فاضل المسعودى

وفى السابع عشر من ديسمبر من السنة ذاتها 1949، إنتقلت الجمعية التأسيسّية التي شكلها إدريان بلت على نفس الطريقة والأُسس التي رآها ، باتفاق إدارت الإحتلال السابقة وموافقة السيد ادريس .. إنتقلت بكامل أعضائها إلى بنغازي وقدّمت إلى السيد ادريس فى شكل ” وثيقة بيعة ”   قرارها باختياره ” ملكا لليبيا ” الموحّدة على أساس النظام ” الفيدرالي ” .

وقد حضر احتفال تقديم  البيعة ” ممثلو الأحزاب الثلاثة : الاستقلال والمؤتمر وجمعية عمر المختار ، وقاطع الحفل ممثلو حزب الكتلة الوطنية !! ، إلا أنّ زعيم حزب المؤتمر السيد بشير السعداوي الذي شارك فى تقديم البيعة ، قد إكتشف – على ما يبدو – ما وقع فيه من خطأ وهو  الموافقة ” على الخطة التي نفّذ بها السيد إدريان بلت ، القرار الدولي وتشكيله للجمعية الوطنية على أساس الاختيار وليس الانتخاب ، وما انتهت إليه من نتائج ، فأعلن قبل مغادرته للعاصمة بنغازى والعودة إلى العاصمة طرابلس التصريح التالي إن قضية إستقلال ليبيا بكاملها يجب أن يُعاد فيها النظر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة  ، كما يمكن  إتخاذ قرار جديد يتفق مع رغبات الشعب !

وعاد زعيم المؤتمر، فى اليوم التالي إلى طرابلس بالفعل ، ولكنّه لم يبادر بالسّعي للعودة بقضية ليبيا رغم كل ما حدث – إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ، لتتخذ قرارًا جديدًا بشأنها ، كما كان يهدّد !

ويبدو أن السيد بشير السعداوي قد فكّر فى الأمر مليًا وخشي أن يُؤدّي ذلك الى إعادة النظر فى قرار الموافقة الدولية شبه الجماعية التي حصل عليها في الأول، قراراستقلال ليبيا ووحدة أراضيها الكاملة بحكم أن الأوضاع الدولية قد أخذت يومها ، فى التغيّر والتعقد وخاصة بين تاريخ إتخاذ القرار وتاريخ تنفيذه .

كما أن زعيم الكتلة الوطنية المتشدّد ، السيد على الفقيه حسن ، الذي كان يتّهم المستر بلت بالتحريف فى تنفيذ نصوص قرارالأمم المتحدة ، ولا يقبل باتخاذ مواقف الاعتدال والتساهل مع إدارات الإحتلال التي حكمت ليبيا منذ تحريرها من ايطاليا حتى عرض قضيتها على الأمم المتحدة ، ولا يُقيم أيّ إعتبار لما لها من مصالح إستراتيجيّة على الأرض ..

على الفقيه حسن ، أخذ بدوره فى التخليّ عن صلابة مواقفه التاريخية التقليدية وطموحاته التي بدأت فى نظر البعض من الساسة الليبيين أنها متطرّفة ومبالغ فيها وغير واقعية وغير مناسبة للواقع الدولي وواقع الشعب الليبي الذي ترى فيه بعض الدول أنه غير مُؤهّل أصلاً للإستقلال ؟

وأنتصرت فى النهاية  واقعية ” السيد ادريس وحكمته  ونظرته المجرّبة لواقع الأمور وإدراكه لواقع شعبه الذي عاش وخاض معه تجارب الكفاح والصراع ضدّ الطليان والهجرة والحرب العالمية ومؤامرات المصالح الدولية المتكالبة ومعاناة التخلف والقصور الذاتي وانعدام الإمكانيات ..

نجحت فكرة السيد ادريس النيّرة وهي الحرصُ فى تلك الظروف ، فقط ، على قيام ( دولة ) بل أول دولة فى ليبيا ، يُرفرف فى سمائها الواسعة والعالية ، وبحدودها الجغرافية المترامية الأطراف ” علم ” !

وكانت ليبيا قد خرجت من الاستعمار الايطالي وهي صندوق من الرمال ) حسب تعبير موسوليني ، أي بدون ، امكانيات تؤهلها لقيام دولة ! .. كانت – فى الواقع أفقر بلد فى العالم ورغم ذلك ، فقد قام فيها  شعب  ” يضم أشخاصًا وزعماء لهم طموحات كبيرة وخرافية ، وهي  الحلم ” بتكوين دولة حرة وموحدة وكاملة السيادة !

****

ونجحت ” الجمعية الوطنية التأسيسية ” الليبية ، التي كونّها إدريان بلت ، رغم كل الاعتراضات والمثالب التى لابست نشأتها ، نجحت فى تكوين السلطة المحليّة ، وإعلان حكومة الإتحاد برئاسة السيد محمود المنتصر التي تكوّنت فقط بخمسة وزراء ، هم الرئيس محمود المنتصر (50 سنةوعلى الجربي وزيراً للخارجية وعمر فائق شنّيب وزيرًا للدفاع ومنصور بن قداره وزيرًا للمالية وابراهيم بن شعبان وزيرًا للمواصلات ومحمد بن عثمان الصيد وزيرًا للدولة ، وكانوا مجرد رجال عاديين ولكنهم ذوي كفاءة وحكمة وتكوين سياسيّ واستعداد فطريّ لتحمّل مسئوليات انشاء دولة  مستقلة ” طموحة وعصرية  وذات سيادة 

وقد نجحت هذه الجمعية أيضاً في وضع ” دُستورالدولة ” الذي وصفه الخبير المصري الدولي الدكتور محمود عزمي عندما عُرضت عليه نسخة منه ، في اجتماع دوليّ خاص بليبيا في ” جنيف ” .. وصفه بأنه ” فوق المستوى السياسي لأيّ قطر عربي ” !

ثم انطلقت هذه الحكومة فى تنفيذ بقية المهام العاجلة بكفاءة ملفتة للنظر، رغم  الإمكانيات المالية القليلة والموارد القاصرة والعاجزة عن تغطية نفقات كوادر دولة الاستقلال ، بأقاليمها الثلاث ، التي كانت هي الأخرى في عجز مالي دائم ، وكانت الإداراتان البريطانية والفرنسية هما اللتان تغطيان ذلك العجز بصُعوبة وبحدود ضيقة ، قبل أن يتقرر استقلال ليبيا وقيام الدولة الجديدة.

ومع ذلك ، فقد نجحت الحكومة الاتحادية برجالها القلائل ، وبخبرة وصبر وذكاء السياسي الوطنيّ المحنّك  الذي لم يكن يستند على حزب سياسي  ولا على قبيلة ، الوجيه المخضرم محمود المنتصر، فى تنفيذ الدستور وفى إجراء أول إنتخابات عامّة ، نتج عنها أول برلمان بمجلسيه ، النواب  والشيوخ ، وبتوفير الإعتمادات الضرورية لميزانية الدولة الناشئة .

بعد تجاوز كل هذه العقبات  ، إتجه محمود المنتصر الى السكرتيرالعام  للأمم المتحدة للحصول على ” دعم مالي ثابتٍ ” يضمُن إستمرارية الدولة الجديدة ، باعتبار أن المنظمة الدولية هي التي قررت إستقلال ليبيا وعليها وحدها تقعُ مسئولية الحفاظ على هذا الإستقلال ودعمه ، ولكنه للأسف فشل فى الحصول على هذا الدّعم ولم توافق دولة واحدة على ما سعى  المنتصر ” للحصول عليه !

هنا ، قررت الحكومة أن تُبادر أولاً ، وعلى عجل ، بالتوقيع مع جميع المنظمات التابعة للأمم المتحدة وهي اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية والفاو الأغذية والزراعة ) واليونسيف (الطفولة) والعمل الدولية لتستفيد من مساعداتها فى دعم الاستقلال ،  ثم قرّرت الإتصال بحكومتي مصر والعراق للحصول منهما على مساعداتٍ أو قروضٍ مالية 

وتقرّر أن يُوفدَ وزير الدفاع على الجربي إلى كل من مصر والعراق للتباحث مع المسئولين فى الدولتين العربيتين باعتبارهما الدولتين القادرتين فى ذلك الوقت على تقديم المساعدات  .

 وفي مذكرات السيد محمد عثمان الصيد الذي كان وزيرا فى حكومة المنتصر والتي نشرها بعنوان محطات من تاريخ ليبيا سنة 1996 ، كتب الصيد يقول:

« سافر على الجربي الى مصر فى أواخر سنة 1952 ، وكانت الثورة المصرية قد تولّت مقاليد الأمور، وفى القاهرة اجتمع الجربي مع محمود فوزي وزير الخارجية أنذاك ، وشرح له الأوضاع الليبية ، مبيّناً له أن الوضع الإقتصادي سيّء للغاية ، وأن ليبيا ليس لها جيش وأنها عاجزة حتى على دفع مُرتّبات موظفيها  ، وأن القوات الأجنبية التي احتلتها أثناء الحرب العالمية الثانية لا تزال باقية على أراضيها ، وقد قرّرت الحكومة الليبية التفاوض مع هذه الدول ولكن قبل الدخول في المفاوضات ترغب الحكومة الليبية فى الحصول على قروض أو مُساعدات تُعزّز بها مركزها التفاوضي مع بريطانيا وأمريكا وفرنسا ” .

وأقترح على الجربي أن تُقدم مصر مُساعداتٍ ماليٍةٍ الى ليبيا ، واذا لم يكن ذلك متاحاً ، فإنه يطلب أن تُقرض مصر ليبيا 2 مليون جنيه إسترليني لتغطية عجز الميزانية.

فكان جواب محمود فوزى أنه وزير خارجية فى حكومة عسكرية ، ومن الأفضل طرح الموضوع على مجلس قيادة الثورة ، وأقترح أن يجتمع على الجربي مع الرئيس اللواء محمد نجيب الذي كان يتولى رئاسة المجلس .

يتبع

***

فاضل المسعودي ـ الصّحفي الكبير وعميد الصحفيين وصاحب البصمة المشهودة في تاريخ الصحافة الِلّيبيّة منذ بداية مشواره الصحفي

_______________

مقالات