سالم الكبتي

الصورة.. الدفعة.. الأعوام (56 عاما)

تاْسست الكلية العسكرية الملكية عام 1957 في بنغازي . منح الملك ادريس قصر الغدير في بوعطني حيث كان يسكن ليكون مقرا لها. شرعت أبوابها ذلك العام وسط حدائق النسيان ونهر الليثون والتفاح الذهبى أيام بوسبريدس العتيقه.

كان قوام الدفعة الأولى التى تخرجت صيف 1959 واحدا وثلاثين طالبا ومعهم أربعة من المغرب صاروا ضباطا في بلادهم . ثم توالت الدفعات. تنوعت وتعددت.

وكانت الدفعة الثانية التي تخرجت في العام التالي 1960 أكبر عددا. ضم طاقم التدريس والتدريب في البداية ضباطا عراقيين وليبيين وضباط صف إنجليز وليبيين أيضا.

كان الأقبال على الألتحاق لدى معظم الشباب يمتلئ حماسة ورغبة قوية في أن يكونوا ملازمين بالجيش. أن تكون ضابطا تلك الأيام في الجيش من الأمور التى تعد حلما واختصارا لبعض طرق الحياة في الدراسة والوظيفة.

كانت الدولة الليبية توقفت عن إيفاد المقبولين للدراسة العسكرية في كليات مصر والعراق وتركيا وأكتفت لاحقا بتطوير ضباطها وملاكات الجيش فى أغلب التتخصصات العسكرية أو فى الأركان عبر المعاهد العسكرية في بريطانيا وأمريكا. وكانت قبلئذ توقفت أيضا مدرسة ضباط الزاوية بعد أن نجحت في تخريج دفعتين متتاليتين عام 1954.

كان التكوين للكلية منذ أكثر من ستين عاما في بنغازي التي شهدت توافد الكثير من أبناء المناطق المختلفة للمثول أمام لجان القبول والفحص الطبي والمقابلة الشخصية وأستمرت الكلية في مهمتها العسكرية الصرفة في تخريج الضباط ولم تغلق أبوابها سوى بضع أعوام قليلة بعد سبتمبر 1969.

أرسلت بعثات أخرى لمصر. كان أغلب الضباط الكبار وقادة الجيش في السجن أو الاقامة الجبرية ثم عين أغلبهم سفراء فى الخارج أو في وظائق مدنية أخرى في مرافق الدولة .

ومن بعدها عادت الكليةإلى مقرها في بنغازى ثم أنتقلت إلى طرابلس وأضحى مقرها الجديد في معسكر (التكبالي). وهو خليفة عمر التكبالي أبن المدينة القديمة في طرابلس. القاص المتمرد على حياته. الشاب القلق الذي لم تسعه تلك المدينة فهاجر إلى ألمانيا وعاد محملا بكمية من القصص عن تجربته هناك والتحق فى صفوف الكلية ليتخرج ضمن الدفعة السابعة عام 1965.

وصار ضابطا بالمدفعية بحامية الزاوية . وبعد عام رحل في يونيو 1966 في المستشفى العسكري بمعسكر باب العزيزية. أشرف على علاجه أطباء من الصين الوطنية يتبعون الجيش الليبي.

كان الهدف من إنشاء الكلية إعداد ضباط وطنيين مؤهلين يقودون تشكيلات الجيش ويساهمون في المزيد من إنطلاقه وتطوره ويحلون محل الكوادر السابقة من الضباط القدامى الذين شاركوا فى أدوار الجهاد أو تكوين الجيش السنوسي أو كانوا ضمن قوات البوليس. كانوا يعرفون فى الأعم بضباط شرف. كانوا قد التحقوا أفرادا أو ضباطا أو أصوالا وصاروا ينالون ترقياتهم وفقا للتدرج العسكري وحاجة الجيش بعد الأستقلال لكي يكونوا ضباطا به.

وهنا أسهمت قيادات الجيش المختلفة بالأشراف والتنظيم على وضعية أساس التدريب في قبول الأفراد شبه الأميين أو متوسطي التعليم إستبعادا لأي خلل يحدث في (ضباط الصف) الذين يعتبرون قاعدة مهمة فى الحياة العسكرية المتواصلة.

وقد تطوع الكثير من الضباط المتعلمين في محو أمية جنودهم داخل الثكنات الموجودة في المناطق المختلفة لمسايرة التطور والنهوض بأفراد الجيش وتعليمهم .

في بنغازي. تلك الأعوام كان طلبة الكلية يشاهدون في شوارع المدينة وأزقتها بعد أن تحضرهم الحافلة مساء كل خميس من الكلية إلى نادي النهضة في شارع أدريان بلت (الهلال فيما بعد) ثم معهد دي لا سالى. محطتان كانتا معهودتين للطلبة فى الوصول ثم الانتظار فى اليوم التالى الجمعه من كل اْسبوع.

يقضون عطلتهم ويسيرون بلباسهم العسكري والقيافه المنضبطه. يحمل كل منهم حقيبة صغيرة وعصا عسكرية. ينتشرون في المدينة. يقيمون ليلتهم فى أحد الفنادق أو في بيت يضمهم مع أصدقاء مدنيين للأقامة بالأيجار أو لدى الأقارب.

كان أغلبهم من خارج بنغازي. وثمة صورة مألوفة كانت تتكرر كثيرا ولاتغيب عن المجتمع فى المدينة حين يشاهدون داخل سياج ملعب 24 ديسمبر جالسين لمتابعة المباريات اْو فى دور السينما لمشاهدة بعض الأفلام الشهيرة خاصة المتعلقة بالحروب والمعارك أو في حفل أم كلثوم في مارس 1969.

كانت إدارة الكلية تتولى التنسيق في ذلك والحجز المسبق لهم في مثل هذه الأحوال . ماعدا ذلك فأنهم في بقية أيام الأسبوع ينقطعون تماما عن الحياة المدنية.. ويظلون هناك بعيدا في الكلية في بوعطني. ويمدون أبصارهم في ساعات الفجر المبكرة أثناء حصة الرياضة والهرولة إلى أضواء المدينة البعيدة دون أن يصلوا إليها !

كانت بنغازي تحتوي كليات الجامعة الليبية وكلية الضباط الملكية (البوليس) التى تاْسست عام 1959 ومعهد المعلمين ومدرسة التجارة والصناعه إضافة إلى المؤسسات التعليمية الأخرى.

كانت كلها تضم طلابا مدنيين وعسكريين من مختلف أرجاء ليبيا. يتعارفون ويدرسون ولتستمر علائق الصداقة وتتوطد بينهم لتصل إلى المصاهرة في أحيان كثيرة. ومن بعيد تتبدى وتلوح في عقولهم أفكار السياسة والأخبار. ومايرد عبر الصحف والأذاعات والمكتبات والمراكز الثقافية (المصري البريطاني الأمريكي _ الليبي) وغيرها من الوسائل. تنهض السياسة فى أفق بنغازى وعقول الأبناء.

أعوام تمر على التأسيس. فيما شهدت الكلية الكثير من الطلبة. وسمعت وقع خطواتهم. ولهاث أنفاسهم في الساحة والقاعات. الضباط والأحداث ومجريات الأمور. والكل كان ينصرف هناك في الكلية إلى الدراسة والتدريب والمعسكر الخارجى السنوي خلال الصيف في طلميثة .

وثمة كمد في الصدور كما أشار التكبالي في محاولة شعرية له داخل جدران الكلية عام 1964. وكانت الدفعة الحادية عشر صيف 1969 أخر الدفعات في العهد الملكي.

كانت العسكرية ترتبط لدى الكثيرين في ليبيا أو غيرها من البلدان بحب الوطن والواجب وإحترام العلم والقسم. وكان الجيش الليبي نشأ في الأساس على هذه الروح الوطنية البالغة والمؤثرة منذ التقى كل رجال و شباب ليبيا وأنضووا ضمن الجيش السنوسي في 9 اغسطس 1940.

وظل هذا الجيش في الواقع عنوانا أصيلا من عناوين الوحدة الوطنية كما فعلت لاحقا الجامعة الليبية والحركة الكشفية في تأصيل هذا المعنى الكبير . كان الوطن هو الأساس وكانت الوطنية تعمل بلا توقف وتقاس بالبذل والعطاء واعداد الأجيال دون النظر إلى الأموال والعطايا والمناصب!!

تخرج الكثيرون من الكلية. صاروا ضباطا. أهتمت بهم الدولة. أوفدتهم في دورات في الخارج وأعتنت بهم ومضت في تطوير الجيش وتحسين أدائه رغم كل السلبيات التى حسبت لغير صالحه تنمية لقدرات الأمن والبوليس. غطى أغلب الضباط الخريجون وحدات الجيش المنتشرة في البلاد.

وفي التاسع من أغسطس عام 1965 الدفعة السابعة تخرجت . كانت أيضا من الدفعات الكبيرة في ذلك الوقت. شباب من كل المناطق التحق بها أواخر عام 1963. وأنضم إليها بعض ممن لم يكتب له النجاح والتخرج في الدفعة السادسة عام 1964 .

في تلك الفترة كان الخطاب القومي على أشده. والتيارات الحزبية والبحث عن طريق. كان العسكريون العرب منذ سنوات بعيدة قد شعروا بأن عليهم واجبا يتحتم تحقيقه تجاه قضيتهم العربية منذ دراسة بعضهم في مدارس اسطنبول الحربية مثل عزيز المصري ورشيد المدفعي ونورى السعيد وجعفر العسكري وغيرهم من الذين فاض لديهم الحلم القومى بتشييد الكيان العربي القومي.

ووجد العسكريون العرب أيضا في جانب أخر الفرصة في تعويض الهزيمة والنكبة فى فلسطين عام 1948 بالتغيير والأنقلاب على السلطه في الداخل وتحميلها مسؤولية ماجرى أمام العدو.

