آلاء فضل
كُتب الكثير عن ليبيا وتاريخها، وبالأخص تاريخها الحديث؛ الذي هو تراكمات نفسية واجتماعية وفكرية من الأحقاب السياسية والإمبريالية التي ظلت لعقود.
دَرَسَها المهتم، ووَثّقها المؤرخ، كَتب المُعجَب، وسجّل الشاهد، نَسج الشّاعر كلماته، وسرد الروائي حكاياته، حاضَر الأكاديمي أمام مدرجاته عنها، وعلى لوحات الفنان جُسّدت صورتها التاريخية، بين أيدي النحّات نُحتت حضارتها وبَرزت ثقافتها.. لكن دائمًا وأبدًا ستظل صناعة التاريخ هي الأصعب.
فمن يكتب أو يوثق، سيكتب ويوثق عما صُنع بهذا التاريخ.
من ليبيا يأتي الجديد
قالها أحد الأغارقة، أو كما تنسب لأبي التاريخ هيرودوت عندما شاهد ليبيا؛ فماذا قال الليبيون عندما شاهدوا العدو يعبث بأرضهم؟
قالوا كلمتهم: من أجل ليبيا سنحارب بالحديد؛ في إحدى المقولات التي خلدها التاريخ على لسان شيخ الشهداء عمر المختار: ننتصر أو نموت.
ولهذا التاريخ الاستعماري في ليبيا جوانب خفية:
اهتم الدكتور علي عبداللطيف حميدة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نيو إنغلاند بالولايات المتحدة الأميركية، ومؤلف كتاب «الإبادة الجماعية في ليبيا: الشر، تاريخ استعماري مخفي»(*) في رحلة طويلة من البحث، بدراسة الاستعمار الإيطالي فيما يتعلق بالمعتقلات.
يرفض الكاتب دراسة ليبيا الحديثة دون التطرق لموضوع الإبادة والمعتقلات التي حدثت فيها.
مما جاء في كتابه:
عند الغزو الإيطالي لليبيا عام 1911م، كانت الدولة العثمانية وقتها في حالة من الضعف والعجز، لم تستطع الاستمرار في المقاومة ضدها، وبموجب الظروف العسكرية والسياسية انسحبت القوات العثمانية من ليبيا بعد توقيع معاهدة أوشي لوزان مع إيطاليا عام 1912م.
تغيرت سياسة الاستعمار الإيطالي في ليبيا بعد صعود الديكتاتور الفاشي بينيتو موسوليني للسلطة عام 1922. أصبحت سياسة الاستعمار أكثر عنصرية ووحشية، سياسة جديدة وقمعية لإخماد المقاومة الليبية؛ التي قاومت الغزو الإيطالي منذ بداياته حتى عام 1923م، واستمرت المقاومة غير نظامية إلى عام 1932م.
ما يراد في هذا الكتاب ليس هو مسألة المقاومة نفسها التي أودت بحياة كل هؤلاء المجاهدين الأحرار، فمئات الكتب سَجّلت كفاحهم، وألاف الكلمات سطرت بسالتهم في سبيل الأرض والوطن؛ بل هو جانب آخر من الأسلوب الوحشي والدموي الذي اقترفه المستعمر الفاشي لسحق هذه المقاومة، من خلال إبادة سكان المنطقة الشرقية، (برقة) بالتحديد التي كانت تشكل التحدي الأصعب بنظر الجنرال غراتسياني.
عندما انهزمت المقاومة في طرابلس عام 1922، استمرت في الشرق والجنوب الليبي حتى 1932.
المنطقة الشرقية التي كانت القاعدة الاجتماعية للحركة السنوسية التي يعود إليها الفضل في الجزء الكبير من نجاح المقاومة واستمرارها.
الحركة السنوسية هي الحركة الدينية والاجتماعية التي وحدت المجتمع وأصبحت هذه الوحدة عاملًا أساسيًّا للجهاد ضد الاستعمار في برقة؛ حيث أنشئت المؤسسات والزوايا خصوصًا في الشرق والجنوب الليبي وتلقى معظم قادة الجهاد تعليمهم في هذه الزوايا.
كانت المقاومة قوية وشرسة جدًّا، حتى عملت الفاشية على الخطط المتوحشة لتحطيمها؛ بترحيل المدنيين من سكان المنطقة الشرقية للمعتقلات، وسط مناطق قاحلة في صحراء سرت، لإفراغ المنطقة من سكانها وتوطين الطليان فيها، وبالتالي تحطيم الروح المعنوية للمقاومين بعمل حاجز بينهم وبين عائلاتهم.
تم إجبار ما يقارب 110 آلاف من الرجال والنساء والأطفال على مغادرة منازلهم إلى المعتقلات سيرًا على الأقدام والجمال خلال فصل الشتاء (ص50).
تم حجزهم في 16 معتقلًا، أنفقت الدولة الاستعمارية 13 مليون ليرة على بنائها (ص163).
ارتكز بحث الدكتور علي على المعتقلات الأكثر رعبًا وقسوة من غيرها، أطلق عليها «معتقلات الموت» وهي: معتقل سلوق، ومعتقل المقرون، ومعتقل البريقة، ومعتقل العقيلة.
داخل معتقلات الموت كما سماها، مات الكثير، وعانى ومرض وعُذّب الكثير، عوملوا معاملة منافية للإنسانية، وألزموهم بممارسة الكثير من الأعمال الشاقة، والسلوكيات القاهرة مثل إجبار 20 ألف محتجز داخل معتقل سلوق على حضور شنق شيخ الشهداء عمر المختار.
كانوا في معتقلاتهم كأي جماد أو حجارة مرمية في قلعة مهجورة، فقد حُرموا من أبسط الحقوق، فلم يُزوّد الجيش الإيطالي المعتقلين، لا بالأدوية، ولا بالملابس، وكان الأكل الذي يقدم لهم ضئيلًا وشحيحًا جدًّا، وازداد سوءًا بعد تدمير وقتل المواشي التي كانت مصدر غذائهم وجزءًا من حياتهم وبقائهم.
هلاك الثروة الحيوانية الذي بلغت خسائره نحو 600 ألف، كان أحد العوامل التي ساهمت في تعجيل وموت الآلاف من المعتقلين (ص211).
وبحلول عام 1934م، أُخرج نحو 30 إلى 40 ألفًا من أصل 110 آلاف محتجز، معظمهم مرضى ومهمشون.
***
(*) علي عبداللطيف حميدة: “الإبادة الجماعية في ليبيا: الشر، تاريخ استعماري مخفي”. ترجمة: محمد زاهي المغيربي. مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة ومؤسسة كلام للبحوث والإعلام 2022.
_______________