يوسف عبد الهادي

البروباجاندا اصطلاحًا تعني محاولة التأثير في الرأي العام بقصد تشكيله وتوجيهه عن طريق التلاعب بالحقائق وبطريقة تخلو تمامًا من الموضوعية.

وهذا يذكّرني ب يوم 11 يونيو الذي ارتبط عند الليبيين بقصة جلاء القوات الجوية الأمريكيّة عن قاعدة الملّاحة بطرابلس لأقول أنه لم يُستغل موضوع لإثارة الرأي العام في ليبيا وتوجيهه لإرباك حكوماتها المتعاقبة مثل ما أستُغِل موضوع القواعد الاجنبية وبشكل مبالغ فيه للحد الذي وصل فيه الأمر إلى المزايدة على وطنية ملك البلاد نفسه !؛

لم يكن ذلك لشيء سوى خدمة مشاريع القومية الوهمية وشعاراتها الخالية من أي مضمون.

وكان هذا الأمر بالطبع شيئًا قاسيا على الرجال الذين حملوا عبء اتخاذ القرارات الخطيرة وتبعاتها من أجل خدمة بلادهم ومواطنيهم.

إن الاتفاقيات والمعاهدات المدنية والعسكرية بين الدول هو شأن يختص به الساسة والقادة في تلك الدول، وهي تعقد بناء على حاجة البلاد في مجال ما؛ يعادلها مصلحة للدولة المناظرة، أي أنها تؤسس وفق قاعدة المصالح المشتركة“.

وإذا كان العجز الاقتصادي أمرًا ظاهرًا وواقعا في بلد قاحل كليبيا التي كان متوسط دخل الفرد فيها عشية استقلالها ثلاثون دولارا في السنة فقط، ولا يتجاوز عدد الحاصلين فيها على مؤهلات جامعية اصابع اليدين؛ فهذا يعني أنها لن تكون استثناء؛ وستحتاج بشدة لعقد مثل هذه الاتفاقيات التي تؤمّن مصالحها وتوفر لها المساعدات الفنية والمالية وتحميها من الأطماع.

لقد أدرك ساسة البلاد يوم استقلالها أنهم لن ينجحوا في سد رمق مواطنيهم وتوفير ما يحتاجون إليه من تمويل للبرامج الاقتصادية والاجتماعية إلا بتدبير وسيلة تحقق مصدر دخل ثابت ومتنامي، خاصة أن الاشقاء العرب لووا رؤوسهم وتنصلوا من أي التزام تجاه هذا الشقيق الذي ولد لتوه.

الدول التي وعدت بالمساعدات وقتها لم تفِ بوعدها، والمساعدات التي توفرت لا تغطي الميزانية الإدارية التي يُنتظر أن تعاني عجزاً مهولا في سنوات الاستقلال الاولى فضلا عن توفير ميزانية أخرى خاصة بالتنمية والتطوير.

كان هناك أيضًا شبح المطامع الإقليمية؛ فجارتنا الأخت الكبرى التي بذلت نشاطا محموما طيلة اربعينيات القرن المنصرم من أجل الحصول على وصاية من نوع ما على بلادنا لم تيأس بعد؛ ومازالت تأمَل على الأقل بتعديل الحدود الشرقية, الأمر الذي حدا بالأمير إدريس الى أن يُبرق في 3 سبتمبر 1950 الى محمد صلاح الدين وزير خارجية المصري محذرًا من أن تنحو مصر هذا المنحى المنافي للعدالة والذي يرمي الى اقتطاع جزء من الاراضي الليبية قبل أن تحصل ليبيا على سيادتها وحق التصرف في أراضيها ووجود من يمثلها في الهيئات الدولية.

لذا لم تكن اتفاقيات الند للند التي وقعتها الدولة الليبية الناشئة مع بريطانيا ثم أمريكا بغرض حمايتها من العجز الاقتصادي وحده؛ بل ضمنت لها أيضًا الهيبة والمكانة التي وقَتها من التعدي على حدودها ومن الطمع في احتلالها.

ما من شك في أن تأسيس الدولة الليبيّة بكل كوادرها ومقارها وتشريعاتها؛ بالإضافة إلى تلك النقلة النوعية الواضحة التي شملت شتى المجالات في العقد الأول من عمر المملكة وقبل حتى اكتشاف النفط والتي أشادت بها الهيئات والمنظمات الدولية ووسائل الإعلام العالمية إنما جاء كنتيجة طبيعية لبراعة الآباء المؤسسين وحسن استغلالهم للظروف، ويأتي في أوله نجاحهم في حُسن ابرام تلك المعاهدات بخصوص قواعد عسكرية هي أصلًا موجودة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية!.

ولنضرب مثال على ذلك دعونا نكتفي هنا بما كتبه الدكتور محمود الناكوعفي كتابه رحلتي مع الناس والأفكار” , وفي وصف لطيف جاء كأحسن تعبير عن الصورة الواقعيةً لما تطرقنا إليه أنفا، إذ يصف الناكوع وصوله إلى مرحلة الدراسة في القسم الداخلي الثانوي في منتصف خمسينيات القرن الماضي فيقول:

نظام القسم الداخلي يتسم بالانضباط والحزم، فحوالي الساعة السادسة يرن الجرس لإيقاظ الجميع لتناول وجبة الإفطار التي تتكون عادة من الخبز والحليب، مع بعض التنويعات لكل يوم تشمل أحيانا التونة، وأحيانا أخرى الحلوى الشامية، وبعد الإفطار نستعد لطابور الصباح، ثم الدخول في فصول الدراسة، أي عند الساعة الثامنة صباحا وتستمر الحصص إلى الثانية ظهرا، بعدها نعود إلى العنابر لصلاة الظهر ولقليل من الراحة، ثم يأتي موعد وجبة الغداء وهي عادة مكرونة أو كسكسي أو طبيخ بطاطس أو فاصولياء أو غيرها، بعد ذلك هناك فترة راحة تستمر ساعتين، ثم نعود للفصول للقراءة والمراجعة تحت إشراف موظف يسمى المشرفحتى يأتي موعد العشاء وعند الساعة التاسعة مساء نعود للعنابر للنوم، كل تلك الأجواء والنِعَم أعطت لجيلي دفعا قويا لبذل الجهد طلبا لكسب المعرفة وللحصول على مزيد من المكاسب المادية والأدبية.. يا له من تطور كبير، من طعام الزميتة والتمر اليابس والعيش بدون لحم إلى طاولات عليها الكثير من الطعام الصحي من لحوم ونشويات وبروتينات وخضر وفواكه…”.

ويستطرد الناكوع واصفاً وصوله لجامعة في بنغازي فيقول:

في الجامعة حيث تتم حرية الاختيار بين القسم الداخلي والخارجي. في القسم الداخلي تتولى إدارة الجامعة تنظيم إدارته، بينما في القسم الخارجي يتولى الطالب شؤون حياته بنفسه وفي كلا الحالتين يتم الإنفاق من خزينة الدولة.. ومنذ وصولنا إلى الجامعة وتسجيل حضورنا، بدأت الإجراءات الفورية لإعطائنا رسائل إلى تاجر يحترف خياطة البدل لطلاب الجامعة، وهو يتولى أخذ المقاسات من كل طالب، والبذلة تتكون من جاكتة سوداء وسروال رمادي وتحمل الجاكتة رمزا متميزا للجامعة, ويتقاضى كل طالب من طلاب القسم الخارجي سبعة عشر جنيها شهريا، وهو مبلغ يغطي إيجار السكن وحاجات الأكل ومصروفات الجيب وأحيانا نوفر بعض المبالغ لشراء بعض الكتب العامة، أو لبعض المصاريف الأخرى.. كل ذلك ومازالت ليبيا تعيش بدون نفط وتعيش على أموال المساعدات وإيجار القواعد، ونحن ننظم المظاهرات احتجاجا على وجود تلك القواعد وتلبية لخطب عبد الناصر، وتعاليق أحمد سعيد عبر إذاعة صوت العرب”.أهـ

هذا ومن المهم القول أن ما ينطبق على مجال التعليم الابتدائي والمتوسط والمهني والجامعي في فترة ما قبل النفط الوارد في مثال الناكوع هذا هو ما ينطبق على كل المجالات التي شهدت تطورًا مضطردًا هي الأخرى؛ كالجيش والكلية العسكريّة، والشرطة بأقسامها، وقطاع الصحة، ناهيك عن إنشاء البنك الوطني وخلق رصيد للعملة الوطنية، وافتتاح الإذاعة الليبية، وإنشاء الجامعة الإسلامية ومعاهدها، وتطور المعارض ودعم الشركات الوطنية التي تضاعف عددها عشرات المرات، وتنفيذ ما أمكن من مخططات البنية التحتيّة كمحطات وشبكات الكهرباء والماء، والطرق، أضف إليه تأمين المهايا والمرتبات لكافة موظفي الدولة، إلخ .., وهذا لا يشمل الحديث عن سنوات تصدير البترول التي تلت فيما بعد بعد ظهور النفط وخططها الخمسيّة.

إن هذا كله هو ما دفع بإحدى الصحف الإيطالية إلى الاعتذار للشعب الليبي عن مقال تصدّر صفحتها الأولى عشية استقلال ليبيا أي في يوم 22 من نوفمبر 1949 اعتبرت فيه:

أن منح هذه المستعمرة استقلالها هو جريمة ارتكبتها هيئة الأمم في حق أمة عاجزة عن بناء نفسها وان هذا الشعب لن يستطيع مهما فعل أن يتجاوز الأخطار لمدة عام واحد؛ لتعود هذه الصحيفة إلى نشر مقال في نفس المكان من صفحتها وتحديدا في يوم 21 نوفمبر 1963 تقول فيه:

إن الأخبار التي تأتينا عبر وكالات الأنباء والصحف العالمية عن الدولة الفتية الحديثة ليبياتجعلنا حريصين على ترجمة تجربة الدولة العربية الإفريقية ونعطيها اهتماما زائداً عن المعتاد، ولعل صدور هذا المقال بعد مضي ثلاثة عشرة سنة على قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا، ذلك القرار الذي استقبلناه باستنكار لا حد له كما يذكر قراؤنا القدامى لعل صدور هذا المقال في هذا الوقت يجعلنا بعد نجاح التجربة الليبية نعيد النظر في كل ما قلناه. إن ليبيا اليوم استطاعت أن تمسح من على وجهها بصمات التخلف وان ترفع من معنويات شعبها وان توفر ما يمكن أن توفره دولة عريقة في استقلالها لشعب برز كقوة مذهلة ليبني وطنه منذ استقلالها ويحفل بمفاجئات عديدة، إن كل يوم يمضي من عمرها يزيد من رصيدها في المجالات الدولية زيادة مضطردة حتى أضحت مثالا يقتدي به كل شعب يخوض غمار تجربة”.أهـ.

لم يحدثنا الرافضون لوجود القواعد العسكرية مثلًا كيف سيتمكنون من تأمين كل ما ذكرناه من ظروف حياتية مقبولة لهذا الشعب المعدم؟!

نعم وللأسف لقد صار من المستحيل ان يُطلَب من النخبة الاقتناع بالتريّث في معالجة هذا الموضوع، ولم تعد الفضائل التي بذلها المؤسسون لخلق دولة حقيقية وأمة محترمة اسمها الأمة الليبية تعني شيئًا عند تلك النخبة، ربما لأنهم لم يعودوا مشغولًين بالبحث عن الخبز, ولو كان كذلك لما وجدوا وقتًا للمزايدة على وطنية الملك إدريس ومحمود المنتصر.

لقد كانت تلك المطالبات الشعبوية القوميّة في غالبها مبالغات غير مبررَة, وخاصةً أن هذه الاتفاقيات لم تعِق أو تمنع ليبيا من اتخاذ المواقف المشرفة على المستوى القومي نحو ثورة الجزائر أو مصر أو فلسطين. وأن الدولة الليبية لم ترتكب جريمة عند إبرامها لتلك المعاهدات التي لم تعقدها لمجرد عقدها, بل جاءت نتيجة لظروف قاهرة وواضحة استوجبتها.

لقد كان دافع التروي في مسألة الجلاء أمران:

الأول: هو الالتزام الذي في عنق دولة المملكة الليبية تجاه هذه المعاهدات.

والثاني: أن تحسّن الظروف الماديّة بظهور النفط يزيد من خطر المطامع في ليبيا إلى حد توفر الرغبة في احتلالها كما حدث للكويت فيما بعدوأن هذا التحسّن أيضًا لا يُعد مبررًا كافيًا يمنح ليبيا فرصة الاخلال بتلك العهود,

وهذا هو ما منح الشجاعة للقذافي حين رفع عقيرته متحججا بخلو عنقه من أي التزام؛ إذ أن البرلمان الذي أقرها كما قالهو في حكم المنحل, والشخص الذي وقعها في السجن, والملك الذي صادق عليها في المنفى.

لقد أقرّ برلمان دولة المملكة الليبيّة مبدأ الجلاءفي موعده المُحدّد بدون تجديد, وأمضى الملك بالفعل قرار البرلمان, وهذا هو خلاصة وصلب الموضوع, وهو ما يُعتبر في العرف السياسي والدبلوماسي انجاز كبير, وقد وافقت الدول المتعاهدة على ذلك, خاصة بريطانيا التي اتضح لمجلس عمومها أن المعاهدة لم تحقق لهم شيء سوى دفع مزيد من الأموال والمساعدات لهذا البلد الناشئ الفاغر فاه, وصارت تنتظر منذ عام 1957 أية فرصة تؤدي الى تقليل نفقاتها العسكرية في الخارج وخاصة من عبء وجودها في ليبيا وقد استجابت للمطالب على الفور وأخلَت منذ سنة 1965 كل معسكراتها وقواعدها في ليبيا بالكامل مبقية فقط على مطار العدم تحت الإلحاح الليبي بالمحافظة على المعاهدة حتى انتهاء موعدها الطبيعي.

أما أمريكا التي أبدت امتعاضها من الموافقة البريطانية السريعة ووجدت نفسها هي أيضًا مضطرة الى تقديم زيادات مضطردة كل عام وبصورة كبيرة في المخصصات تجاوزت ما نصت عليه معاهدتها تقريبًا 10 مرات, اضافة الى برامج المساعدة المختلفة التي قدمتها كراعية لدول العالم الحر على حد وصفها؛

فقد لجأت إلى الملك لكبح جماح وزير الخارجية حسين مازق المتشدد في مطالبه, وقد سعدت إيما سعادة وفق رسالة من سوندرزرئيس مجلس الامن القومي إلى الرئيس جونسون يوم 19 نوفمبر 1965 – بأن مفاوضات الجلاء المطالبة بإلغاء الاتفاقية قبل موعدها قد يكون تم تفاديها و أن القاعدة قد تبقى الى نهاية المعاهدة (1971).

________________

المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *