فاضل المسعودى

اجتمع الجربي مع اللواء محمد نجيب، وخلال اللقاء ، شرح الوزير الليبي للرئيس نجيب الأوضاع فى ليبيا  وتحدّث معه بصراحة حول جميع التفاصيل ، وكان ردّ اللواء محمد نجيب أن مصر فى حالة ثورة ، وقيادة الثورة لم تُفرغ بعدُ من تنظيم كل الأوضاع فى البلاد وبالتالي فهي ليست فى وضع يمكنها من تقديم مساعدات مالية الى ليبيا ولا تستطيع منحها أية قروض ونصحه بإلإعتماد على النفس وإتخاذ ما تراه الحكومة الليبية مناسباً لتحقيق مصالحها !

بعد هذه المقابلة ، نصح محمود فوزي على الجربي ، بالإجتماع مع البكباشي جمال عبد الناصر الذي كان يتولى منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة المصرية ، وأن السلطة الفعلية كانت فى يده وبالفعل ، إجتمع على الجربي بعبد الناصر، وشرح له أوضاع ليبيا والمأزق المالي الذي هي فيه ، بل والضغوط التي تواجهها من الدول المُحتلة التي تلحّ على الدخول معها فى مفاوضات لتسوية العلاقة معها ومع وجودها العسكري ، وشرح له أن الحكومة الليبية تتجنّب الدّخول فى مفاوضات من مركز ضعفأو أن تضطرّ لتوقيع معاهداتٍ تحت ضغوط حاجاتها المالية الصّعبة ، ولكن عبد الناصر ظل صامتاً ولم يعقب !

فعاد على الجربي للشرح ، واقترح على ، عبد الناصر أن تقدم مصر لليبيا ولو قرضاً بصورة مؤقتة بمليوني جنيه .. ولما لم يُجب عبد الناصر، خفّض الجربي – لكي لا يعود بخفي حنين – القرض الى مليون جنيه ولمدة ستة أشهر من أجل التغلب على العجز فى الميزانية ، هنا سأل عبد الناصرعلى الجربي : – هل أخذتم رأي الشعب فى الأمر ؟

أجاب وزير الدفاع الليبيحول ماذا ينبغي أن نستشير الشعب يا أخ ناصر ! نحن دولة ناشئة وفى أول خطوات تكوينها ونواجه ازمة انعدام الموارد ، ونرغب فى أن لا تبتزّنا الدول التي كانت تحتل بلادنا بسبب العجز الذى ليست لنا حيلة فى وجوده ، فقاطعه عبد الناصر بصوت فيه حدّة وسخرية  : « ومع ذلك ، يجب استشارة الشعب أولا ! «

فأدرك على الجربي أن المقابلة انتهت ، فاستأذن فى الانصراف ؟

وعاد الى الفندق ليحزم حقيبته ويتوجه الى العراق !

 وفى بغداد ، بدأ الإجتماع بالامير عبد الإله ، الوصيّ على عرش العراق ، ثم برئيس الحكومة العراقية ، السيد نوري السعيد ، الذي تحدّث بصراحة كاملة عن أوضاع بلاده السيئة وتخلفها وفقر شعبها وانحطاط مرافقها الأساسية ، الى درجة أن بغداد ما تزال تعاني من انعدام المجاري وخدمات الصّرف الصحّي ، ولذلك فقد قررالعراق بعد تطوّر إنتاج النفط ، تخصيص كافة مداخيله للصّرف على خطة التنمية التي ستنقذ  البلاد من الانحطاط المُزمن والتّخلف الذي تعانيه فى جميع المرافق !

 وقال نوري السعيد بصراحته المعروف بها : – قُل لإخوانك بصراحة  في ليبيا ، بأنه لا توجد دولة عربية واحدة  فى مقدورها مساعدة ليبيا بما فى ذلك العراق وعلى الليبيين أن يعتمدوا على أنفسهم ويتدبّروا  أمورهم مع الانجليز لإنقاذ بلادهم اذا ما أرادوا حقاً ، قيام دولتهم الجديدة .

وعاد على الجربي الى بلاده  بخيبة أمل وخُفيّ حنين ؟

وناقشت الحكومة الإتحادية نتائج رحلته الفاشلة فى مصر والعراق ، وانتهى النقاش الى ضرورة الإعتماد على النفس وتدبّر الأمور بشجاعة كما هي نصيحة نوري السعيد ؟ ولم تجد أمامها إلا الدّخول فى مفاوضات مع الإنجليز لتسوية أوضاع  وجودهم العسكري فى ليبيا والقبول بعرضهم فيما يتعلق  بالمساعدة المالية والدخول معهم فى محادثات كما كانوا يعرضون ، اذا ما قبلوا إبرام معاهدة .

وفى مذكرات رئيس الحكومة الليبية الأسبق بعنوان صفحات مطوية ذكر السيد مصطفى بن حليم أن مصر وافقت على تقديم مساعدةٍ مالية سنوية مقدارها فقط ” مليون ” جنيه مصري ولكنها اشترطت على ليبيا ” تعديل الحدود ” التى بينهما لصالح مصر، والتنازل لها عن واحة جغبوبوتعيين مستشارين مصريين للإشراف على تنفيذ المساعدة المالية .

ثم يذكر مصطفى بن حليم رد السفير المصري ، على وفد جمعية عمر المختار برئاسة  الأستاذ مصطفى بن عامر، الذي جاء يناشد ” السفير المصري ” إسراع مصر فى الموافقة على تقديم المساعدة المالية لليبيا حتى تتفادى حكومة ليبيا التورّط  والإرتباط  بمعاهدة  مع  بريطانيا !

وكان رد السفير كما يلي : « لقد تحمّلت مصر ثمانين عامًا من الإستعمار الانجليزي ، ولن يضرّكم أن تتحمّلوا – أيها الليبيون –  عشرين عامًا من البقاء تحت نفس الإستعمار “!!

إزاء ذلك ، لم يكن أمام الحكومة الليبية  إلا القبُول بنصيحة نوري السعيدالتي قال فيها : « تدبّروا  أمركم واعتمدوا على أنفسكم ولا تنتظروا من العرب أيّ مساعدة ” ؟

وقبلت الحكومة الليبية بالدّخول مع الحكومة البريطانية فى مفاوضاتٍ من أجل الحُصول على مساعداتٍ تسُدّ بها عجز الميزانية العامة للدولة ، مُقابل التباحث عن تسوية للوجود العسكري البريطانى على أراضيها ولإبرام معاهدة صداقة وتحالف وإتفاقيات عسكرية ومالية تتناول جميع المشاكل .

****

وفي منتصف يناير من سنة 1953 جرى في بنغازي ، إفتتاح المحادثات الرسمية بين الحكومتين الليبية والبريطانية ، وبعد أسبوع واحد ، تمّ الاتفاق بين الجانبين على تمديد الاتفاقية المالية المؤقتة حتى نهاية يوليو 1953 ، وتواصلت المفاوضات فى ليبيا ، ثم  انتقلت الى لندن حتى توصّلت إلى الصّيغة النهائية للمعاهدة التى إتفق عليها الوفدان ، وقدّمتها حكومة محمود المنتصر، للملك ولمجلس النواب ، ووضعت صيغتها النهائية أمام أنظار الجميع للنقاش .

ومن جانبنا ، نحن المعارضة الليبية ، التي قامت فى القاهرة من طرف طلبة الكتلة الوطنية الحرة ، ووسط أجواء التشجيع المصري وبإشراف سكرتير عام الكتلة المنفي فى القاهرة والوثيق الصلة بأمين عام الجامعة العربية السيد عبد الرحمن عزام ، وبالإضافة الى ما حققه محمد توفيق المبروك فقد صعّدنا من حملاتنا ضد المعاهدة التي اعتبرناها معاهدة مُشينة ومُخلة باستقلال ليبيا الكامل وغير مقتنعين بضرورة  ومبرّرات إبرامها ، وأنها تصبّ فى النهاية فى صالح النفوذ الاستعماري البريطاني فى الشرق الأوسط  وأنها ستُلحق الضرر بالنسبة لكفاح  المصريين الذي بدأه حزب الوفد  ضد الانجليز بالغائه لمعاهدة سنة 1936 .

ونجح سكرتيرعام الكتلة الذي يتزعّم حركتنا ، فى حشد جمع كبير من الشخصيات السياسية المرموقة في مصر، على رأسهم وزير الخارجية الأسبق لحزب الوفد ، الدكتور محمد صلاح الدين و الأستاذ فتحي رضوان ، رئيس الحزب الوطني الجديد ،  وزعيم الحزب الاشتراكي أحمد حسين صاحب جريدة مصر الفتاة وصالح حرب ، زعيم جمعية الشبان المصريين ، وقادة الشبان المسيحيين .

وعُقدت اجتماعات حاشدة  للتنديد بالمعاهدة البريطانية الليبية وبرئيس الحكومة محمود المنتصر الموالي للإنجليز والذي يسعى لتوريط ليبيا فيما يُنقص من إستقلالها وسيادتها ويعرّض مستقبلها للمخاطر بحُجة ضعف الموارد وعجز ليبيا التي تحاول تكوين دولتها ، على تدبير مواردها المالية والإنفاق على تصريف أمورها وتسيير إدارتها الجديدة رغم ما أبلغونا إيّاه من عروض مصرالأخوية الكريمة لدعم ليبيا ومساعدتها !!

 وقد اشترك فى حملات الأحزاب والملتقيات السياسية المصرية زعماء مكتب المغرب الكبير فى القاهرة الذين كان بينهم الشيخ البشيرالابراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين فى الجزائر والشاذلي مكيّ ممثل حزب الشعب الجزائري والزعيم مصّالي الحاج ، وقادة تونسيين بينهم صالح بن يوسف عن الحزب الحر الدستوري وعلاّل الفاسي وعبدالخالق الطرّيس وأحمد بن سوده من المغرب الأقصى والمنجي الطيب مناضل تونسي مستقل والمناضل الفلسطيني محمد على الطاهروالصحفي الجزائري مصطفى بن بشير .

يتبع

***

فاضل المسعودي ـ الصّحفي الكبير وعميد الصحفيين وصاحب البصمة المشهودة في تاريخ الصحافة الِلّيبيّة منذ بداية مشواره الصحفي

_______________

مقالات