سالم الكبتي

التنظيم المستقل تحدث عنه صراحة الزعيم مصطفى القويري أحد الضباط الكبار في الجيش تلك الأعوام. ذكر ذلك في مذكراته التي صدرت السنة الماضية 2023 بعنوان (مقادير) عن شركة آفاق المعرفة في مصراتة.

في الصفحة (179) من المذكرات بعد أن مهد للظروف التي تسود الواقع الليبي وموقفه منها أشار بوضوح إلى أنه كوّن مجموعة من الضباط من خريجي الكليات العسكرية في العراق ومصر فيما أكد أيضا على أنه كان ينوي استقطاب الكثيرين من ضباط الجيش في صنوف المشاة والدروع والاستخبارات والمخابرة والهندسة، ثم يوالي اتصالاته بشأن تنظيمه في سلاحي الطيران والبحرية.

وسعيا لإنجاح مشروعه في إعداد تنظيمه المستقل، كما أشار إليه، فقد فاتح الزعيم القويري اثنين من الضباط كان يأنس بهما ويثق فيهما على ما يبدو من خلال هذه المفاتحة وهو أمر حساس في ذات الوقت بحكم رتبته الكبيرة وأقدميته في الجيش، فقد كان من قياداته وظل آمرا للمنطقة الغربية فترة من الأعوام. الضابطان هما عبد الله سويسي و سعد الدين بوشويرب.

كانا من ضمن الدفعة الليبية العسكرية الوحيدة التي تخرجت في الكلية الحربية بمصر عام 1956 وكانت تضم في صفوفها أيضا زميلهما عبد العزيز الشلحي. بوشويرب في مرحلة لاحقة سيتخذه تنظيم الضباط الصغار واجهة لهم عند نجاحهم في الوصول للسلطة في سبتمبر 1969. كان خارج البلاد وأيضا بعيدا عن الحياة العسكرية منذ العام 1967.

الزعيم القويري في مذكراته وحول تنظيمه أشار كثيرا إلى أنه كان يسعى لتأسيس تنظيم وطني مستقل داخل الجيش بعيدا عن تأثير الشعارات والخطاب الهادر والسائد طوال اليوم في المنطقة تلك الأيام.

غير أن سؤالا برز أمام تنظيمه عبر النقاش ومتابعة الأمور في البلاد:

كيف يكون مصيرها إجمالا بعد الملك في كل الحالات.. بالوفاة أو بالتغيير أو بأي ظرف طاريء آخر؟

هل يستطيع ولي العهد، على ضعفه الظاهر حسب رأيه، أن يملأ الفراغ المطلوب بعد الملك، أمام الفرصة التي ستكون سانحة ومواتية لأي طرف آخر لأن يحل محله؟

توقفت الأسئلة وكانت ظروف العام 1967 تلقي بآثارها على ليبيا. ظل يحمل تقديره للملك رغم أنه لم يقابله في حياته العسكرية أو بعدها، لكنه كان يشير إلى مظاهر الضعف والأخطاء التي تعتري مسيرة الدولة من الكثيرين المحسوبين على نظامها وظلت تتسع يوما بعد يوم دون معالجة أو مبادرات ضرورية بالإصلاح والترشيد.

لم تلق أسئلة تنظيم القويري أية أجوبة مثل أسئلة التنظيمات التي سبقت في الجيش ولم تستطع فعل أي تحرك رغم وعودها وتكرارها المستمر بجاهزيتها وأنها الأقرب والأنسب لتولي السلطة.

انتهى التنظيم باستقالة الزعيم القويري في أغسطس 1968 بمرسوم شمله مع العقيد سعد الدين بوشويرب و المقدم نوري زريقان و الرائد بشير ساسي وبعدهم سينقل الفريق نوري الصديق رئيسا لأركان الجيش إلى عضوية مجلس الشيوخ ويحل محله اللواء السنوسي شمس الدين صهر العقيد عبد العزيز الشلحي.
وفي نظرته العامة للوضع الذي عاصره في الجيش عدة أعوام، لم ينس الزعيم القويري أن يقيم المرحلة بالقول:

في نهاية الخمسينات تزاحمت الرتب العسكرية في سباق إلى رأس الهرم الذي ينتهي عادة بضابط يتولى رئاسة الأركان أو القيادة العامة وفي ظل هذا التزاحم والتكاثر العددي تكبر التطلعات وتتنوع الاتجاهات ويحاول كل واحد أن يكتشف الفريق الذي يتوافق معه في التنظير للمستقبل الذي يطمح إليه من خلال التوقعات والتخمينات.

ذلك يحدث في أغلب الجيوش العربية الساهية عما يدور في الخواطر السرية. وجيشنا الليبي لم يكن بدعا من جيوش جيراننا ومنطقتنا فقد نشأت فيه تكتلات وتنظيمات مكتومة مبكرا بعضها كان مدفوعا من قبل الاعلام المصري جريا وراء القومية العربية بزعامة جمال عبدالناصر وبعضها من تأثير أطروحات حزب البعث برؤية ميشيل عفلق والبيطار والحوراني المتبناة من قبل سوريا والعراق إلى جانب التنظيم الوطني العام النابع من الرؤية الذاتية الليبية الرافضة للشعارات الخارجية من أي نوع احترازا من الوقوع في مطب التبعية“.

وهذا، في مجمل سطوره، يؤكد توكيدا قاطعا اكتظاظ الجيش بالتنظيمات المعروفة.. تنظيم يبدأ ويختفي وتنظيم يتبعه ثم يتوقف وتنظيم آخر ينطلق وينتهي في ذمة التاريخ.

والمحزن أن تنطلي على تلك التنظيمات الصبغة البعيدة عن الشأن المحلي والانبهار بما يملأ الساحة العربية من أفكار وتطلعات قد لا تتماشى كثيرا مع الواقع المحلي.

هذه التنظيمات لم تضع برنامجا محددا أو خطة أو رؤية صحيحة للمستقبل أو تصحيح الفساد والخطأحاولت وفشلت وتوقفت ولم تواصل تطلعاتها وأحلامها في الوصول إلى السلطة.

ويشير القويري أيضا إلى أنه إلى جانب تلك التنظيمات برز من بينها أو لعله يقصد في نهايتها: “التنظيم الوطني العام النابع من الرؤية الذاتية الليبية الرافضة للشعارات الخارجية من أي نوع احترازا من الوقوع في مطب التبعية.

وهذا التنظيم هو الذي دعوت إلى تكوينه بين الضباط الأوائل المتخرجين من العراق ومصر لتمتد الدعوة بعد ذلك إلى كل من رأينا فيه أهلية لها ورغبة في الانضمام إلينا من مختلف الرتب

وبينما يمضي قائلا: “تلك كانت البداية في فكرة إنشاء التنظيم الوطني الذي تبلور فيما بعد إلى تكتل مهم لم نتخذ له صفة أخرى أكثر من كونه وطنيا ولا شعارا من الشعارات الرائجة ولا أوراقا للنشر بل اعتمدنا فيه على المشافهة والتفاهم والدراسة والحوار في الاجتماعات التي عقدناها في بنغازي والجبل الأخضر وطرابلس والزاوية وخلال الفرص المتاحة في المناسبات والاحتفالات“.

بينما كان يؤكد فكرة تأسيس التنظيم فإنه ظل يحترز من أي احتواء خارجي وابتعد تنظيمه عن محاكاة ما قامت به تنظيمات أخرى بالإفصاح عن نفسها عبر المنشورات أو التصريحات. لم يعرف عن هذا التنظيم أنه أشار إلى نفسه بأي منشور أو رأي مكتوبالرؤية تختلف بين التنظيمات في الأسلوب والوسيلة وكثيرا ما ابتعدت عن الهدف الأصلي المرجو منها.

محاولات باعدت بينها الأيام فيما كان الوقت بأسبابه وظروفه مهيأ للمزيد من النجاح بالضربة الأخيرة لتنظيم الضباط الوحدويين الاحرار (الملازمين الصغار).
فكيف نجح ونال الثمار رغم مساعي التنظيمات السابقة. كيف يعجز الكبار وينجح الصغار في خاتمة المطاف؟!

_______________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *