سالم الكبتي

إنتخابات بشروط:

مع أواخر عام 1920 شرعت السلطات الأيطالية في إتخاذ الأجراءات العملية لتكوين المجلس، وأعلن عن إجراء الإنتخابات في المدن (بنغازي – درنة) وكذا إختيار ممثلي القبائل (شيوخ المشايخ) في النواجع ومناطق الدواخل في الحدود التي تقع ضمن سلطات واختصاصات الأمير إدريس، وقد تولى الأيطاليون، أصحاب الخبرة بالطبع، إعداد وتنظيم الخطوات التي تهدف إلى (إنجاح) هذه الأنتخابات والأختيارات التي تنفذ لأول مرة في تاريخ برقة بهذه الطريقة.

وكانت حريصة على أن (توفق) في ذلك فأصدرت نظاماً للأنتخابات والكيفية التي ستتبع خلالها سمى (أصول إنتخابات مجلس النواب المحلي وسائر المجالس المولاّة بالأنتخاب في قطر برقة) احتوى شروطاً عديدة لأنجاز الحق الأنتخابي للمواطنين من المحليين (عرب ويهود)، والإيطاليين في كتيب باللغة العربية من 14 صفحة وثلاث فصول وست وثلاثون مادة، وكان هذا الإصدار التنظيمي بأمر ملك إيطاليا ووقّعه عنه (نتيّ) وزير الداخلية والوزير الوقتي للمستعمرات.

حددت هذه الفصول والمواد الاشتراطات اللازمة في (المنتخِب) و (المنتخَب) وطـرق الأقتراع وبيان الدوائر الأنتخابية وحدودها في الأماكن الحضرية وفي مناطق القبائل.. وغير ذلك من نظم، ومنع من التصويت: (الوطنيون المحكومون بحرمان الوظائف الرسمية والتجار المفلسون المقيدون بحكم التفليس والمحجورون لمرض بعقلهم والمحكومون بأي عقوبة كانت دون الثلاث سنين وصغار ضباط الجيش والبحرية وعساكرهما وعلى السويّة كل من كان في الجماعات المنظمة نظاماً عسكرياً مادام تحت السلاح).

وأعطى هذا النظام (لكل من مشايخ قبيلة وكل شيخ فرع من فروعها تحديد أسماء رجلين من أهل العدل والأعتبار عند الناس حائزين ما يجب من الشروط ليكونا من المنتخبين، وإذا تألفت اللجناتعلى هذا المنوال ترأسها رجل خامس ينصب بأكثرية أصوات الأعضاء منتخباً من بين ناس الفرع المنسوب هو إليه ويستثنى من هذا الأنتخاب شيخ الفرع.

وتشهد اللجناتبمضبطة تمضيها على الأصول بالكتابة أو تختمها بالطوابع مبينة عدد جملة نفوس كل فرع حتى غير المنتخبين من الذكور والأناث على إختلاف أعمارهم ويؤيد المضابط شيخ مشايخ كل قبيلة وعند عدم وجوده يؤيدها شيوخ الفروع المتعلق بها الأمر ثم يبعث بها مع ما قد يُحمل من الملاحظات فيها إلى الولاية فتوافق عليها بعد استماع مجلس الحكومة موافقة نهائية).

وفي الأماكن الحضرية تفوض المهام نفسها إلى مختار وإمام كل محلة على حده يعاونهما من أهل المحلة نفسها رجل عدل ينتخبه المجلس أو اللجنة المفوضة إليها إدارة البلدية أو عند عدم وجودها تنتخبه دائرة الولاية الراجع إليها النظر.

وفي حالة عدم وجود محلات ولا مختار ولا إمام فاللجنة فيها تتركب من ثلاثة أعضاء تنتخبهم دائرة الولاية ذات النظر ويشهد بعدد الوطنيين الأيطاليي الأصل القاطنين في كل من هذه الأماكن من كان من الحكومة موكولاً إليه أمر سجل النفوس في المكان المذكور.

وأما عدد (الأسرائيليين) فتشهد به جماعتهم في ذلك المكان إذا كانت مؤلفة قانونياً وعند عدم وجودها تشهد بذلك اللجناتالمار ذكرها،

ويظل الأقتراع في الأماكن الحضرية مفتوحاً ثلاثة أيام متوالية ولدى فروع القبائل مدة عشرة أيام متوالية، وأشارت المواد إلى أن المجلس يجتمع في (محروسة بنغازي) ويجمعه الوالي ويحضر جلسته الأولى بعد الأنتخابات، إما بنفسه أو بتوكيل أحد عنه.

وللمجلس في انعقاده دوران في السنة: دور في شهري مارس وأبريل، ودور في شهري سبتمبر أو أكتوبر ويجوز جمعه في أي وقت كان في أدوار غير إعتيادية، وفي جميع هذه الأدوار، عادية أو غير إعتيادية، فإن الوالي يفتحها ويختمها بأمر منه، وتعقد جلساتـه علانية إلا إذا طلب عقـدها سراً عشرة أعضـاء بخط منهـم، ويضع المجلس نظامه الداخلي وكيفية إجراء وظائفه).

ثم أجريت الأنتخابات والأختيارات مع بداية عام 1921 وصار تعليق بعض الأعلانات والملصقات والدعاية للمرشحين في طباعة (رديئة) أو بخط اليد، والدعوة للمشاركة في التصويت، وهو أيضاً شئ جديد ومستحدث (كأنه من جماد!)، لم تشهده بنغازي من قبل، والحقيقة أن هذا العام (1921) رغم ما حدث خلاله من إنفتاحات وأجواء فسيحة لإطلاق الحريات (إلى حد ما.. وإلى حين!)، إرتبط في أذهان سكان بنغازي – في صورة مغايرة وموازية – بالقسوة والتعب فقد اشتهر بأنه عام مجاعة وقحط وجفاف شديد ونضوب في الأمطار ونزوح كثير من الناس في الدواخل إلى بنغازي، وانتشار مرض الطاعـون في أرجائها للمرة الثانية – في العهد الأيطالي، الأولى كانت عام 1914، وتزامنت هذه العوامل وإجراء الأنتخابات النيابية مع ثاني حريق لسوق الظلام (الأول كان عام 1906) حيث دمر الحريق السوق وأتى على ما فيه بأبوابه وأسقفه الخشبية وسبّب في ضياع أرزاق كثيرة، وقد نظم رفيق – الذي كان موظفاً في البلدية – قصيدة مشهورة مطلعها:

(سوق الظلام وزرع هذا العام رميا من المولى بذات ضرام)

ومن بعيد.. من نواجع أجدابيا (حيث مركز الأمارة والحكومة المحلية) هتف الشاعر حسن لقطع بقوله:

(موشاطني سوق الظلام وغيره خطاك يا علم هو الكاينة الكبيره)

في ربط ظل المؤثر فيه والأقوى (خطأ الحبيب) يمثل مصيبة كبرى يهون أمامها حريق السوق بكامله !

كانت تلك هي الصورة وخلفياتها في بنغازي وما حولها: إرهاصات، وبعض من الحماس والنشاط، ثم ترشيحات وإنتخابات تدق طبولها وسط ظهائر أيام الجوع والطاعون والحرائق وقلة الأمطار، وأرادت إيطاليا (المستعجلة في الديمقراطية مثل إستعجالها بالغزو العسكري) في تكوينهـا للمجلس وإنعقـاده أن تبـدي لليبيين وللعالم – قبل ذلك – حسن نواياها وصدقها في تعهداتها وإلتزاماتها عقب المفاوضات في أعالي الرجمة: فها هو مجلس النواب يتشكل بسرعة، وها هي الشروط والاعلانات قد سمع بها الناس ورأوها.. ولم يبق سوى إعلان النتائج.. والجلوس على مقاعد المجلس، وبرزت هنا أسماء (50) عضواً عن المدن والدواخل، وبضعة طليان ويهود بنسبة ضئيلة.

ومن بين الفائزين بالعضوية: صالح المهدوي (من خطباء المجلس المشهورين)، ومحمود بن شتوان، ومحمد عبد الله منينة، ومحمد الكيخيا، ومحمد طاهر المحيشي، وحسين بسيكري، وعثمان العنيزي، وطاهر العسبلي، ومفتاح الأمام، وخنيفر العقاب، وبشير الهدل، وبوبكر بالذّان، وطيب بوميكائيل، ومحمد لياس، وأحمد البناني، وسعد بوالقذافي، وعوض بوعلي، وداوود المجشّر، وحسين شهاوي.. وغيرهم.

كانت تركيبة المجلس بهـذا الشكل تضـم خليطاً من مشايخ القبائل، وأعيان المدن، ومجاهدون ضد إيطاليا ذات يوم، وشعراء، وأميون، وبعض أصحاب المستويات الثقافية والتعليمية خريجي المدارس التركية، ومن عمل مع العثمانيين تركيبة عجيبة من رجال المدن والنواجع.. ولا شئ غير ذلك !

يتبع

_______________

مقالات