وتنوعت أشكال ذلك التغيير وأضحى باب الأذاعة في العواصم العربية سهل المنال. وأقبل نتيجة لذلك حسنى الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي وضباط مصر والعراق والسودان للدخول في السياسة وترك الثكنات والمسؤولية الرئيسة في إعداد الجيوش وتدريبها .

ولعل الوضع الدولي واشتباك المصالح والحرب الباردة أجمعت على مباركة كل ذلك في فترة من الفترات. رأت فى الضباط الصغار نموذجا يستهوى الشارع والرغبة الكامنة في صدره للتغيير . وظلت قضية فلسطين والقضاء على الأقطاع والمظالم وطرد الأحتلال الأجنبى وتحقيق الوحدة العربية معالم بارزة ومهمة لذلك التغيير في المنطقة المليئة باللهيب والجمر.

وفي الصورة.. في أغسطس 1965 تبدو الدفعة السابعة. كانت إدارة الكلية تحرص على تخليد يوم التخرج بالتقاط صورة لكل دفعة. طلبة سيضحون ضباطا. سيحملون الرتبة ويمضون نحو المعسكرات وليس إلى أماكن أخرى.

كان البعض من الدفعة شرع في تشكيل خليته العسكرية الأولى ليحقق في سبتمبر 1969 ما حلم به. والصورة عمرها كما نرى أكثر من خمسين عاما. والتاريخ يتحرك. الصورة تضم الكثير. دفعه كبيرة بمقياس تاريخ الكلية في بوعطنى ذلك الوقت. غابت وجوه. بقت وجوه. شاخت وجوه. تغير الزمن. والناظر خلالها من الدفعة المذكورة اْو غيرها يسأل بقوة :

هل كان يدور فى النفوس أن يحدث ماحدث فى سبتمبر 1969 ثم مابعده بأربعين عاما؟

هل كان يتوقع أحد أن يحدث ماحدث ويقع ماوقع.. هل كانت الصورة ستظل ثابتة ولاتتغير؟

إنه الزمن وأطيافه وظلاله . مجرياته وأحداثه . وسبحان العلي القدير .

الصورة تحركت. تغيرت. لم تعد ثابتة. الوجوه تحركت أيضا وانتشرت. تباعدت وإقتربت. تنافرت وأختلفت وبعضها بقى فى مكانه لم يتحرك! وتلك حركة التاريخ وسنة الحياة . وسبحان الله مرة ثانية الذي يغير ولايتغير .

في الطرف بعيدا أول الجالسين على اليمين خليفة التكبالي الذى مضى بعد عام من التخرج. وفى الطرف الأخر بعيدا أول الجالسين على اليسار محمد الاشهب السليني المعروف بمحمد جمعه الشلماني الذى رحل شهيدا في أغسطس 2011. وفي الوسط المعلمون والضباط : محمد الفيتوري وجمعه عوض ادريس وإسماعيل الصديق والمبروك عبدالمولى.

ثم الطلبة وابوبكر البرانى وعلى مفتاح الاطيوش وابراهيم الصكوح ومنصور عبدالصادق .

أربع صفوف واقفة تنظر حيث المصور. ومضة ولحظة من التاريخ. وتختلط الوجوه والشخوص ورفقة السلاح التى فرقت في بعضها لاحقا بين الرفاق.

البعض غيبه السجن. البعض طورد ولوحق. البعض ناله الحقد والأنتقام. هل كان كل من فى الصورة أو الناظر اليها يعتقد بأن الحلم سيغدو مؤلما للجميع.. وللوطن؟

أخر الصفوف مختار القروي وأمامه بالضبط معمر القذافي ثم في الصفوف سليمان الكوشلي و عوض حمزه ومصطفى الخروبي ومحمد نجم والصف الذي أمامه ابوبكر يونس والخويلدى الحميدى وبشير هوادي وعبدالمنعم الهوني.

وغاب عن الصورة عبدالسلام جلود .

شرخت الأيام الصورة. تفرق الرفاق. الظروف والسياسة. قبلها كانوا رفاقا في الكلية ثم في المجلس ومعهما من الدفعة اللاحقة.. عمر المحيشي وامحمد المقريف.

وفى الصفوف اْيضا زملاء الدفعة.. جمعة محمد الصابري وعبدالرزاق بالخير وحسن عبدالوهاب وامحمد زكرى العزابي وسليمان عياد ومحمد موسى الفاخرى ورضوان صالح وعبدالله سعيد وصالح الطيف وصالح الدروقى والزرقانى الزغدانى وسعد هابيل ومحمد جادالله وشعبان عبدالونيس.. وغيرهم. وغيرهم أيضا.

صورة كانت جامدة ذلك اليوم ومنضبطة ثم تحركت في كل الأتجاهات وإن كان التحرك في بعضه أو معظمه مؤلما وفادح الثمن. ثم انشرخت الصورة وصارت لاحقا جزء من أطياف التاريخ!!

_____________

المصدر: المؤتمر الوطني لتفعيل دستور الاستقلال وعودة الملكية الدستورية لليبيا

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *