يوسف عبد الهادي
مرحلة (بنك ليبيا) والمحافظ “خليل البنّاني“… وعملية تلييب البنوك العاملة في ليبيا.
إذا كانت السنوات الست التي قضاها “العنيزي” محافظًا للبنك الوطني الليبي هي سنوات التأسيس العسيرة التي خاضها بجدارة ونجاح قل نظيره؛ فستكون سنوات خلفه خليل البنّاني الذي صدر مرسوم تعيينه في 27 مارس 1961 هي سنوات التمكين والتطوير.
أصدر البنك في عهد خليل البنّاني إصدار نقدي تحت مسمى (البنك الوطني الليبي) يحمل نفس التصميم السابق، وبعد صدور القانون الجديد الذي تغيّر به اسم البنك إلى (بنك ليبيا) أصدر البنك إصدارين أحدهما بنفس التصميم السابق والثاني بتصميم جديد، كما أعطى القانون تعريفا جديدا لوحدة العملة بأن الجنيه الليبي هو الوحدة القياسية للعملة الليبية بدل القرش وينقسم الجنيه الى ألف مليم.
(التلييب):
كانت الساحة الاقتصادية الليبية تزخر ببنوك خاصة وشركات بنكية وفروع لبنوك أجنبية ومنها: بنك باركليز دي سي، بانكو دي روما، بنك العروبة، بنك الاستقلال، بنك شمال أفريقيا، والبنك التجاري، وبنك القافلة الأهلي، وبنك النهضة العربية، والمؤسسة الأفريقية للبنوك, وغيرها ..
ولأجل دعم مركز البنك الوطني ورغبة في أن تكون ملكية وإدارة الجهاز المصرفي متوائمتين مع الموارد والاحتياجات الشاملة للاقتصاد الليبي فقد كان من الضروري أن تبدأ عملية (تلييب) وليس (تأميم) فروع البنوك الأجنبية العاملة. والحقيقة أن سياسة التلييب طُرحت مبكرا في عهد المحافظ العنيزي, ولكن إمكانيات البنك المركزي المحدودة في تلك الفترة الحرجة اضطرته إلى تأجيل التفكير في موضوع التلييب؛ لان المصارف الاجنبيّة كانت تعوض النقص الحاصل في إمكانيات المركزي.
وعليه, وبعد أن صدر قانون البنوك رقم 4 لسنة 1963م الذي نصّ على أن تكون البنوك الخاصة شركات مساهمة ليبيّة يكون 51% من رأس مالها على الأقل مملوكًا لليبيين, فقد بدأ التلييب في البداية عن طريق قوة الإقناع الأدبي والوسائل الطوعية, وبالفعل أعلن على الفور بنكان من البنوك الأجنبية أحدهما إيطالي وآخر فرنسي الخضوع لخطة التلييب، ولم يلبث أن لحقهما بنكان آخران.
وفي مؤتمر صحفي عقده في 12 نوفمبر 1963 نائب المحافظ جمعة المزوغي وأصدر خلاله بيانا تاريخيًا عن سياسة التلييب وأثرها، كما زاد إصرار البنك على المضي في تلك السياسة وأعلن أنه لن يتراجع دون القيام بها على الوجه الأكمل بعد أن عبّرت فقرات صريحة من “خطاب العرش” عن الإعجاب بها وتأييدها، وأيضًا بعد أن ضمّنتها الخطة الخمسية الثانية كهدف من الأهداف التي تعتزم تحقيقها بالكامل قبل حلول سنة 1974.
وبذلك أعلن البنك عن عدم السماح للبنوك الأجنبية بفتح فروع جديدة، ولكنّه حث الفروع القائمة ورجال الأعمال الليبيين على انشاء بنوك ليبية يملك الليبيون فيها ما لا يقل عن 51% من رأسمالها.
وخلال تلك السنوات افتتح (بنك ليبيا) فروعه العاملة في بنغازي وسبها والبيضاء ودرنة وطبرق ومصراتة والخمس وغريان واجدابيا، كما قام بافتتاح فرع المدينة الجديد بميدان ابن الرومي وأُلحِق بهذا الفرع معهد الدراسة المتوسطة والعليا في أعمال البنوك على أن يُبتعث المتفوقين منهم لاستكمال دراستهم في الخارج على حساب البنك، كما أعلن عن تسهيلات وظيفية مغرية للمرأة للالتحاق بالبنك، كما بدأ البنك في الاعداد لخطة إسكان موظفيه.
وبالعودة قليلًا إلى الوراء حين قررت حكومة محمد عثمان الصيد سنة 1961 شراء احتياطي معتبر من الذهب؛ وقتها تمت تغطية العملة الليبية برصيد يزيد عن 125% من قيمتها بالعملات الاجنبية؛ وهو ما اعتُبِر في ذلك الوقت أكبر غطاء لعملة مصدرة في العالم!؛
وحين لم يكن لدى بنك إنجلترا ولا لرئيس الوزراء العمالي هارولد ويلسون عام 1967 –الذي كان يَعتبر الجنيه الانجليزي رمزًا وطنيًا– أي خيار سوى حرق الاحتياطي وتخفيض قيمة الجنيه الأسترليني إلى 2.40 دولار؛ ورغم أن ليبيا تقع في نطاق الإسترليني فإن الجنيه الليبي لم يتأثر بتاتًا بهذا الاجراء وصار يعادل 1.25 جنيه إسترليني تقريبًا بدل من جنيه واحد.
لقد تميّز بنك ليبيا بفضل جهود الآباء ووجود الخبراء العالميين بسياسة تأسيس دعائم قوية, وتمتع أيضًا باستقلالية حقيقية, وليس أدل على ذلك من رفض خليل البناني مقترح رئيس الوزراء حسين مازق في أن يعمل البنك كضامن للحكومة أمام الهيئات والشركات الدولية في تنفيذ تعاقداتها وتعهداتها!؛
لقد برر البنّاني رفضه لهذا الاجراء بأنه سينال من موقف البنك ويقلل من ثقة المودعين, ونال المحافظ البناني تأييد الملك ضد طلب مازق, ولكن في المقابل قرر البنك منح تسهيلات ائتمانية لإدارة العمليات المصرفيّة بقيمة 5 ملايين جنيه لتمويل مشروعات الحكومة والمؤسسات العامة, وقد ذكر التقرير المالي لسنة 67/68 أن هذا المبلغ لم يُستخدم إطلاقًا لانتفاء الحاجة إليه.
هذه باختصار شديد قصة نشأة بنككم الوطني وجنيهكم، وأترك لغيري رواية قصة ما آل إليه الأمر بعد انقلاب 69؛ وبعد عملية التأميم الغبيّة التي اكتشف النظام بعد مرور 40 سنة عدم جدواها وأثرها السيء, وعاد يسعى من جديد لإعادة تطبيق خطة (بنك ليبيا) للبنوك العاملة بعد فوات الأوان.
______________
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك