بروين حبيب

قبل أكثر من عشر سنوات تعرّفتُ على كتابات الروائي البريطاني الليبي هشام مطر من خلال روايته «اختفاء» التي صدرت مترجمة إلى العربية عن دار الشروق، وبعد بضع سنوات أخرى كان لي موعد مع روايته «في بلد الرجال»

ورغم الانطباع الجيد التي خرجت به من قراءة روايتيه إلا أنّه انسحب من الذاكرة إلى ركن قصيّ في زحمة ما يصدر من روايات عربية وأجنبية ومترجمة، لولا أن أعادته جائزة البوليتزر التي فاز بها سنة 2017 عن مذكراته «العودة: الآباء والأبناء والأرضُ بينهما» إلى واجهة اهتماماتي الروائية، خاصة أن اسمه تردد كثيرا هذه السنة.

فكتابه «العودة» كان ضمن قائمة أفضل مئة كتاب للقرن الواحد والعشرين، التي اختارها خمسمئة شخص لصحيفة «نيويورك تايمز» وكان العربي الوحيد في القائمة، كما أن روايته الأخيرة «أصدقائي» الصادرة عن دار «راندوم هاوس» هذه السنة تألقت مرتين:

مرة حين فازت بجائزة أورويل للروايات السياسية،

ومرة أخرى حين دخلت القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية.

فما حكاية هذه الرواية التي وصفتها الكاتبة ألكسندرا هاريس رئيسة لجنة التحكيم في الروايات السياسية لجائزة أورويل بأنها «عمل يتّسم بالرقة واللطف والجمال والذكاء، يقدَّم في مواجهة العنف الصارخ والطغيان.. وهي تأمل غني ومستمر في المنفى والصداقة والحب والمسافة، يتعمّق مع كل صفحة مع تراكم طبقات من الذكريات والخبرة».

عاشت رواية «أصدقائي» في ذهن هشام مطر زمنا طويلا، إلى أن احتضنها الورق بداية هذه السنة، يروي في إحدى مقابلاته، أنه أثناء كتابته روايته الأولى «في بلد الرجال» أي قبل سنة 2006 كتب «على ظهر ظرف فكرة بسيطة جدا من سطرين لكتاب عن ثلاثة أصدقاء ذكور ينتهى بهم الأمر في أماكن مختلفة»

وحين قامت ثورات الربيع العربي ومن ضمنها بلده ليبيا وكان محاطا بأصدقاء شاركوا فيها، تحول السطران إلى ملاحظات وهوامش لا تتجاوز صفحة واحدة، لكنه لم يكن مستعدا بعد لكتابة روايته فقد كان – كما صرح لصحيفة «الغارديان» (بحاجة إلى الوقت والمسافة العاطفية من تلك الأحداث، في ذلك الوقت لم أكن لأتمكن من كتابة مشهد مثل ذلك الذي ورد في الكتاب عن مقتل القذافي).

بعد ثورات الربيع العربي بخمس عشرة سنة، وفي لقاء عابر صنعته الصدفة، يلمح هشام مطر إحدى شخصياته التي لم يكن قد كتبها بعد، في محطة قطار سانت بانكراس في لندن، فكانت الشرارة التي تولدت عنها 400 صفحة عن تراجيديا الوجع الليبي، التي يجيد هشام مطر حكايتها، فهو أحد ضحاياها، منذ أن عاش المنافي وهو مراهق وتتوجت مأساته باختطاف والده المعارض الليبي واختفاء أثره بعد ذلك، ما خلّف في روح هشام مطر ندوبا تطل برأسها في كل كتاباته.

تبدأ رواية «أصدقائي» من نهايتها، حيث يودع خالد الرجل الخمسيني صديقه حسام المسافر نهائيا إلى كاليفورنيا في محطة سانت بانكراس ذات مساء لندني كئيب من خريف سنة 2016، وفي طريق عودته ماشيا لمدة ساعتين في طريق ملتوية إلى بيته، يسترجع خالد خمسا وثلاثين سنة من عمره تنتهي استعادتُها بانتهاء الرواية.

فتسافر به ذاكرته إلى أول يوم سمع فيه باسم صديقه حسام، وكان ذلك في بيتهم القديم في بنغازي يستمع مع والده إلى مذيع محطة «بي بي سي» محمد مصطفى رمضان يقرأ قصة غريبة ذات أجواء كافكوية كتبها شاب يدعى حسام زوة، عن رجل أكلته قطته تدريجيا ولم يُسمع منه سوى كلمة «لا» حين وصلت إلى رأسه. ووصلت الرسالة إلى النظام الحاكم آنذاك، إذ بعدها بشهر اغتيل المذيع أثناء خروجه من مسجد ريجنت بارك في لندن وهي حادثة حصلت فعلا.

قصة حسام فتحت عيون خالد على تأثير الأدب، وفتحت عيون والده المعارض السابق على ضرورة إبعاد ابنه المراهق عن أجواء المطاردة والاعتقال التي عاشها هو، فسافر خالد وهو في التاسعة عشرة من عمره إلى بريطانيا بمنحة لدراسة الأدب في جامعة أدنبرة.

ومن ضمن مجموعة من الطلاب الليبيين أغلبهم مخبرين وكتاب تقارير، ارتبط خالد بصداقة مع طالب ليبي يدعى مصطفى مولع مثله بالقراءة لكنه يبدو «تائها في أعماق تفكيرٍ شخصيّ على شيءٍ من ندم، كأنَّه تخلَّى عن أمورٍ أليفة ليصل إلى هنا».

وتشاء الأقدار أن تحصل حادثة تغيّر مصير الشابين إلى الأبد، يأخذ مصطفى المسيّس صديقه خالد للمشاركة في مظاهرة احتجاجية أمام السفارة الليبية في ميدان «سانت جيمس» على حملة اعتقالات طلبة وناشطين، يقول خالد لصديقه «لا نريد أن نبقى في المظاهرة لفترة طويلة» يجيبه مصطفى «دقيقتان … لنقم بواجبنا ونرحل من هناك على الفور»

وما لم يكن في الحسبان أن السفارة ترد على المحتجين بالرصاص فتوقع أحد عشر من بينهم شرطية بريطانية، ويصاب خالد بطلقة في رئته وكذلك صديقه، والحادثة في أساسها حقيقية حدثت سنة 1984 وبقيت محفورة في ذاكرة هشام مطر، حيث استرجعها في أحد حواراته «لم أنس أبدا منظر الشباب الليبيين المُلثمين وهم يتلوّون على المدرج. أتذكر أننى سمعت أحدهم ينادي على والدته، وبعد خمس سنوات، أثناء دراستي في لندن، أصبحت صديقا للرجل نفسه، ولم أكن أعرف لفترة طويلة أنه كان هناك».

هذا الحدث المفصلي يشكل انعطافة في حياة خالد، فبقاؤه لأشهر في المستشفى يعني أن المخبرين الليبيين سيعرفون حكايته، وقد يؤذونه أو يدفع أهله الثمنَ عنه. يحصل خالد على اللجوء السياسي ويصبح دون تخطيط منه معارضا مع إخفاء الأمر عن أهله، ولو باتصال تلفوني فالهواتف مراقبة.

في فترة استشفائه يقرأ خالد ومصطفى كتاب حسام زوة الوحيد الصادر حديثا، والذي يعري ممارسات النظام القمعية ـ وبعد فترة يلتقي خالد في أحد الفنادق الفرنسية بكاتبه الأثير حسام، وتبدأ بينهما صداقة يشاركهما فيها مصطفى تغدو له وطنا بديلا في بلدٍ غريبٍ لا يعرف فيه أحدا، ولا يملك فيه مالا، ولا يمكنه التواصل مع أهله خوفا عليهم.

لذلك استفاد من نصيحة والده يوم سافر «كل ما تحتاجه هو صديق أو صديقان جيدان، هذا كل شيء» وتوطدت علاقة الأصدقاء الثلاثة باللقاءات والمراسلات والمكالمات الهاتفية والنقاشات التي لا تنتهي حول السياسة والكتب والفن اختلافا واتفاقا، فحسام أول من رسم الطريق لخالد بقصته الرمزية، أما مع مصطفى فصداقتهما «مقدّسة بالدم».

وبعد سنوات طويلة توطّدت هذه الصداقة التي قال عنها مصطفى «إنني كنت أعتقد في تلك اللحظة أن لا أحد في العالم أجمع يعرفني أفضل منه.

وإنني معه لم أكن مضطرا إلى التظاهر. ولم أكن مضطرا إلى حماية نفسي من مخاوفها وحيرتها» في حين وصفها حسام «الأصدقاء.. يا له من مصطلح يستخدمه معظم الناس مع أولئك الذين لا يعرفون عنهم أي شيء، في حين أنه مفهوم أعمق وأروع من ذلك بكثير».

وكما قلَب الربيع العربي الطاولة في بلدان عربية عدّة، فعل ذلك أيضا بين الأصدقاء الثلاثة فوقفوا في مفترق طرق محير بين الاستمرار في حياتهم التي اعتادوا عليها في المنفى، أو الرجوع إلى بلد كان بالنسبة إليهم كالقطة التي تأكل أولادها، وفي حين تخلى مصطفى عن عمله وكيلا للعقارات ليلتحق بالمعارضة المسلحة، ويصبح قائدا في ليبيا لأحد المجموعات التي وقع بين أيديها حاكم ليبيا أسيرا.

وفي حين عاد حسام أيضا إلى ليبيا منحازا إلى حب الوطن والشعر العربي وابنة عمه، فضّل خالد البقاء في منفاه اللندني الذي تصالح معه وكوّن فيه عائلة، متخليا عن فكرة الرجوع إلى الوطن، فالأصدقاء كانوا في فترة ما وطنه، والآن أصبحت لندن بمكتباتها ومقاهيها وحدائقها وطنه الجديد.

اختار أن يكتب ذاكرة أصدقائه «فالإنسان الذي لم يعد له وطن، يتخذ من الكتابة وطنا يقيم فيه» كما كتب إدوارد سعيد مرة.

رواية «أصدقائي» هي فصل آخر موارب من حياة هشام مطر نفسه، فالصبي الذي روى لنا سيرته في روايته الأولى «في بلد الرجال» تحوّل مراهقا يحاول التصالح مع اختفاء والده في روايته الثانية «تشريح اختفاء» ونجده رجلا في روايته الأخيرة «أصدقائي» يعوض نفسه عن فقد الوطن بالأصدقاء. وأعتقد أن عند هشام مطر الكثير ليقوله، فما عاشه لن يُشفى منه سوى بالكتابة.

***

بروين حبيب ـ شاعرة وإعلامية من البحرين

_______________

مقالات