سالم الكبتي
..واستدراكا آخر أراه ضروريا قبل الطريق المؤدي إلى تنظيم الرواد، فثمة ما يقال لترابط الأحداث في الغالب مع بعضها: «إنه على الرغم من تكاثر الأقاويل والشائعات والتقييمات عن شخصية العقيد الشلحي، ودوره بين العسكرية والسياسة، وعلاقته العريقة وأسرته بالملك إدريس، وما يتداول حول تنظيمه «المزعوم»، فإنه يظل في نظر العديد من الضباط، خاصة من أصحاب الرتب الصغيرة، في محل تقديرهم وفقا لأحاديثهم ورواياتهم عنه»!
كان هؤلاء الضباط يثنون على سيرته العسكرية داخل الجيش، وأنهم ظلوا يقعون في دائرة متابعته واهتمامه الشخصي في أثناء فترات انعقاد الامتحانات التي تجرى سنويا للترقية إلى رتبة الأعلى.
كانوا يلاحظون تواضعه وتبسطه في شرح ما غمض من الأسئلة، وتشجيعهم، بالإضافة إلى اهتمامه بالبعض منهم من ذوي الثقافة والمعرفة الذين كان يجرى تجهيزهم للتدريس في الكلية العسكرية أو تولي مهام مختلفة في الجيش.
كانت تلك نظرة سادت الضباط، وقد علمت بذلك شخصيا أكثر من مرة خلال لقاءات عديدة لي مع الرائد محمد نجم، الذي أشار إلى أنه في الامتحانات التي شارك فيها لم يبخل بتقديره ومتابعته، وكذا زميله أبوبكر يونس الذي لقى بعض الصعوبات في الامتحانات باللغة الإنجليزية.
وفي الجانب الآخر، كان العقيد الشلحي محل انتقاد مستمر وتهم طائشة هنا وهناك، أشارت إليه بأنه وراء الفساد في الجيش باتباعه أساليب المحاباة مع «جماعته» في الجيش، وكذا وقوع تعسف ضد الكثيرين منه.
تنظيم الرواد، الذي سيأتي الحديث عنه، جعل بعض أطرافه يشارك في إعداد المنشور الشهير «إبليس ولا إدريس»، ويحمل تبعات الفساد في الجيش على أكتاف العقيد الشلحي، خاصة فيما يتعلق بموضوع تطوير الجيش، وصفقة الدفاع الجوي.
لقد كان العقيد الشلحي خلال هذا كله محل ظلم تاريخي حتى الآن فيما يتصل باغتيال العقيد إدريس العيساوي، نائب رئيس أركان الجيش، في ديسمبر 1962. كانت التحقيقات التي أجريت قد وصلت إلى طرق لم تؤكد تلك التهمة عليه، حيث كان وقتها في مهمة رسمية في إيطاليا، ولحق هذا الظلم التاريخي رفيقه العقيد عون رحومة، الذي قام بإسعاف ونقل العقيد العيساوي إلى المستشفى العسكري البريطاني في السلماني، بعدما تصادف وصوله جوا إلى بنينا في رحلة عادية.
وفي طريقه إلى المدينة، مر بالمكان الذي توقفت فيه سيارة العقيد العيساوي التي يقودها شخصيا خارج الكلية العسكرية بمسافة غير بعيدة، وكان في الرمق الأخير بعد حادث الاعتداء المذكور.
ويشير الزعيم مصطفى القويري، في مذكراته «مقادير» الصادرة منذ فترة قريبة، إلى أنه طوال وجوده في الجيش لم يلاحظ –كما يشاع– أية حساسية أو تنافر أو نزاع شخصي بين الضابطين المذكورين والعقيد العيساوي، بل كان ثمة ود واحترام يربط تلك العلاقة بينهم.
الحادث الذي وقع أو دبر طواه التاريخ، ولم يصل التحقيق بشأنه إلى أي شيء كما أسلفت. السيد سيف النصر عبدالجليل، الذي تولى وزارة الدفاع في حكومة د. محيي الدين فكيني في مارس 1963 بعد الاغتيال بثلاثة أشهر، أخبرني في لقاء معه بالقاهرة مرات عدة بأن الملك استدعاه، وكلفه بمواصلة التحقيقات السابقة التي شارك فيها رجال الأمن من ولايتي برقة وطرابلس، وفي مقدمتهم الزعيم محمد المنصوري والعقيد الصادق خشخوشة والعقيد حسن التومي، وحسن بن يونس عن مكتب الادعاء العام، بالإضافة إلى خبراء إنجليز وصلوا من لندن للمشاركة في تلك التحقيقات.
كان الملك قد وصلت إلى سمعه التهم الموجهة للعقيد الشلحي، وهو القريب منه في كل الأحوال، بالإضافة إلى مطالبات أسرة العقيد العيساوي بمعرفة الجناة الحقيقيين.
كان الملك مهتما بالقضية، ويود معرفة تفاصيلها وأسبابها، والوقوف على الجناة.
وأشار السيد سيف النصر إلى أنه طبقا لتعليمات الملك المشددة في هذا السياق تابع وأشرف بكل دقة على التحقيقات الموالية التي أجريت من جديد، ولكنها أيضا لم تكشف أي دور للعقيدين الشلحي ورحومة، بينما أكد كلا الرجلين لرفاقهما داخل السجن ممن كانوا يطرحون عليهما أسئلة متوالية تتعلق بتهمة الاغتيال، بعد الاعتقال في سبتمبر 1969، أنه لا صلة لهما بالموضوع إطلاقا من قريب أو بعيد، لكنه ألصق بهما.
العقيد الشلحي نالته قسوة بالغة في التحقيقات المتعلقة بالاغتيال إلى درجة بتر فيها أحد أصابع رجليه، ولم يصل أيضا الادعاء العام إلى أية دلائل تدين الشلحي ورحومة.
بهذا، فإن «محكمة الشعب» لم تعرض عليها هذه القضية، وضربت عنها صفحا، ولم ترد أيضا في النظر بقضية إفساد الجيش، التي كان العقيدان الشلحي ورحومة من أبرز المتهمين فيها.
فكيف تستوي التهمة في وجود العقيد الشلحي خارج البلاد وقيام العقيد رحومة إسعاف القتيل!؟ من البداهة من يقتل لا يسعف!
ثم أن طبيعة النظام الملكي في تلك الأيام لم تعتمد التصفية الجسدية، وكان من السهل نقل العقيد العيساوي خارج الجيش إذا وجدت له مشكلة مع غيره كما حدث للعديد من الضباط.
هذا الظلم التاريخي كثيرا ما نشاهده يحيط بتاريخ مجموعة من الشخصيات على المستوى السياسي والعسكري والفكري والثقافي والاجتماعي، وتطغى عليه في تفاصيل عدة عواطف تغمض أعينها في الواقع عن الحقيقة والتثبت من الأمور والوقوف عليها بتعقل وحكمة.
لاحظنا ذلك يطال الكثير من الرموز في تلك المستويات خلال فترة العهد الإيطالي والإدارتين البريطانية والفرنسية والعهد الملكي، وأيضا الفترة التي بعده (سبتمبر).
أخذت هذه الشخصيات بالقياس عليها حيفا وظلما، وحملت فوق ما تستحق، والظلم التاريخي لا بد أن يصحح بصوت العقل قبل أي شيء آخر.
إن التنظيمات في الجيش اتجهت في انتقاداتها إلى نفوذ العقيد الشلحي، حيث كان يخيل لها بأن ذلك النفوذ حقيقة ثابتة.
قد يكون الانتقاد سليما في بعض جوانبه، ولكن الرجل لا ينبغي أن تسند إليه أسباب الفساد على سبيل المثال داخل الجيش لوحده، حيث لم يكن الضابط المسؤول والكبير الوحيد في صفوف ذلك الجيش.
ويبدو من المؤكد أن العقيد الشلحي أيضا كان على علم مستمر بالتنظيمات داخل الجيش، وقد وصلته من مصادر موثوقة معلومات حول تنظيم ضباط الملازمين الصغار على سبيل المثال، لكنه لم يقم نحوهم بأي إيذاء مباشر أو ملاحقة أو تحقيق إلى أن نجح التنظيم المذكور في تولي السلطة في البلاد يوم الأول من سبتمبر 1969.
مع ذلك، لم ينج العقيد الشلحي من تبعات المسؤولية في هذا النجاح، وتقاعسه عن القضاء عليه، إذ رأى الكثيرون أن نجاح الضباط الصغار يعود إلى تراخي العقيد الشلحي تجاه مخططهم، وإهماله ما وصلته من معلومات في شأنهم أو أنهم يتبعون تنظيمه بطريقة أو بأخرى، حيث كان كما تردد ضمن الأقاويل التي انتشرت صيف 1969 ينوي القيام بانقلابه يوم الجمعة الخامس من سبتمبر، لكن الصغار سبقوه يوم «الفاتح»!
وعلى هذا، نظرت غالبية التنظيمات إلى آل الشلحي نظرة مليئة بالشكوك والاتهامات دون استثناء، وظلت الآراء تغذيها المزيد من الروايات والإضافات والزيادات، ولعلها وضعت الأسرة في سلة واحدة بهذه الطريقة.
هذه الأوضاع في الجيش خلقت إرباكا أو ردات فعل نمت معها التنظيمات وتزايدت.
لكن لا بد من الحديث عن «محاولة» البوصيري الشلحي التي تردد بأنها شملت مسؤولين كبار في الدولة والجيش، من ضمنهم شقيقه العقيد عبدالعزيز.
فماذا جرى ذلك العام 1962 بالتفصيل؟
_____________