لا يفتأ صوت القبيلة في شرق ليبيا يظهر بين الفينة والأخرى، فكلما حانت فرصةٌ للحديث والاجتماع، لا تتأخّر القبائل عن اقتناصها والتعبير عن مواقفها، لكن اللافت أن الأصوات القبلية المؤيدة لسلطة اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، والتي كانت تكتظ بها الاجتماعات، تراجعت، بل ربما اختفت تماماً، مقابل بروز الأصوات الغاضبة من قبضته الحديدية.

والأكثر لفتاً أن حفتر لا يُصدر أوامره باختطاف من يشاركون فيها أو إخفائهم، وجديدها أخيراً اجتماع لقبيلة الدرسة التي ينتمي لها عضو مجلس النواب المغيب منذ العشرين من مايو/ أيار الماضي، إبراهيم الدرسي، وقد صرح فيه بعض وجوه القبيلة أمام كاميرات النشطاء بأن الدرسي موجود عند القيادة، أي قيادة حفتر، وأنه يمكنهم الحديث عنه وسط قبيلته، لكنهم لا يستطيعون الذهاب إلى بنغازي لقول هذا، إذ سيكون مصيرهم كمصيره“.

واستضافت مناطق بعيدة عن بنغازي، في ثاني أيام عيد الأضحى، اجتماعاً قبلياً آخر لأبناء العواقير الذي ينتمي لهم المهدي البرغثي، وزير الدفاع الأسبق الذي اغتيل في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في أثناء رجوعه إلى منزله في بنغازي، حيث صرّح أحد وجوه العواقير صراحة بأن حفتر التحق بهم في بنغازي، وأنهم من أسّسوا لعملية الكرامة وليس هو، بل وقال جهاراً إن حفتر أدار ظهره لنا، وإن قبيلته لم تقدّم شبابها ضحايا للحرب لتسكت، في إشارة واضحة إلى بداية الحروب في بنغازي على يد المهدي البرغثي، قبل أن يطلب حفتر عملية الكرامة، وينخرط ضمنها البرغثي الذي تنكّر له حفتر، واعتقله من داخل بيته في أرض قبيلته وقتله في وضح النهار.

تملك تلك الاجتماعات في التقليد القبلي المجتمعي حصانةً وقدسية، وهو ما يدركه حفتر جيداً، فلم يسبق أن اقتحمت مليشياته أي اجتماع لتعتقل أياً من المشاركين فيه، ولو بعد انتهاء اللقاءات، وكل ما قد يفعله تحريك ما تسمّى الأجهزة الأمنية، لتبلغ وجوه أي قبيلة بطلب عدم عقد اجتماع يكون مقرراً كما حدث في اجتماع قبيلة الدرسة التي كان مقرراً عقده قبيل عيد الأضحى لمواصلة بحث مصير إبراهيم الدرسي.

يدرك حفتر جيداً أن بإمكانه السيطرة بالحديد والنار على كل شيء، سوى ثقافة القبيلة التي تشكل العقل الجمعي في شرق البلاد، وتصوغ القرارات النافذة فلا يقف أمامها شيء، وسبق وأن فعلت ذلك عندما قرّرت بالإجماع الانتفاضة على رفيقه السابق معمّر القذافي عام 2011، فرغم كل محاولاته إخضاعها بقوة السلاح طوال أشهر عمر الثورة لم يتمكّن.

ولذا تبدو إجراءات حفتر منذ أشهر تسير في اتجاه إحكام قبضته الأمنية بتولية أولاده وشديدي الولاء له في المناصب والمواقع الحساسة لقيادة مليشياته، وجديدها أخيراً تعيين مدير مكتبه الخاص، اللواء خيري التميمي، المعروف بإخلاصه له أميناً عاماً لقيادة قواته، كما عين اللواء مراجع العمامي، المعروف أيضاً بإخلاصه الشديد آمراً لجهاز الاستخبارات العسكرية.

وإن تبدُ هذه المناصب حسّاسة ومهمّة إلا أنها لا تتصل بشكل مباشر بالواقع على الأرض، فالمناصب التنفيذية منحها لأولاده، وتحديدا نجليه، صدّام الذي عينه آمراً للقوات البرّية، وخالد الذي عينه آمراً للوحدات الأمنية.

صحيحٌ أن إجراءات تولية حفتر وَلَدَيه في مناصب الحكم باتت معلومة، لكن خريطة توزيع القوى والنفوذ تحكي أن القوات البرية التي يتولاها نجله صدّام يتركز وجودها غرب بنغازي حتى سرت وباتجاه العمق في الجنوب، لكن وجود الوحدات الأمنية يتركز على كامل الشرق الليبي وصولاً إلى طبرق، حيث ينتشر نفوذ القبائل، في إشارة واضحة الى أن هدف حفتر فيما يبدو معالجة خلل اعترى طريقة سيطرة سلفه القذافي على القبائل في الشرق بقوة السلاح، ويسعى هو إلى سيطرة أمنية من خلال الاختراقات بعيداً عن المجاهرة بالسلاح.

في الواقع، يعيش الجانب الشرقي من البلاد على صفيح ساخن، لا كما يتصوّر مراقبون عديدون، فطبيعة التكوين القبلي تنبئ أن هذه السياسات التي يتبعها حفتر لن تصمد وقتاً طويلاً، وأن الوضع مرجّح للانفجار في أي وقت، وحتى الرسائل التي يحاول حفتر ارسالها، كمشاريع الإعمار في بنغازي ودرنة، والتي تلامس حياة المواطن، سريعاً ما تُفسدها إجراءاته الأمنية والعسكرية المتصلة بالاختطافات والتغييب والسجون السرّية والرفض المطلق لمشاركته في السلطة.

______________

مقالات

3 Commentsاترك تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *