العقيد : صلاح الدين أبوبكر الزيداني

واضعي عقيدة الدولة في جانبها السياسي هم من يتحمل مسؤلية الحرب واستمرار التقاتل والتناحر بالدرجة الأولى وعلى الرغم من إختبائهم دائماً وراء صف القيادات العسكرية إلا أنهم هم من يقع عليهم عبء تلك المسؤلية كاملة أدبياً وقانونياً وتاريخياً.

لأن الحرب والإقتتال سينشأ عنهما في الغالب إزهاق أنفس وإراقة دماء ينبغي أن تكون الدوافع والأهداف التي يشرع من أجلها القتال تستحق التضحية وبذل الأنفس ودماء المقاتلين التي ستراق على أرض المعركة ستكون رخيصة لأجلها .

وبذلك تكون مهمة العقيدة العسكرية هي منع إهدار القيم الإنسانية والأخلاقية التي شرع بموجبها القتال وتجنيب من لا يعنيهم القتال ويلات تلك الحروب أي محاولة حصرها على المؤمنين بها والداعمين لها وعدم الزج بكامل الوطن لأتونها ، إلى جانب عدم ترك الحرية للمحاربين لفعل ما يشاؤون من استمرار القتل والإفناء أو التمثيل بالجثث أو الإعتداء على الأعراض أو تعذيب للأسرى ما ينتج حقداً وكراهية يطول أمدهما بما يجعلهما وقوداً لإستمرار التنازع والقتال والثأر الذي سيسود الفكر الجماعي لمن شردوا وقتلوا وكانوا واهليهم وقودا للحرب وزج بهم في اتون صراعات لا تنتهي.

لكل ذلك تحتاج الدول والجيوش للعقيدة العسكرية لأنها تمنع البغي والظلم وتصون المصالح وغايتها كيف تحمي الجيوش دولها وأممها وتضع قواعد الاشتباك الضامنة لبقاء القيم الإنسانية والأخلاقية في الحرب.

يتم بناء عقيدة الدولة العسكرية كمشروع متكامل يبدأ من أعلى سلطة في الدولة حتى يصل للجندي في الميدان يعتمد فيه على حاجة الدولة إلى الأمن لحماية مصالحها الوطنية ومن المؤكد أن الأمن لا يتحقق للدولة إلا بوضع مفهوم شامل للأمن يمكن إعتباره قاعدة مرجعية يتحدد فيها العدو من الصديق وكيفية المحافظة على إستمرارية وتوفير الأمن في ظل الظروف العادية أو المعقدة الطارئة.

وهذا المفهوم الأمني الشامل ينتج عنه عقيدة شاملة تتفرع منها عقائد فرعية من ضمنها العقيدة العسكرية، ولكي تفي هذه العقيدة بمتطلبات مستويات الحرب فقد صنفت إلى ثلاثة أنواع (أساسية، بيئية، تنظيمية):

الأولى أساسية .. توضح نظرة القيادة السياسية للدولة في استخدام القوة العسكرية.

الثانية بيئية .. تبين كيفية توظيف القوات العسكرية في بيئات العمل المختلفة بتغير السلاح ومداه ونوعية المعدات وقوام التشكيلات وشكل الأرض وطبيعة التهديد ومدى القدرة على إدامة المجهود القتالي وغير ذلك من الأمور الخاصة بتشكيلات القوات (البرية، الجوية، البحرية).

الثالثة تنظيمية … ترشد وتوجه استخدام التنظيمات والوحدات العسكرية على اختلاف أنواعها نحو أهدافها ونهانها بإستمرار جنى لا اتحرف وتحيد عنها.

إن من ضمن أساسيات بناء العقيدة العسكرية بناء الفرد المقاتل وتدريبه وإيجاد دافع مستمر لجعله يقاتل ويستميت في القتال من أجله ولأجل ذلك خططت الدول والجيوش لإيجاد واعز لمقاتليها..

فمنهم من جعل ذلك الدافع هو الدفاع عن الارض الإقليم – القبيلة وهذا حال معظم دول العالم بما فيها الدول العربية ويقوم هذا الأمر على اساس ارتباط المقاتل بالأرض التي تعود جذوره اليها وكل ارتباطه النفسي العاطفي كقيم وأفراد يستحقون بذل النفس للدفاع عنهم .

ومنهم من جعل الدافع لمقاتليه هو الدفاع عن أشخاص أو قادة كالنظم الشيوعية والشمولية وتشترك معهم الكثير من الدول العربية في ذلك أيضاً وعندهم إن الدفاع عن القائد الزعيم الملهم هو الأساس لدفع المقاتل للقتال والتضحية فنجد أن التمجيد لشخص الرئيس هو الأساس في أدبيات رواد هذه العقيدة من خلال نشر صوره في كل مكان ومن خلال الأغاني الخاصة بالرئيس ….الخ من أوجه المدح والثناء لشخص الحاكم ويذكرنا ذلك كثيراً بما نشاهده  في كوريا الشمالية اليوم .

وهناك من جعل الدافع هو الدفاع عن قيم ومباديء يعتبرونها سامية ومنها قيم الديمقراطية والحرية التي ينادون بها مع أنها كذبة منتقاة بعناية لكن يبقى لها جمهورها ومن يصدقها فالمقاتل الأمريكي المجرد من هوية الإنتماء لأرضه ترسخ في وجدانه انه هو حامي الديمقراطية في العالم وراعيها وان حرية البشر لا تقدر بثمن وأن الحرية تستحق التضحية بكل ما هو غالي ونفيس .

أما أقدم واهم دافع قاتل من اجله الإنسان فهو قيم المعتقد الديني فثبات المقاتل وفق هذا المعتقد في القتال يعتمد على ثوابت عقائدية راسخة فإما ان يكون المعتقد الديني صحيح ويكون التثبيت من الله وحده او ان يكون المعتقد الديني باطل فيكون الثبات بقدر ايمان المقاتل بالمعتقد .

وقد تبني الدول عقيدة مقاتليها العسكرية على خليط مما ذكر اعلاه من دوافع القتال فتقدم دافع وتؤخر آخر حسب الحاجة والمصلحة العليا للدولة وقد يكون ذلك هو الأنسب حسب وجهة نظر بعض الباحثين لكني أرى بأن الدافع الديني هو الأقوى وخاصة عند العرب والمسلمين والنصاري الذين خاضوا حروباً كثيرة لا يزال التاريخ يذكرها تمحورت حول ذلك المعتقد .

المصادر المحتملة للعقيدة العسكرية

هناك عدة مصادر أتفق على كونها مراجع محتملة يمكن الإستعانة بها لإتخاذ العقيدة العسكرية لكننا سنأخذ مثالاً وهو الجيش الليبي لمحاولة الوصول لفكرة أوضح حول الموضوع فقد ظهرت فكرة الشعب المسلح كمحاولة تنظيمية وعقائدية لكن تطبيق تلك الفكرة لم يكن له صورة واضحة ومحددة من حيث تبنيها كعقيدة لقوات الجيش.

وفي الحقيقة كانت العقيدة العسكرية من منظور علمي وعملي في الجيش الليبي هجين مختلط من عقائد الجيوش الأخرى وجاء ذلك نتيجة لأن الجيش الليبي يمتلك قدرات بشرية تلقت تعليماً راقياً وعالياً ضمن المدارس والأكاديميات العسكرية في مختلف دول العالم ( على سبيل المثال : أمريكا ، فرنسا ، بريطانيا ، ألمانيا ، السويد ، بولندا ، بلغاريا ، اليونان ، تركيا ، إيطاليا ، أسبانيا ، روسيا ، مصر ، العراق ، السودان ، الجزائر ، ماليزيا ، كوريا ، الصين ، الباكستان ، الأرجنتين ….. ألخ ) ما أدى إلى تكوين شبكة من الخبراء العسكريين الوطنيين من خلال تنوع مشاربهم التعليمية.

وهؤلاء تعرفوا عن كثب على العقائد العسكرية المدرسة والمطبقة في دول العالم التي تلقوا تعليمهم العسكري بها ، وتأثروا بذلك تلقائياً بحكم الدراسة والإختلاط.

فمن تلقى تعليمه في الدول التي تعتمد العقيدة العسكرية الغربية التي تقوم في المقام الأول على التكنولوجيا العلمية وترتكز على مبدأ قليل من المقاتلين مزيداً من النيران لابد وأن يتأثر بذلك فعلياً من خلال الممارسة والتطبيق العملي للعلوم العسكرية التي تلقاها والتي تأخذ بشكل عملي تطبيق المبدأ الأساسي في تلك العقيدة والذي لم يتغير حتى اليوم بل طالته الكثير من التعديلات بما يتوافق وظروف ومستجدات السياسة العالمية.

ويكون على العكس منه تماماً من تلقى تعليمه في الدول التي تعتمد العقيدة العسكرية الشرقية التي تقوم أساساً على مبدأ مزيد من المقاتلين وقليل من النيران.

ومن خلال الإختلاف بين العقيدتين وغياب عقيدة عسكرية ليبية واضحة وجدوا أنفسهم يتأرجحون بين تطبيق ما تعلموه من عقيدتين عسكريتين في آن واحد ومن تلقى تعليمه العسكري في الداخل كان في الحقيقة يتبع نهج العقيدة الشرقية بإعتبار أن غالبية الأسلحة التي تم التدريب عليها ذات مصدر شرقي فاختلاف مصادر العلم العسكري الذي اعتمد عليه في تعليم القادة والأفراد أثر بشكل مباشر على إختيار عقيدة مناسبة للجيش خصوصا وأن الأقطار التي أستقت منها ليبيا علومها العسكرية لاقت هي الأخرى درجات متفاوتة من النجاح والفشل في أداء مهامها الدفاعية والأمنية وغيرت من عقائدها بما يتناسب وأوضاعها الداخلية وعلاقتها الخارجية.

وفي تقديري فإن ذلك ليس عيباً بالقدر الذي يمكن أن نذمه ونقلل من شأنه فهذا المزيج من العقائد ومناهج التدريب أنتج كفاءات عالية وقيادات ناجحة ومع تداخل معنى ومفهوم العقيدة مع الواجب الوطني المعروف مهنياً لأي جيش في العالم وهو الولاء للوطن والإخلاص في الدفاع عنه غاب المعنى الكامل للعقيدة وأهمية إتخاذها كمصدر أساسي كمنهج تدريبي وعملياتي للجيش .

هناك عدة مصادر يتوقف عليها إختيار العقيدة المناسبة لأي جيش وتعتبر دليل أساسي للدول لتبني عقيدة عسكرية خاصة بها ومن الممكن الإسترشاد بها لإختيار عقيدة مناسبة للجيش الليبي وهي كما يلي :

  1. العقيدة الدينية والإيديولوجيات الفكرية والأسس والمبادئ التي يضعها القادة السياسيون وفي ليبيا يتفق الجميع على العقيدة الدينية كأساس محترم في المجتمع وتدور جميع المعاملات اليومية في كنفها ويأتي ذلك كون الليبيين يدينون بدين واحد ويتمسكون بعقيدة دينية واحدة وهي ميزة غير متوفرة في الكثير من دول العالم.

  2. التاريخ الحربي للدولة والدروس المستفادة منه : وهذه أيضاً من الأساسات التي تبنى عليها العقيدة العسكرية على مختلف مستوياتها فالعقائد العسكرية تتأثر بالأحداث التاريخية ، وترتبط بالشعارات التي تلتزم بها الدولة أو الأمة في فترات نضالها وكفاحها العسكري أو السلمي.

  3. الظروف السياسية المحيطة والمتغيرة ومصادر التهديد للدولة : وهذه ينعكس أثرها بشكل واضح ومباشر على العقيدة العسكرية وينبغي الأخذ بها كمعيار أساسي عند إتخاذ العقيدة العسكرية للدولة

  4. ماهية وطبيعة الحرب التي من الممكن أن تخوضها الدولة : أي نوع وشكل ومستوى ومشروعية ووسائل الحرب المتوقع أن تخوضها الدولة لتأمين كيانها وحدودها وأمنها وليبيا حالياً تعتبر دولة غير مستقرة أمنية وسيادتها مهددة وهي أيضاً دولة حباها الله بالعديد من الميزات والخيرات التي تجعلها عرضة في أي وقت لأطماع دول أخرى وبالتالي فتوقع حدوث الأسوأ يجنب الدولة الكثير ويساعدها عملياً على إتباع عقيدة مناسبة تحقق لها السيادة والإستقرار.

  5. الإستراتيجية العسكرية للدولة : ينعكس تأثير ذلك بشكل مباشر على اتخاذ وتنفيذ ووضع العقيدة العسكرية التي يجب تطويرها بشكل مستمر بما يلائم متطلبات الإستراتيجية العسكرية للدولة من أسلحة ومعدات ووسائط مساندة.

  6. جغرافية الدولة وطبيعة أراضيها: وتنعكس ذلك أيضاً على العقيدة العسكرية فموقع الدولة وطبيعة وتضاريس أقاليمها يحدد حجم تنظيماتها العسكرية ونوعيتها وطريقة استخدامها، وكذلك سياساتها الداخلية والخارجية.

  7. الواجبات والمهام العسكرية والأمنية : وهذه تلعب دوراً رئيسياً في وضع وتطوير العقيدة العسكرية والأمنية على مختلف مستوياتها وفي ليبيا يعتبر تأمين الحدود والأمن داخل البلاد من أهم الأولويات التي ينتظر الجميع من الجيش تحقيقها وبإختيار العقيدة المناسبة يستطيع الجيش العمل بفعالية لتحقيق مهامه وواجباته.

_________________

هذا المقال جزء من بحث بعنوان (رؤية حول صياغة عقيدة عسكرية وطنية للجيش الليبي) شارك به الكاتب في المؤتمر العلمي الأول للجيش الليبي وورشة العمل الأولى بكلية القيادة والأركان بالتعاون مع الأكاديمية الليبية للدراسات العليا بعنوان 2912م.

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *