصة رواها له ذات يوم المرحوم فضيلة الشيخ منصور المحجوب، الذي ترأس المحكمة العليا وأسس جامعة الإمام محمد بن علي السنوسي الإسلامية.
وكانت القصة عن تفاصيل لقاء جمع بين ملكين من ملوك الشرق الأوسط
كلاهما انتمي الى حركة إسلامية … وكلاهما عاش صراعات السياسة منذ الصغر .. وكلاهما وصل الى سدة الحكم … لكن الاختلافات بين الأثنين كانت هائلة … وعميقة وانعكست في الحديث الذي جرى بينهما .. وعبّر عن هذه الاختلافات وحمل دلالات عميقة.
الحديث كان بين المرحوم الملك إدريس السنوسي ملك ليبيا والمرحوم الملك سعود ابن عبدالعزيز ملك المملكة السعودية .. وذلك بمدينة طرابلس اثناء زيارة الملك سعود لليبيا، في فبراير من سنة 1957.
يقول الأستاذ فاضل
في ختام الزيارة الرسمية وبعد البرنامج الحافل الذي مكّن الملك سعود من الاطلاع على منجزات الدولة الليبية التي لم يتجاوز عمرها يومذاك خمس سنوات، سأل الملك إدريس ضيفه السعودي عن رأيه وانطباعاته عما رأي وشهد في ليبيا؟
تردّد الملك سعود قليلا ثم قال:
إنني لم أكن أعلم أن ليبيا على هذا المستوي من التقدم والازدهار، ومع ذلك فإنني ـ يا صاحب الجلالة ـ لست مرتاحا ولا معجبا بنموذج دولتكم هذه!.
هذه الدولة التي تحكم بثلاث برلمانات .. وثلاث حكومات محلية .. وأيضا بمجلس للنواب ومجلس للشيوخ وحكومة اتحادية ومحكمة عليا من صلاحيتها إلغاء آي إجراء تتخذه الحكومة أو أي سلطة تنفيذية .. ولها صلاحية القبول والنظر في أي شكوي أو طعن يرفعه أي مواطن ضد قرار أوقانون يري فيه .. ما يخالف الدستور!!
وقال الملك سعود : ـ ما هدف هذا التوسع في التعليم وفتح المدارس أمام جميع أفراد الشعب بلا رابط ولا ضوابط.
ثم لماذا أنتم مهتمون بتكوين جيش حديث وقوة عسكرية مسلحة في الوقت الذي تسير فيه مظاهرات شعبية في مدن المملكة، يهتف فيها المتظاهرون بشعارات مشبوهة ولا علاقة لها بليبيا!!
وكان الملك سعود قد أحيط علما بأخبار المظاهرة الشعبية التي سارت في مدينة طرابلس، أثناء هذه الزيارة وهي ترفع يُفط وشعارات ضد حلف بغداد وتردّد:
” جمال ، سعود ، إدريس / يسقط نوري مندريس” آي (نوري السعيد رئيس وزراء العراق و عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا) وكأنها تبدي التأييد لحملة مصر ضد حلف بغداد التي يقودها يومذاك راديو صوت العرب .
قال الملك إدريس بهدوئه التقليدي وصوته الخافت: ليس في وسعنا ـ يا جلالة الملك ـ سوي المضيّ في هذا الطريق، وعلى هذا النحو..
ثم أضاف : لقد تغيّر الزمن، وهذا هو العصر الذي نعيشه، وهذا هو ما قامت عليه المملكة الليبية..
صمت الملك سعود ، وكأنه صدم بإجابة الملك إدريس..
وعاد الملك إدريس بابتسامة يسأل الملك سعود : فما الذي يراه جلالتكم؟
هنا ظهرت على وجه العاهل السعودي مسحة من عدم الارتياح قبل أن يقول :
إن النتائج يا جلالة الملك، على المدي البعيد والقريب، سوف لن تكون طيبة.. بل وستكون وخيمة!
تساءل الملك إدريس، فما الذي يقترح جلالتكم ؟
قال الملك سعود : الذي أراه هو إلغاء هذا ” البرلمان والمجالس التشريعية للولايات التي تتشكل عن طريق الانتخاب ” وكذلك لا حاجة لكم بمحكمة عليا، لها كل هذه الصلاحيات . ولا لهذا الدستور .. وعليك إذا أردت أن تحافظ على مملكتك ..أن تكتفي بتعيين ” مجلس استشاري ” من أهل الحل والعقد والمشايخ والعلماء من المخلصين .. بدلا من هذا البرلمان وهذا الدستور .. وتضع بدلا منها على يمينك (المصحف) وعلى يسارك (سوط) وتقول للشعب : هذا هو دستورنا ..
الدستور الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
ورأيي أيضا .. أن لا تمضي في تكوين جيش حديث ولا قوة عسكرية منظمة “
وإنما يكفيكم فقط تكوين (حرس وطني) من رجال القبائل الموالية مثل ما فعلنا نحن .
ابتسم الملك إدريس وغير اتجاه الكلام فلقد كان الملك إدريس ليس من عصر الملك سعود ولا من جيل المفاهيم التي كانت يومها سائدة .. فهو لم يحكم بقوة السلاح بل بالبيعة من ممثلي الشعب في الجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور وأصر طيلة حياته على ان يكون حكمه دستوريا وان يكون للشعب برلمانه.
الملك إدريس كان قولا وفعلا ليس من جيل ملوك ورؤساء العرب في ذاك الزمن .
رحل الملك سعود … ورحل الملك إدريس … وبقيت اصداء تلك المحاورات تعبر عن اختلافات في وجهات النظر لا زالت لها انعكاساتها على مصير الشعوب وأمنها واستقرارها .. ولا زالت تبحث عن من يفككها ويستخلص الدروس والحكم منها .
______________
المصدر: صفحة جبرين حبور على منصة (إكس)