يوسف عبدالهادي الحبوش

الاقتراب من النهاية

في 13 ديسمبر عاد السعداوي الى طرابلس بعد زيارة خاطفة للقاهرة, وصرّح بعد عودته أنه متفق مع وزير الخارجية المصري الذي وعده بالدعم الكامل لحزب المؤتمر في كفاحه ضد المؤامرات البريطانيّة!!”.

لقد كان للأموال المصرية التي ينفقها السعداوي إثر كبير في دعم بقاء المؤتمر الوطني ودعم حملته الانتخابية, وفي تلك الفترة تم توزيع مبالغ كبيرة من المال في جميع أنحاء طرابلس الغرب جاء معظمها من الحكومة المصرية التي كانت تتطلع إلى فوز المعارضة, وبذلك تتمكن مصر من ممارسة نفوذها، ويعتقد أن المبلغ الذي أنفقته الحكومة المصرية عبر بشير السعداوي حتى يوم الانتخابات كان قرابة 140.000 جنيه إسترليني.

ولكن ربما بفعل شعور الجارة الكبرى أن الفرصة فاتتها في التحكم بمصير ليبيا بسبب انتهاء الجمعية التأسيسيّة من تشكيل الحكومة وإنجاز الدستور وقرب اعلان الاستقلال؛

فقد تضاءلت تلك الاموال، وعليه ومع قرب انتهاء تلك السنة وكما تفيد المصادرفإن شعبية وتأثير بشير السعداوي قد عانت من انخفاض كبير, وترك المزيد من أعضاء حزب المؤتمر أماكنهم, وباشروا في التحول تدريجيا إلى جانب الحكومة إلى جانب العديد من الاصوات التي لا ولاء لها؛ لكنها كانت على استعداد لتأييده مادام يملك أموالًا ليوزعها وبالتالي لن تبقى في ظل تضاؤلها.

وباختصار وفي يوم 24 ديسمبر 1951 استمعت طرابلس بابتهاج شديد كما استمعت بنغازي إلى صوت الملك إدريس الأول معلنًا استقلال ليبيا, الأمر الذي يعني تمكّن عملاء الاستعمار” (وفق نظرية السعداوي!) من اجتياز الحواجز الجسيمة التي ألقاها المجتمع الدولي في طريق استقلالهم وفق نص القرار, فها هم ينجحون في تشكيل جمعيتهم الوطنيّة التي أجلست الملك الجامع للشمل على عرشه, وأرست لَبِنات مؤسسات الدولة, وشكّلت الحكومات الصغرى والاتحادية, وأنجزت الدستور الذي خرجت من رحمه دولة ليبيا العصريّة للمرة الأولى في تاريخها.

وفي الثامن والعشرين من نفس الشهر انطلق السعداوي إلى بنغازي لتهنئة الملك بالاستقلال!!, وعاد الى طرابلس في الثالث من الشهر التالي, وقد طلب الملك حضور عمر شنيب لذلك اللقاء لتجنب أي تصوير خاطئ للمقابلة من قبل بشير الذي صرّح لأتباعه عند عودته بأن الملك عرض عليه منصب رئيس الديوان الملكي في طرابلس نظيرًا لعمر شنيب في برقة, وكذلك حقيبتين وزاريتين في الحكومة الاتحادية لأعضاء حزب المؤتمر الوطني، وأضاف السعداوي أنه رفض العرض مفضلًا انتظار ما تسفر عنه الانتخابات القادمة.

هذا وربما فاتنا أن نذكر أن هذه ليست المرة الأولى؛ فقد عرض الأمير إدريس على السعداوي عندما زاره قادما من مصر في فبراير 1950 بعد صدور قرار الأمم المتحدة أن يتولى رئاسة حكومة طرابلس المؤقتة, لكن بشير وبعد وصوله الى طرابلس وترضية لأنصاره المعترضين رفض ذلك العرض.

وترى وجهة النظر السرّية البريطانية أن هذه الرواية من قبل بشير السعداوي إلى جانب زيارته للسفير البريطاني التي عرّج بعدها على القائم بالأعمال الأميركي ربما كانت مؤشرا على خوفه من نتائج الانتخابات, مثلما كانت لجس رد فعل أنصاره إذا تطلب الأمر بعد ذلك التعاون مع الحكومة الحالية.

لقد كان بشير السعداوي وحزبه مصممون على الفوز بالانتخابات القادمة بأي ثمن, وخلال مباحثاته مع الأميركيين وتصريحاته لأنصاره بدأ يشير بوضوح إلى أنه سيكون هناك عنف على نطاق واسع إذا لم تكن النتيجة لصالحهم كما سنرى.

