يوسف عبد الهادي
في شهر مايو من صيف 1967 أمر الرئيس جمال عبد الناصر بإغلاق مضائق تيران أمام البواخر الإسرائيلية، وفي نفس الوقت وفي خطاب رسمي طلب سحب قوات الأمم المتحدة المرابطة في سيناء؛ مع أمر علني بنقل حشود الجيش المصري بأعداد كبيرة لتحل محلها!
لقد عززت هذه الأيام بالذات النظرية القائلة بأن ناصر كان زعيمًا ديماغوجيًا منفصلًا عن واقعه لا يدري بما كان عليه تكتيكه من خلل وضعف؛ وقد بلغ به الوهم أن صدّق هو نفسه التعهدات التي كان يقطعها في خطاباته النارية بان زوال إسرائيل صار أمرًا محتوما بفعل صاروخيّ القاهر والظافر!.
كانت هذه هي الفرصة السانحة التي انتظرها الكيان الصهيوني طويلا وخطط لها جيدا؛ فهجم بسلاحه الجوي عند الساعة 8:45 من صباح الاثنين الخامس من يونيو على جميع المطارات المصرية، وأيضًا على أي شيء شوهِد يتحرك في مطارات الأردن وسوريا، وخلال 6 ساعات فقط من بدء الهجوم دمر الإسرائيليون جميع طائرات سلاح الجو المصري وهي رابضة في مدارجها، ولم يحل مساء اليوم السادس حتى سقطت سيناء وغزة والقدس والضفة الغربية في يد الصهاينة الذين قاموا على الفور بتهجير مئات الألوف من الفلسطينيين من قراهم ومساكنهم.
وفي مساء التاسع من الشهر نفسه أعلن الرئيس عبد الناصر عن تنحيه المزعوم؛ لتعم المظاهرات شوارع مصر وعدة مدن عربية أخرى رافضة هذه الاستقالة ومطالبة بعودته! بدل المطالبة بمحاكمته، وبالطبع نزل عبد الناصر في اليوم التالي عند رغبة الجماهير! وأعلن عودته إلى الحكم، وصرّح مبررًا هذه الهزيمة النكراء بقوله:
“انتظرناهم من الشرق فجاؤونا من الغرب” .
لم يوضح ناصر في تصريحه المبهم أن الأمر كان في حقيقته التفاف دائري بعيد المدى قامت به الطائرات الاسرائيلية لقصف مناطق غرب القناة!؛ فَاستُقبِل هذا التصريح باعتبار أن هذه الطائرات أغارت على مصر من القواعد الغربية المتمركزة في ليبيا!.
ولم يُبالي عبد الناصر ساعتها بأنه أدخل حكومة جارته المسالمة في أشد أيامها خطرًا، وهو أمر ليس بجديد؛ فقد أقدم عليها من قبل عندما ألقى خطابًا ناريًا في 22 فبراير 1964 بمناسبة ذكرى الوحدة المصرية السورية “المنهارة” وتدَخّل في خطابه بكل جرأة في شؤون ليبيا الداخلية داعيًا الى تصفية القواعد العسكرية الغربيّة!
كانت بلادنا وقتها مازالت تلعق جراحها من حوادث 13 و 14 يناير الأليمة؛ فتسببت تصريحاته في وضع حكومة محمود المنتصر الثانية بين مطرقة الشعب الغاضب وسندان المَلِك المتروي مما أودى بها مبكرًا.
إذًا وعلى المستوى الخارجي يمكن القول بدون مواربة أن جمال عبدالناصر كان سببًا رئيسًا في إرباك العهد الملكي الليبي.
وبالفعل ما أن استفاقت الجماهير الليبيّة من أكاذيب أحمد سعيد عن النصر المزعوم وعن الطائرات المصرية التي دكّت تل ابيب! وبانت لها هذه الهزيمة المُنكرة حتى انطلقت في مظاهرات غاضبة محطمةً كل شيء في طريقها؛ وعلى مدى لم يسبق له مثيل.
فأشعل المتظاهرون الشوارع واعتدوا على أرزاق الناس من اليهود الليبيين ومن ميسوري الحال، واتخذت تلك التعديات شكلا مروعا حين تم تصفية عائلة يهودية ليبية كاملة بدم بارد على يد ضابط الشرطة الذي التجأت اليه.
صاحَبَ ذلك حركات عصيان مؤسفة شهدها الجيش, فقد تمرّد ثلاثة من النقباء وعبَروا بمدرعاتهم الحدود إلى مصر رغمًا عن قياتهم, ورفضت مجموعة أخرى تنفيذ الأوامر بإيقاف المظاهرة الصاخبة المنطلقة من مدينة الزاوية إلى قاعدة الملاحة.
وغادر ضابط طيّار بطائرته فجأة من جناح السلاح الجوي الليبي بقاعدة الملاحة إلى مطار طرابلس بدون مبرر أو إذن أو تنسيق مع رئيس الأركان, وفر طياران بطائرتهما الـ(130 C) إلى الجزائر, وتوجه ضابط آخر برتبة رائد في الاستخبارات العسكرية الليبية إلى مصر متطوعًا ليقدم إلى المخابرات المصريّة معلومات عن بلاده وبالمجان.
هذا ناهيك عن تأجج الشارع بإشاعات تداولتها الالسن من مقهى الى مقهى ولم تعد تُجدي معها نفعًا تطمينات الحكومة الليبيّة وتأكيداتها عبر الوسائل المتاحة في الراديو المسموع والصحف الرسمية والمنشورات بأن ليبيا قد وقفت الموقف المشرّف الذي يليق بها وبحجم الحدث!.
لقد بدا الأمر وكأن رئيس الحكومة القدير حسين مازق قد تهاون في السيطرة على الموقف، وهذا بلا شك فيه إجحاف شديد للرجل الذي كان يخشى تكرار احداث يناير 64 في حال اتخاذه أي إجراءات صارمة لإيقاف هذا التخريب وردع العصيان.
فالشعب المفتون بأوهام ناصر لا زال هو نفسه الذي كان منذ ثلاث سنوات, وبالطبع وفي دولة لم تتخذ العُنف منهجا؛ لن يُغفر لمازق إن حاول أن يرغم هذا الشعب على أن يثوب إلى رشده.
لقد خيّمت أجواء هذه الهزيمة على بلادنا طيلة السنتين التاليتين, وهيمنت على نفسية كل المتآمرين من عسكريين أو مدنيين وجدوا فيها ذريعة للتسابق على الخيانة؛ متذرعين بمزايدات رخيصة وشعارات خالية من أي مضمون, فاختُزِلت كل أماني الأمة الليبية في اسقاط النظام الملكي الرجعي العميل وبعدها يكون لكل حادث حديث.
إذًا لم يعد أمام مازق إلا الاستقالة، وعلى الملك الذي ارهقه الخذلان أن يجد شخصًا صارمًا ومخلصًا يعيد الأمور إلى نصابها, فوقع اختياره على النائب الوطني المتشدد والوزير المحنك عبدالقادر البدري ليجتاز بالبلاد هذه الأزمة المحزنة.
ويبقى السؤال: ترى لو كان الليبيون أكثر تعقلًا ووعيًا؛ وأنهم عِوضًا عن ذلك حاربوا من أجل أن تبقى شعلة التعليم ومسيرة البناء في بلادهم متأججة وفي جو من الهدوء والصفاء بما يشد من عزم عاهلهم المسن؛ بدلًا من التسابق في كل مَرّة إلى تقديم وطنهم قرباناً على مذبح “بطل القومية“؛ فهل كانوا سيجلبون كل هذا الشقاء لأنفسهم وهم لا يشعرون؟.
_____________
المصدر: صفحات التواصل الاجتماعي في فيسبوك