ابراهيم عبدالعزيز صهد
الوحدة السياسية
وقد برزت أهمية الوحدة السياسية، فاتفقت مجموعة من الأحزاب في طرابلس على تشكيل المؤتمر الوطني الطرابلسي على غرار المؤتمر الوطني البرقاوي، وأصبح السيد بشير السعداوي زعيما له.
وعودة إلى اللجنة السياسية التي ما زالت تنظر في المسألة الليبية، فقد تقدم وفد بولندا باقتراح يقضي بأن يسمح لممثلي ليبيا بإبداء رأيهم في مشروع القرار البريطاني، وقد اتفق وفدا طرابلس وبرقة على أن يتحدث الدكتور علي نور الدين العنيزي أمام اللجنة الأولى نيابة عن الوفدين، وجاء في كلمته:
” إن مشروع القرار مناف لمبادئ الأمم المتحدة ويشكل تهديدا للسلام والأمن في منطقة البحر الأبيض المتوسط” وقال: ” إن الليبيين عازمون على استخدام كل الوسائل لمقاومة هذه المحاولة لاستعمارهم” وأعلن: ” أن البلاد عازمة على العصيان المدني إن لم تغير بريطانيا من موقفها”.
كانت كلمة الدكتور علي العنيزي مؤثرة ، غير أن اللجنة السياسية مضت في بحثها للمسألة الليبية وأجرت جملة من الاقتراعات على مشاريع القرارات الأخرى. فرفضت مشروع القرار العراقي بأغلبية (22) صوتا ضد (20) صوتا وامتناع (8) دول عن التصويت، كذلك رُفض مشروع القرار السوفيتي والهندي، وسحبت كتلة أمريكا اللاتينية مشروع قرارها.
ثم طُرح مشروع القرار البريطاني، فحاولت عدة دول أن تُدخل عليه تعديلات فلم يُقبل أي منها سوى تعديل تقدمت به النرويج يقضي بجعل منح ليبيا استقلالها بعد عشر سنوات أمرا إلزاميا.
وهكذا طُرح المشروع للتصويت بعد تعديله من قبل النرويج فأقرته اللجنة السياسية بأغلبية (34) صوتا ضد (16) صوتا وامتناع (7) دول عن التصويت. وهكذا أصبح المشروع موصى به من قبل اللجنة السياسية إلى الاجتماع العام للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يتطلب أغلبية الثلثين لإقراره.
كان مفتاح المشروع يكمن في الفقرة (ج) الخاصة بوصاية إيطاليا على طرابلس، فهذه الفقرة هي التي تضمن تأييد دول أمريكا اللاتينية للمشروع، وبدون أصوات الدول اللاتينية فإن المشروع مصيره حتما إلى السقوط.
ومن جهة أخرى فإن هذه الفقرة هي أضعف حلقات المشروع، لأن عددا من الدول –وإن كانت تحبذ الوصاية على ليبيا– إلا أنها لا ترى إيطاليا وصيا مناسبا. ولذلك فقد وجهت الدول المعارضة للمشروع جل اهتمامها إلى إسقاط هذه الفقرة أو حذفها كمدخل لإسقاط المشروع كله.
وقام أعضاء الوفد الليبي بتحرك نشط بين مختلف الوفود لشرح خطورة الموقف والأبعاد التي تترتب على إقرار هذا المشروع. وتمكن الدكتور علي نور الدين العنيزي من عقد صداقة مع المندوب الدائم لدولة هايتي السيد (أميل سان لو) لما لمس فيه من تعاطف مع قضية الشعب الليبي، وأقنعه بضرورة معارضة الوصاية الإيطالية على طرايلس، وكان الأمل معقودا على الموقف الشخصي للسيد (سان لو)، فقد كان معروفا أنه كان قد تلقى تعليمات من حكومته بالتصويت إلى جانب المشروع، وقد صوت بالفعل إلى جانب مشروع القرار في اللجنة السياسية.
وقد تطلب الأمر من الدكتور العنيزي ملازمة (سان لو) معظم تلك الفترة مذكرا إياه بما لاقاه الشعب الليبي من معاناة تحت الحكم الإيطالي.
وقد نجح الدكتور العنيزي في حمل السيد أميل سان لو على أن يصوت خلافا لتعليمات حكومته. (للاطلاع على تفاسيل موقف الدكتور إميل سان لو والاتصالات الثي قادت إلى هذا الموقف يرجى الاطلاع على حلقات: “مع الدكتور “إيميل سان لو”رجل الموقف التاريخي الصعب”
انهيار مشروع (بيفن / سفورزا)
عُرض المشروع على الاجتماع العام للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 17 مايو 1949، وكان يتطلب ثلثي الأصوات لإقراره. وكانت الصورة واضحة والأصوات محسوبة، فالمشروع سيتحصل على أغلبية الثلثين إذا صوتت له دول أمريكا اللاتينية والدول المؤيدة لمبدأ فرض وصاية على ليبيا، ومصلحة دول أمريكا اللاتينية تكمن في وصاية إيطاليا على طرابلس وبدونها فإن المشروع لا يهمها نجاحه، ولكن هناك عدد من الدول لا ترغب في رؤية إيطاليا وصية على أى جزء من ليبيا ورغم ذلك ستؤيد المشروع بجملته.
وجرت المناورات الإجرائية المعتادة، فتقدمت عدة دول بطلب تصويت منفرد على الفقرة (ج) الخاصة بالوصاية الإيطالية على طرايلس، فكانت نتيجة التصويت (33) صوتا ضد (17) صوتا وامتناع (7) دول عن التصويت، أي أن الفقرة لم تحز على أغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين المصوتين، كان الفارق صوتا واحدا، هو صوت مندوب هايتي (أميل سان لو)، الذي غير تصويته عما كان عليه في اللجنة السياسية.
وبسقوط هذه الفقرة أصبح مشروع القرار آيلا للسقوط إذ لم يعد لدول أمريكا اللاتينية أية مصلحة في تأييده، علاوة على أن سقوط هذه الفقرة مضافا إليها فقرة أخرى تتعلق بوصاية إيطاليا على الصومال أدى إلى وجود ثغرات في مشروع القرار غير قابلة للرتق.
وعند تصويت الجمعية العامة على المشروع كانت النتيجة (14) صوتا مؤيدا ضد (37) صوتا وامتناع (7) دول عن التصويت، وهكذا جرى دفن مشروع بيفن / سفورزا سيئ الذكر.
وعلى إثر سقوط هذا المشروع، بادر الوفد العراقي بتقديم مشروع قرار يقضي بمنح ليبيا استقلالها فورا، وتقدمت دول أخرى منها الباكستان بمشروعات قرارات لإبقاء القضية الليبية حية في الأمم المتحدة، غير أنها رُفضت جميعا، وقُبل اقتراح تقدمت به بولندا يقضي بإحالة القضية إلى الدورة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة.
إعلان استقلال برقة
انقضت الدورة الثالثة إذن دون أن تتوصل الجمعية العامة إلى نتيجة فيما يتعلق بالقضية الليبية. كان هذا مدعاة لنفاد صبر الليبيين وتزايد قلقهم على مصير بلادهم. وقد كانت تطورات مشروع بيفن / سفورزا في الجمعية العامة بمثابة ناقوس خطر ينبه إلى ضعف الوضع الدولي لقضية الاستقلال، فقد كان الأمر مرهونا بصوت واحد لوضع ليبيا كلها في طريق مظلم عنوانه الوصاية الدولية. ومما زاد الأمر خطورة غياب الاتفاق بين القوى الوطنية في الأقاليم الليبية حول الأسس التي بموجبها ينبغي تحقيق الاستقلال.
وبتاريخ أول يونيو 1949 ، انعقد في بنغازي اجتماع للمؤتمر الوطني (البرقاوي)، أعلن فيه الأمير إدريس السنوسي استقلال برقة، وطالب بريطانيا والدول العربية والمجتمع الدولي بالاعتراف بهذا الاستقلال، وعبر عن أمله في أن تتحقق وحدة طرابلس وبرقة في المستقبل.
وفي الواقع فإن هذه الخطوة كانت دون الاستقلال الكامل للإقليم، ولكنها كانت أبعد بكثير من الحكم الذاتي. وهي بقدر ما أثارت من ابتهاج وترحيب فقد أثارت أيضا بعض الانتقادات.
ومهما قيل من انتقادات حول هذه الخطوة، واعتبار البعض لها على أنها خطوة انفصالية، إلا أن الواقع هو أن لدى الأمير إدريس ما يبرر إقدامه عليها، خاصة على ضوء التطورات التي شهدتها القضية الليبية في الأمم المتحدة. كذلك فقد كانت هذه الخطوة –سواء أراد لها الأمير ذلك أم لم يرد– عاملا ساعد على تحقيق جملة من الأمور منها:
اختبار نوايا بريطانيا ووعودها تجاه ليبيا عامة وتجاه برقة خاصة.
إثبات قدرة العناصر الليبية على استلام الأمور وإدارة شؤون الدولة كرد على حجج من يقولون بعكس ذلك.
إن هذه المناسبة استغلها الأمير لتأكيد اهتمامه بتحقيق وحدة ليبيا، وحثه لزعماء الأحزاب والجمعيات في طرابلس للعمل على تحقيق ذلك، وقد كان هذا المعنى واضحا في خطاب الأمير الذي ألقاه بالمناسبة، وفي تصريحه الذي أدلى به إلى عدد من زعماء وقادة جمعية عمر المختار، وكذلك في البرقية التي أرسلها في نفس اليوم إلى زعماء طرابلس مؤكدا لهم أنه ما زال يعمل من أجل وحدة برقة وطرابلس.
وكانت المناسبة فرصة لإذابة الجليد وإنهاء القطيعة، حيث بادرت الجبهة الوطنية (الطرابلسية) بإيفاد وفد لتهنئة الأمير باستقلال برقة، ولم يلبث المؤتمر الوطني (الطرابلسي) أن أرسل وفدا للمباركة للأمير ولبحث مسالة الزعامة السنوسية مع زعماء برقة.
وقد لقي الوفدان ترحيبا حارا في بنغازي، وطلب الوفدان بأن يمر الأمير بطرابلس في طريقه لزيارة بريطانيا للإطلاع على وجهات النظر ونقلها إلى لندن، وهو ما قام به الأمير فعلا في رحلتي الذهاب والعودة ولقي ترحيبا منقطع النظير.
وقد كان استقلال برقة وما ترتب عليه إثباتا عمليا لحقيقتين وضعتا المتشددين في طرابلس وبرقة أمام مسؤولياتهم.
الحقيقة الأولى: إمكانية برقة بقيادة السيد إدريس أن تخطو لوحدها خطوات نحو الاستقلال.
والحقيقة الثانية: أنه مهما بلغت درجة استقلال برقة إلا أنه لن يعمر طويلا دون استقلال ليبيا بأقاليمها الموحدة.
لقد فرضت وحدة ليبيا نفسها من خلال خطوة يصفها البعض بأنها انفصالية.
كانت هذه الخطوة عاملا مساعدا في المرحلة الانتقالية، فقد تحولت حكومة برقة إلى إدارة انتقالية، كُونت على غرارها إدارات في طرابلس وفزان أثناء المرحلة الانتقالية.
وبدون شك فقد مهدت الاتصالات التي جرت بين أبناء الوطن، والوفود المتبادلة، وزيارة الأمير إدريس إلى طرابلس، مهدت كلها السبيل أمام الاتفاق الذي تم أثناء مداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 1949 بين وفد المؤتمر الوطني (البرقاوي) ووفد المؤتمر الوطني (الطرابلسي) ووفد حزب الاستقلال حول ضرورة المطالبة الجماعية الموحدة بالاستقلال، وحول الأسس التي ينبغي أن تؤسس عليها دولة ليبيا المستقلة.
…
يتبع
***
إبراهيم عبدالعزيز صهد – مفوض العلاقات الخارجية بحزب الجبهة الوطنية
____________
المصدر: مجلة الإنقاذ 1990