ولا شك أن الجولة التي قام بها محمود المنتصر رئيس الحكومة للمقاطعات وما حظي به من استقبال شعبي حارا أينما حل، ومقابلته لعدد كبير من أنصار المؤتمر المنقلبين الذين وعدوا بمساندة الحكومة قد أربك بشير السعداوي, الأمر الذي دعاه للقيام بجولة أخرى سريعة في المنطقة في محاولة لمواجهة نجاح المنتصر؛

وبأسلوب الصرخة الدينية ( الله أكبر) التي لها تأثير كبير على مجتمعنا الإسلامي التقليدي, كما تم الترويج للقول بأنه يُعتبر أي شخص يعطي صوته للحكومة كافرا، واتهم السعداوي شاغري المناصب الحكومية الحاليين بأنهم عملاء قوى الإمبريالية بريطانيا وفرنسا وأمريكا والنظام الفاشي السابق.

لقد كان لإصدار المنتصر بيان انتخابي من تسعة عشر نقطة يحدد برنامج الحكومة قبل جولته تلك في أنحاء الإقليم وقع جيد حقق الأثر المطلوب على السكان, مما ساعد في كسب المترددين الى صفه. وعليه فقد بدأت المعارضة المتمثلة في المؤتمر تفشل بشكل غير متوقع في إثارة الاستياء تجاه الحكومة أو تقليص سلطتها.

الأيام الدامية

إذا كان النجاح في قضية الاستقلال حدث كبير, فقد كان هناك حدث سياسي بارز آخر ؛ ألا وهو الانتخابات الليبية التي ستجري لأول مرة في تاريخ ليبيا, وتقرر لها أن تقام في التاسع عشر من فبراير 1952.

وقد كان واضحًا مع اقتراب هذا الحدث أنه سيكون بمثابة اختبار للقوة بين طرفين رئيسيين متنافسين؛ الموالون للحكومة, والمؤتمر الوطني الذي يمثّل المعارضة لتك الحكومة.

وأما فيما يتعلق ببقية الكيانات السياسيّة الأخرى المتواجدة في المشهد الطرابلسي فقد كان حزب الاستقلال يجتهد ليتم تمثيله عن طريق شخصيات معروفة تتمتع بشعبية شخصية“, وأما حزب الكتلة الوطنية الحرة فلم يشارك في تلك الإنتخابات, وانحصرت مهمته في عمل كل ما في وسعه إفساد أو عرقلة أي جهود بناءة قائمة، أما بقية الأحزاب الأخرى المتوفية سريريا بسبب نقص التمويل؛ فلم يكن لها هي أيضًا أي دور في تلك الإنتخابات.

لقد أدت القنبلة التي ألقِيَت قبيل الانتخابات وتحديدًا في 19 يناير على مقر صحيفة الليبيوحيث يقيم أيضا صاحبها ورئيس تحريرها الشيخ على الديب وكان دافعها هو الانتقام بسبب نشر الشيخ الديب لمقالات تهاجم بشير السعدواي وأتباعهإلى استياء شديد في طرابلس, وعليه فقد حُسِبت هذه العملية من ضمن التهديدات التي أطلقها حزب المؤتمر الوطني بأنه عازم على الفوز في الانتخابات بأي ثمن حتى ولو باللجوء للعنف.

فالمؤتمر الوطني بعد أن فشل في التأجيج ضد جهود التأسيسيّة وضد الحكومة بحجة رفضه للفيدرالية؛ ها هو الآن يُعيد التأجيج من جديد من خلال بيانات زعيمه التي تُلَوّح بفزاعة التلاعب بالنتائج, وتهدد بقيام الاضطرابات إذا ما جاءت النتائج في غير صالحه, بل وهدد المؤتمر صراحة في قراراته التي أصدرها يوم الثاني عشر من فبراير بحضور السعداوي أنه وفي حالة إذا ما بدا واضحًا أن الانتخابات لا تجري بطريقة قانونية فسيقاطع المؤتمر الوطني الانتخابات فورا ,وسيتبع ذلك مظاهرات حاشدة واضرابات واضطرابات على نطاق واسع.

وجدير بالقول أن هذه التعبئة التي شكّل بها السعداوي ذهنية من تَبقّى من أنصاره جعلتهم عدوانيين وغير متقبلين لفكرة الخسارة التي ستحيق بهم.

هذا وبما أن السعداوي لم يحصل أثناء زيارته الأخيرة للملك على موافقة الثاني على حضور مراقبين دوليين للانتخابات؛ ومع شعوره بالضعف الذي صار فيه المؤتمر فقد بدأ الحزب يروّج بأن الحكومة تنوي تزوير سجلات الناخبين, وعليه أصدر الملك تعليماته للحكومة أنه يريد أن تقام الانتخابات بطريقة ديمقراطية حقيقية.

وتفيد التقارير السرّية أنه وعلى الرغم من تزايد حملة الدعاية لحزب المؤتمر الوطني في جميع أنحاء ولاية طرابلس الغرب فقد قدّم عدد كبير من أعضاء الحزب استقالاتهم خلال الأيام الأولي من شهر فبراير الذي جرى فيه الانتخاب بسبب حالة عدم الرضا الناجمة عند الاعلام على أسماء المرشحين.

وفي اليوم المقرر جرت الانتخابات, وأدلى حوالي 60% من الناخبين بأصواتهم في الدوائر الانتخابية بالمناطق الحضرية في طرابلس, كما بلغت النسبة حوالي 71% في المناطق الريفية, ولكن لمّا رأى أنصار المؤتمر في البداية أن فُرصهم للفوز صارت متعادلة مع الحكومة؛ فقد عملوا على إثارة المتاعب لترهيب الناس للتصويت لصالحهم.

كما اندلعت الاضطرابات العنيفة في سرت ومصراته وترهونة وسوق الخميس وسواني بن يادم, ولم تنفض إلا بعد أن قام رجال البوليس بإطلاق النار على المتظاهرين, حيث لم تجدي القنابل المسيلة للدموع و لا الهراوات.

هذا ووفقا لمذكرات سكرتير السعداوي أحمد زارمنفسه فإن ناخبي المؤتمر في مصراتة وترهونة لم يدخلوا صالات الانتخاب أصلا فضلا عن كونهم صوّتوا، وأنهم اطلقوا النار والحجارة لايقاف عملية التصويت بحجة عدم وجود مراقبين وأن عملية الانتخاب هذه لن تكون نزيهة!, وهذا لا يعدو في حقيقته إلّا تنفيذًا لما جاء في بنود قرار المؤتمر الذي أصدره يوم الثاني عشر من فبراير وذكرناه آنفا.

وعليه, ومن المهم أن نعرف الآن أنه ظهرت انعطافة جديدة ومهمة أضيفت إلى ما سبق؛ فمن فقدان الثقة في السعداوي ومؤتمره والانحياز إلى التيار الموالي للحكومة؛ إلى الولاء للقبيلة والمنطقة الذي بدأ يتغلب على الولاء للمؤتمر, وهو ما يُقره سكرتيره أحمد زارم نفسه بأنه بعد جولة له صحبة السعداوي في بعض مديريات الدواخل شعروا بتغير موقف الناس في تلك المناطق وخذلانهم لهم,

مما جعلهما يحسمان أمرهما بالعودة إلى طرابلس حيث يتواجد أنصار المؤتمر“, بل وصل الأمر بالمُفتي أبو الإسعاد العالم بأن يطلب صراحة من زارم في اليوم التالي من عودتهما بأن يحدد موقفه النهائي قائلًا: (انت معانا والا مع السعداوي؟! .. إن البشير لا يريد أن يسمع كلامنا, ونحن أعرف منه بأوضاع البلاد وأهلها, والناس تجري تحتنا, والبشير بسيرته هذه سيضيّع علينا المصلحة …).

وبهذا المعنى حرفيًا يأتي أيضًا ما دوّنه الأستاذ علي الديب في صحيفته قائلا :

“… والمثال الذي نضربه اليوم على ذلك هو أنه حينما طاف بالدواخل يعني السعداويوجد أتباعه في الفروع غير متفقين على ترشيح رجل واحد في كل دائرة، بل وجد أكثر من ذلك؛ أن الناس قد خلت قلوبهم من أي اعتبار لحزب المؤتمر واخذوا يتجهون اتجاهات أخرى على أساس قبلي وعنصري“.

وبالعودة إلى مجريات الانتخابات وعندما بدأت النتائج تظهر في اليوم التالي الموافق 20 فبراير فقد جرت المزيد من المظاهرات في سوق الجمعة وبن غشير والخمس حيث حاول أنصار السعداوي إتلاف سجلات الناخبين, وفشل رجال الشرطة في تفريق الجموع بواسطة الهراوات والقنابل المسيلة للدموع ليردوا ثانية إلى إطلاق النار.

يتبع

_____________

المصدر: صفحة علاء فارس على الفيسبوك

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *