يوسف عبد الهادي
بعد اندحار إيطاليا عن ليبيا سيطر الحلفاء على بلادنا التي وقعت تحت السلطة العسكرية البريطانية، في ذلك الوقت لم تكن هناك أوراق نقديّة موحدة تحل محل العملة الإيطالية المنهارة، فصار التعامل في برقة بالجنيه المصري، وفى طرابلس أصدرت الادارة العسكرية البريطانية عملة عسكرية عُرِفت بـ(المال), وفي فزّان استعملت السلطة العسكرية الفرنسية الفرنك الجزائري الفرنسي.
ظل هذا الوضع سائدًا قرابة 8 سنوات وإلى حين صدور قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا وقدوم بعثة الأمم المتحدة برئاسة الهولندي “أدريان بلت“.
وبعد الوصول إلى تشكيل الحكومة المؤقتة التي نص عليها قرار الاستقلال؛ شُرِع في تجسيد ملامح الدولة القادمة ومنها خلق عُملة وطنيّة موحدّة ومعترف بها، وهو أمر ليس بالسهل في بلد لم يستقل بعد, وليس له بنك وطني ولا نظام ماليّ ولا موارد ولا خبرات, فاحتاج الأمر إلى المساعدات الفنية من الامم المتحدة والدول الراعية للاستقلال.
وبالفعل شُكلت لجنة من الخبراء تحت رعاية بعثة الامم المتحدة بليبيا ضمّت ممثلين عن مصر وفرنسا وايطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة الامريكية وممثلا عن الحكومة الليبية المؤقتة، وعقدت هذه اللجنة في عام 1951 عدة اجتماعات في جنيف ولندن لبحث المشاكل المالية والنقدية التي تحيط بالدولة المنتظرة.
كما قام صندوق النقد الدولي بإعداد تقرير تناول مسألة توحيد العملة ونوعها وتهيئة الجهاز اللازم لإصدارها مقرونًا بدراسة للحالة الاقتصادية السائدة في البلاد.
وقد تناولت هذه الدراسة الوضع الاقتصادي المتردٍ وحالة العجز المستمر في الميزان التجاري للأقاليم الثلاثة.
وبعد أن حَسَمت الحكومة الليبية المؤقتة برئاسة محمود المنتصر جدل وجهات النظر المختلفة واتخذت قرارها بالانتساب لمنطقة الإسترليني؛ تمخضت تلك الجهود المطوّلة عن قرار بإنشاء سلطة نقدية مؤقتة؛ إذ وافقت الحكومة على توصيات اجتماع الخبراء القاضية بأنشاء لجنة للنقد تقوم بإدارة النقد بعد الاستقلال.
كما اتُفِق على إصدار جنيه ليبي موحّد ومؤقت ساوي في قيمته جنيه استرليني وكان غطاؤه هو مجرّد الضمان البريطاني وبالسندات الاسترلينية.
وتميز هذا الإصدار العاجل الذي طُبِع على نفقة السلطة البريطانية بعنوان (المملكة الليبيّة) ولا يحمل أي توقيع؛ باعتبار أن الاستقلال لم يُعلن بعد ولم يتم اعتماد اسم رسمي للدولة وليس هناك جهة إصدار، كما دُمِغ هذا الاصدار بتاريخ مَطلع السنة الجديدة التي ستكون ليبيا وقتها دولة مستقلّة بإذن الله.
وينقل لنا يوسف عيسى البندك عضو بعثة الهيئة الأممية عن لقاء جمعه بالملك العتيد والبريطاني المستر “بت هارد آكر” بالإضافة إلى وزير المالية في الحكومة الليبية المؤقتة المرحوم “منصور بن قدارة“, وعن الحديث الذي دار حول هذا الإصدار المؤقت الذي ظهرت صورة الملك في يسارها فيقول:
لقد غضِب السنوسي لأن رأيه لم يؤخذ في ظهور صورته التي طُبِعت على تلك الأوراق، ولأنها طُبعت إلى اليسار لا إلى اليمين وهذا مخالف لتقاليد العرب.
ويضيف البندك: “وجلس خبير النقد يُحدّث الملك إدريس وكان إلى جانبه منصور بن قدارة الذي حاول بسجيته الرقيقة أن يَحمِل الملك على التغاضي عن الأمر إذ أن رفض هذه الأوراق واتلافها يؤدي إلى خسارة كبيرة تقدّر بمئتي ألف جنيه.
ولكن هذه اللغة المادّية لم يُقدّر لها أن تصل إلى نفس الملك إدريس، فهو في سبيل الكرامة الوطنيّة يريد الاعتراف بمسؤولية خطأ وقع، لا تسويغًا ناعمًا للخطأ.
وكأنما أحس المستر بت هارد بأن الأسلوب الذي اتُبِع كان أسلوبًا غير موفق فقال في لهجة فيها الالتماس الخاضع المستسلم: “إن الذي وقع كان خطأً وكان ينبغي أن لا يكون“, وأعتذَر عن هذا الخطأ.
عندئذ زال تجهم الملك وانطلقت أساريره لأنه لا يقبل أن يُفرَض عليه أو على بلاده أي شيء فرضًا وإن تكن بلاده لم تستقل بعد.
والواقع أن الخطأ كان يعود إلى سوء تفاهم سببه موظف بريطاني وصفه السنوسي بأنه “مظلوم“؛ إذ يُظلم الذي يُحمَّل مسؤولية فوق طاقته العقلية“. أهـ.
_______________
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك