يوسف عبدالهادي الحبوش
وعندما أظهرت نتائج التصويت في دوائر مدينة طرابلس الخمسة فوز حزب المؤتمر بجميع مقاعدها؛ توجه المرشحون الفائزون (السرّاج والقلهود والزقلعي وميزران والزقعار) توجهوا فورًا إلى مقر الحزب حيث عم الكثير من الإبتهاج والاحتفالات الصاخبة ولكن ليس بدون حوادث>
ورفض بشير السعداوي أن يحضر حتى تعلن جميع النتائج، ولكن وفي ذلك المساء, وبعد أن صار معلومًا أن الحكومة قد فازت بأغلبية ساحقة في الأقاليم وقع السعداوي في أكبر أخطائه التي جرّت عليه وعلى البلاد الويلات؛ إذ عُقد يومها إجتماع في بيته وتقرر فيه الدعوة إلى إضراب عام يستمر لمدة 7 أيام، وإذا لم يتم الغاء نتائج الانتخابات فسيتم إعلان الحرب الاهلية ومهاجمة المباني الحكومية وخاصة مراكز الشرطة.
وهنا بالإمكان القول أن الشيخ السعداوي ربما فقد توازنه عندما لم يرضخ لفكرة أن محمود المنتصر قد نجح فعلًا في سحب البساط من تحته.
هذا وبالفعل, فقد عُثِر في ساعات الصباح الأولى من اليوم التالي الموافق 21 من فبراير على عدد من المنشورات الملصقة على جدران المباني في أجزاء مختلفة من المدينة تدعو الشعب الليبي للثورة ضد الحكومة دعما لإخوانهم الذين فقدوا أرواحهم خلال إضطرابات اليومين الماضيين “وهم يقاتلون من أجل قضية وطنهم“>
وخلال الصباح طاف المشاغبون المدينة مُرغِمين أصحاب المتاجر على إغلاق متاجرهم للانضمام إلى الإضراب, وعند حوالي منتصف النهار بدأت الحشود في محاولة محاصرة مبني الحكومة حيث كان على الشرطة في نهاية الأمر إطلاق النار بعد أن حاولت دون جدوى تفريق المتظاهرين والذين بدأوا في هذا الوقت في رشق رجال الشرطة بالحجارة.
أما ما حدث في العجيلات وصبراتة فهي مأساة مريعة أخرى، لقد بدأ الأمر هناك كأن حربا أهلية اشتعلت فعلًا بين أنصار المؤتمر ومرشحين من حزب الاستقلال وجرّت أذيالها على الأهالي المساكين,
وقتل في العجيلات وحدها 3 أشخاص على يد الشرطة التي أرادت أن تحمي نفسها من غضب المتظاهرين كما جُرِح آخرين. وعلى خلفية هذه الاحداث ترصد المواطنان (ب.ص) و (م.ش) للوجيه المحلّي (ك.ق) ليقتلاه غيلة في وضح النهار, ويتمكنان من الهرب إلى مصر حيث سيستقبلهما بشير السعداوي شخصيًا ويرتب لهما هناك أسباب الإقامة إلى أن رجعا إلى البلاد بعد انقلاب سبتمبر. كما تم هناك جلاء عائلات ظلمًا, وكادت الحرب أن تقوم بين قبيلتين كبيرتين على خلفية هذا الصراع الذي قام بين أنصار الوطني ومرشحي حزب الاستقلال.
وكذلك في الزاوية, حيث قامت جماهير أنصار المؤتمر يوم الجمعة 22 فبراير بقطع الطريق الساحلي بين طرابلس والمدينة, كما هاجم المتظاهرون القوة القادمة من طرابلس بالقنابل والحجارة وقطع الحديد, وحاصروا أيضًا مقر المتصرفية بمن فيه من موظفين وشرطة ومسجليّ الأصوات ودارت معركة دفاع عن النفس بين الطرفين قتل فيها من قُتِل وجرِح فيها من جُرِح وأسِر آخرين.
هذا وتفيد التقارير أن إجمالي الخسائر البشرية خلال الأيام 19 و20 و21 و22 فبراير بلغ 17 قتيل من الشرطة والمتظاهرين (الرقم يحتاج الى مزيد من البحث), وتم الابلاغ عن 210 جريح, ولكن الاعتقاد يسود بأن هناك الكثير من الجرحى الذين لم يُبلّغ عنهم خوف الاعتقال، وألقي القبض على اكثر من 300 شخص
وفي فجر يوم 21 فبراير طار رئيس الوزراء الى بنغازي لمقابلة الملك بالخصوص وعاد في المساء نفسه وتم فرض حظر التجول من الساعة السادسة مساء وحتى السادسة صباحا, وفي صباح اليوم التالي وبعد أن تجمع لدى الشرطة الآن الأدلة الكافية على أن الشيخ بشير السعداوي سيُعتبر الآن هو المسؤول عن هذا التحريض الدموي فقد تقرر ترحيله عوضًا عن اعتقاله ومساءلته ..
وبعد أن عاد رئيس الحكومة محمود المنتصر من مقابلة الملك, واعتُبِر أن بشير السعداوي سيكون هو المسؤول الأول عن التحريض على تلك الاضطرابات الدامية، وأمام خطورة الموقف الذي يتهدد الوطن الوليد واتحاده الهش؛ لم يكن أمام الملك ورئيس وزرائه إلا أن يُؤديا الخدمة الأخيرة للشيخ السعداوي بأن يتخذا القرار الصارم بإبعاده عن البلاد في هذه الفترة، عوضًا عن مساءلته وسجنه الذي لا يليق طبعًا بزعامة مثله, وهو أيضًا ما لن ترضى عنه مصر, ولا السعودية باعتباره مواطنا يحمل جوازًا سعوديًا ومازال يتقاضى راتبه كمستشار للملك عبد العزيز.
وعليه يصح القول أن قرار الإبعاد الذي غُلِّف بحجة قانونية ولم تفح منه رائحة الجهوية على الإطلاق كان حلاً معقولًا بالفعل، بل كان يمثل خدمة جليلة أسداها الملك ورئيس حكومته إلى السعداوي، إذ حافظا على مكانة الرجل من السقوط وعلى زعامته من النسيان بعدما فقد شعبيته بين أنصاره وفي طرابلس نفسها, وذلك رغم “معارضة الإنجليز” لمسألة الابعاد وتمسكهم ببقاء السعداوي في البلاد لخلق ورقة مساومة وضغط على الملك إدريس عند الحاجة.
وبالفعل ففي الساعات الأولى من صباح يوم الثاني والعشرين من فبراير تم القبض على بشير السعداوي وشقيقه نوري السعداوي وابن أخيه زهير وخليفة بن شعبان، وكما تفيد شهادة الضابط الليبي المسؤول عن تلك الإجراءات فقد نقلوا رأسًا وبكل احترام إلى مطار قصر بن غشير حيث كانت طائرة الخطوط الجوية المصرية (سعيدة) عائدة في رحلة عادية من تونس، ومنه توجهت إلى بنغازي فمصر، أما السكرتير العام لحزب المؤتمر احمد زارم التونسي الجنسية ذو الاصول الطرابلسية فقد رفض التوجه مع تلك المجموعة؛ فأحيل إلى السجن ليُرحل بعدها بأيام إلى تونس.
هذا وعند وصول الطائرة التي تُقل الشيخ السعداوي ورفاقه إلى مطار بنينا قرر قائد الطائرة أن الأحوال الجوية سيئة بحيث يستحيل مواصلة الرحلة وعليه قضاء الليلة في المطار , فصعد إلى الطائرة عمر شنيب لمقابلة الشيخ بشير, وربما ستفصح “مذكرات شنيب” التي لم تر النور بعد عما جرى في تلك المقابلة وفي الصباح أقلعت الطائرة إلى القاهرة،
هذا وفي نفس الوقت الذي أُلقِي فيه القبض على الشيخ بشير السعداوي تم تفتيش مقر رئاسة الحزب ومصادرة جميع الوثائق ,كما تم تفتيش منزله, وتفيد الوثائق السرّية البريطانيّة أنه تم العثور على أربعة مسدسات مخبأة, ثلاثة منها كانت محشوة, وتبين بعد الفحص الجنائي أن الرابع هو السلاح المستخدم في صيف 1951 في إطلاق النارعلى ثلاثة من وزراء طرابلس الغرب ليلا في حي الأسواق!.
والمثير هو أن مرشحي حزب المؤتمر الفائزين في الانتخابات أبدوا فورًا رغبتهم في التعاون مع الحكومة ولم يستقل منهم أحد أو يحتج على قرار الإبعاد ,وفي مقدمتهم يأتي نائب السعداوي وصديقه المقرّب مصطفى ميزران, بل أبدَوا جميعهم تفهمهم الكامل لما حدث، وفي المقابل أبدت الحكومة استعدادها أيضًا للتعاون معهم, ولكنها تعاملت في نفس الوقت بحزم مع الذين تسببوا في أحداث الشغب.
وفي اعتقادي أن هذا التصرف الذي صدر من نواب السعداوي الفائزين إنما نتج عن قناعة جادة بأن الاتجاه الذي ساروا فيه مع زعيمهم ومع شباب المؤتمر المتحمس كان على غير هُدى, وهم على قناعةٍ أيضًاً أن كل تلك الأحداث تمت بعلم من السعداوي وبرضاه, ولا أعتقد شخصيا بصحة القول الذي يفسّر تصرّفهم بالنقص في وطنيتهم أو طمعا منهم في المناصب, كما أن استتباب الأمن فورا وبعد أقل من أسبوع من قرار الإبعاد كان دليلاً كافيا باقتناع الناس بعدم جدوى خطوات بشير في أيام المؤتمر الأخيرة.
تلك التحركات التي هددت مصير طرابلس نفسها قبل أن تهدد مصير الوطن الوليد واتحاده الهش, فبرقة وفزّان اللتان لا مكان فيهما للسعداوي على الاطلاق لن تسمحا بسيطرته عليهما مع طرابلس, وسيكون من السهل جدًا نقض ما وافقتا عليه قبل عام على مضض, ربما نسي الشيخ السعداوي رحمه الله؛ أو ربما أنساه عبدالرحمن عزّام أن الخيارات المطروحة في ذلك الوقت كانت هي الاختيار بين الاتحاد الفيدرالي أو الابقاء على ثلاث أقاليم, وليس بين الاتحاد و الوحدة الكاملة ؟!!.
على اثر ما حدث طلبت مصر والجامعة العربية معرفة سبب استبعاد السيد بشير السعداوي من ليبيا, فقام محمود المنتصر بإرسال رسائل إلى كل من الحكومة المصرية والجامعة العربية والخارجية البريطانية يشرح فيها أسباب استبعاده ومبينا ما قام به بشير السعداوي منذ بداية مناقشة مسالة ليبيا في الأمم المتحدة, وصولا إلى ما حدث أثناء الانتخابات من أعمال شغب دموية طالبًا تفهم هذه المسالة.
هذا ومن المهم القول بكل وضوح أن مسألة إبعاد الشيخ السعداوي كما رأينا لم تنتج عن صراع بينه وبين الملك, ولا جاءت –كما يحلو للبعض أن يُسوّق– كفرصة مواتية للثاني للتخلص منه خشيةً على عرشه, فالملك كما هو معروف كان يكن للسعداوي حتى آخر لحظة كل احترام, ويعامله بكل تقدير, رغم تقلبات السعداوي المزعجة وفي أوقات حرجة من تاريخنا.
وربما من المثير أن نَسُوق هنا نموذجًا لتلك الكتابات الكثيرة التي كُتبت في غفلة عن معرفة الأسباب وبقصور في المعلومات، وعدم فهم لطبيعة ومجريات الأحداث، وأحيانا بسبب انشغال الكاتب بوجهة نظره دون الإحاطة بظروف ونوازع الآخرين. وأقصد هنا ما دوّنه مثلًا السيد “بشير السني المنتصر” في مذكراته الموسومة بـ“مذكرات شاهد على العهد الملكي الليبي” بخصوص مسألة نفي الشيخ السعداوي, ثم نرى التغير الواضح والجذري بينه وبين ما دونه الكاتب نفسه من جديد وفي ذات الموضوع على صفحات موقع ليبيا المستقبل وبعد مرور أقل من 10 سنوات من خروج تلك المذكّرات , حتى ليظن المرء أن الشهادة ليست لنفس الشخص, وهو ما يوّضح بجلاء كيف يمكن للعقول أن تنضج بفعل عامل التجربة والمقارنة الذي يتطور بمرور الوقت وبظهور المزيد من الوثائق والحقائق الجديدة, وهو ما يحثنا على عدم التسرّع في تقبل المرويات على عواهنها, وعلى ضرورة الإحاطة بمتطلبات الحذر الشديد عند التعامل مع الآراء الشخصية وفي المسائل التاريخية تحديدًا.
لقد كتب السيد السني في مذكراته يقول:
“…. , ولكن الملك إدريس اتخذ قرارًا صارمًا من تلقاء نفسه بعد أن شعر بأن السعداوي اصبح خطرًا عليه, ووصوله إلى الحكم في انتخابات شعبيّة سيقوي مركزه, ويجعله يسيطر على شؤون البلاد ويهدد سلطات الملك, وربما يعمل على الغاء النظام الاتحادي وفرض الأغلبية الطرابلسية في البرلمان. ولهذا قرر الملك إبعاد السيد السعداوي في أقرب فرصة …..إلخ“.
ومن جديد كتب السيد السني نفسه في مقالة له على موقع ليبيا المستقبل بتاريخ 25/9/2015 يقول:
” …., والغريب أن الانجليز لم يقترحوا على الملك نفي السعداوي كما يُشاع, بل كان الانجليز يرغبون في بقائه حتى يمكنهم الضغط على الملك والحكومة كلما استدعت الحاجة, وقرار النفي كان قرارًا سياديا أصدره الملك حفاظًا على الأمن, لأنه لم يكن يرغب في فتح الخلافات الإقليمية والقبلية والحزبية وهي عديدة في ليبيا وخاصة في الفترات الأولى للاستقلال, رغم أن الملك كان يقدّر بشير السعداوي وخدماته العظيمة في تحقيق الاستقلال ووحدة البلاد, ولكن مصلحة البلاد وتربص جيرانها جعل الملك يتخذ هذا القرار الذي لم يكن يرغبه, وللسياسة فلسفتها وللقرارات الحكومية مسببات ظاهرة وخفيّة“.
…
يتبع
_____________
المصدر: صفحة علاء فارس على الفيسبوك