يوسف عبدالهادي الحبوش
لم تهدأ ثائرة السعداوي, وها هو يسعى من جديد لعرقلة أعمال الجمعية وإبطالها في هذا الوقت الحرج بصورة أكثر خطورة؛ إذ طلب من الـ7 الممثلين لحزب المؤتمر الوطني في جمعية الستين الانسحاب منها وتقديم استقالاتهم فورا!
ولكن ولحسن الحظ, ولقناعة أولئك بعدم وجاهة هذا الطلب لم يستجب له منهم أحد سوى الشيخ أحمد الصاري الذي ثبت مؤكدًا فيما بعد أنه استقال لأسباب صحية وشخصية.
لقد قرأ العضو سليمان الجربي في الجلسة التاسعة للجمعيّة الوطنية والمنعقدة في 18 يناير الخطاب المرسل من مندوبي مصر والباكستان في مجلس العشرة إلى الأمير ادريس, والذي يوضحان فيه تصورهما لكيفيّة تأليف الجمعيّة الوطنية, كما أعلن العضو عمر شنيب في تلك الجلسة بأن الذي حمل الخطاب شخصيًا إلى الأمير هو بشير بك السعداوي, كما تُليت في نفس الجلسة المذكّرة التوضيحيّة التي قدّمها السعداوي للملك في نفس الزيارة وأعدها مستشار الأول المصري “محمد فؤاد شكري” وتتناول التطورات الدستورية على هذا الأساس.
وبناء على الحملة الشديدة التي قام عزام والصحف المصرية بشنها على الملك المقبل وعلى الجمعية الوطنية لإفشال أعمالها, فقد قررت الجمعية الوطنية إرسال وفد للجامعة العربية لتوضيح حقيقة الأمر, لقد كانت مهمة ذلك الوفد عسيرة ولكنها انتهت بنجاحه الساحق على كل المعرقلين.
ويكفي أن تعلم أنه بالرغم من الأوامر المشددة التي صدرت من الحكومة المصرية للصحف بتجاهل الوفد الليبي ونشاطاته؛ إلا أن الصحف هناك تابعت الأمر عن كثب مما جعل الرأي العام المصري يطّلع على خفايا القضية الليبية.
وما أن نشرت إحدى تلك الصحف وهي صحيفة “الجمهور المصري” الوفدية في عددها الصادر يوم 5 فبراير عن تناقض سياسة مصر في ليبيا وعن الصورة المشوشة حول ما يجري فيها, حتى بادرت السلطات هناك إلى مصادرة الصحيفة وإحالة مسؤوليها إلى التحقيق.
لم تتوقف صحيفة الوطن “الجمعيستيّة” عن مقالاتها المنددة بخطوات السعداوي طيلة ذلك الشهر, ومنها مقالها الجريء الذي جاء بعد 3 أيام من مروره (أي السعداوي) ببنغازي يصحبه مستشاره محمد فؤاد شكري في الطريق الى مصر, والذي أيدت فيه الصحيفة قرار الجمعية التأسيسيّة ارسالها الوفد إلى الجامعة العربية وتقول:
“يمر بنا بشير السعداوي في طريقه إلى القاهرة .. بشير السعداوي (بطل الاختيار) و(عدو الانتخاب) وعدو (النظام الاتحادي) بعد أن كان يدعو له بحماس كبير. وإذا كان هذا هو الواقع الملموس المدعم بالوثائق والشهود، فكيف يقود بشير السعداوي جمهورًا من المتظاهرين ضد الهيئة التأسيسيّة وضد النظام الاتحادي، بل كيف ينقاد الجمهور لبشير بك السعداوي ويستمع إليه وهو يناقض نفسه ويخالف ضميره.
نريد أن نسأل ذلك الجمهور؟، ألم يكن موجودًا يوم أن كان بشير بك يعمل على تمثيل الجالية الإيطالية في لجنة الواحد والعشرين حتى نجح؟, إذ كان من خطته تمثيل تلك الجالية حتى في الهيئة التأسيسيّة لو لم ينقذ جلالة الملك الموقف …”.
السعداوي في موقف لا يُحسد عليه
وعندئذٍ, وتحديدًا في النصف الثاني من شهر فبراير 1951 عاد الشيخ السعداوي من القاهرة إلى طرابلس, واتسمت عودته تلك بقدر أقل من الحماس الشعبي الذي قوبل به في المرات الماضية.
وفي هذه السنة غير المحمودة التي سيقضيها متنقلا بين طرابلس والقاهرة سيعرض الشيخ السعداوي نفسه لانتقاد واسع من خلال تعامله الاستبدادي مع أغلب مؤيديه من العقلاء وميله للاستماع إلى صغار الديماغوجيين!.
هذا وتفيد الوثائق السرية لوزارة الخارجية البريطانية أن السعداوي شرع في تلك الأثناء في مزيد من الاتصالات المباشرة؛ وأيضًا عبر العديد من أنصاره بالإدارة الإنجليزية ومع “بلاكلي” نفسه في محاولة منه إلى إقناعهم بأنه ما زال الصديق الوفيّ, وأن في وسعه الوصول معهم الى التعاون والاتفاق حول معاهدة تتلقى ليبيا من خلالها على الدعم المالي المناسب.
لقد أفادت نفس المصادر التي كانت قبلُ مذهولة بشعبيته؛ أنه بات الآن يشعر بضعف موقفه, وأنه لم يعد يوجه أي تهديدات, كما لم يعد يَدّعِ أنه يمثل أهل طرابلس الغرب أو ليبيا كما كان يفعل في السابق, ولكنه في نفس الوقت الذي لم يعد له وزن سياسي فهو يملك قدر كبير من الازعاج.
لقد كان من أخطاء السعداوي غير المقبولة هو دعوته لاجتماع المؤتمر في 16 من مارس ليصدر قراراته التي اشتملت على الإعلان على عدم الاعتراف بالهيئة التاسيسية, وكذلك منح أعضائها من رجال المؤتمر فرصة الاستقالة أو يتم طردهم!, ثم اشتراط قبوله للإمارة السنوسية بموافقة الأمير على الوحدة وليس الاتحاد!.
لكن الذي أفرغ الرياح من أشرعة السعداوي هو إعلان اللجنة التاسيسية قبل ذلك باسبوع عن اختيار المجلس التنفيذي (حكومة) طرابلس الغرب, وكذلك إعلانها عن تشكيلة الحكومة الاتحادية المؤقتة, واختيار المجلس التنفيذي لوزراء فزان, والذي قوبل بالرضا والاستحسان من عامة الشعب.
لم يقف الأمر عند ذلك!, لقد استقال من المؤتمر أيضًا في شهريّ أبريل ومايو أعضاء بارزون مثل عارف مانة و عمر المدفعي و أبوبكر بوسهمين؛ مع إصرار السعداوي على بقاء مستشاره “الفتّان” محمد فؤاد شكري الذي كان وجوده ضمانًا لتدفق أموال “عزّام” نحو المؤتمر!.
لقد كان أتباع بشير من صبيان حزب المؤتمر ومثيري الشغب يعمدون إلى نوع من أعمال الترهيب لإخافة الأصوات العائمة وإرغامها على المشاركة في الإضرابات وإجبارهم على إقفال محلاتهم أبواب رزقهم.
وكان استقبال الابطال الذي أقامه المؤتمر للبلطجي سيء السمعة (م.د) –والذي سُجن 6 اشهر بسبب تهديده لأصحاب المتاجر مستخدما عبارات مهينة من أجل قفل متاجرهم والانضمام للترحيب بالسعداوي– كان استقباله ذلك بلا شك مثار سخط من الطرابلسيين, لقد كان بشير يحرض اتباعه صراحةً على مضاعفة جهودهم حتى لو اضطروا إلى التضحية بأرواحهم وأن عليهم ألا يهابوا السجن. وبالتأكيد فإن ما لديه من أموال يكفل له إعانة أسرهم في غيابهم.
لقد ساهم العنف الذي انسحب على جماعة المؤتمر في طرابلس في تلك الأشهر كعمليات الترهيب بتفجير العبوات الناسفة, ومحاولات الاغتيال والحرق ومنها مهاجمة شباب المؤتمر لأعضاء طرابلس من جمعية الستين بعد عودتهم إلى هناك والاعتداء على المفتي الشيخ أبو الإسعاد العالم, وكذلك إطلاق النار على جماعة جالسين في “قهوة الطرابلسية” منهم “منير برشان” و“عبدالله بن ناجي” و“علي فرنكة” و“محمود الصيد” و“العارف القماطي“, لكن لحسن الحظ أن الرصاصات أخطأت فأصابت بنك المقهى ولم تُخلِّف سوى جروح بسيطة طالت فرنكة والصيد بسبب تطاير الزجاج.
وكان المطلوب من هذه العمليّة اغتيال “منير برشان” رئيس تحرير صحيفة “طرابلس الغرب” إثر نشر مقالته: (إرحل بعيدًا أيها الدخيل)؛ التي وصم فيها مستشار السعداوي “شكري” بـ“الدهقان الذي أخذ ينخر في عظام المؤتمر وينشر الفتنة حتى تفرق المؤتمر أيدي سبأ, وهو -(أي شكري)- الذي وصف ليبيا بـ(الوسخة) والليبيين بـ(الوسخين)… (هكذا)”.
وما تلى ذلك من هجوم مراهقي المؤتمر ليلا خلال شهر رمضان على بيت “برشان” حاملين المشاعل !. بعد استلام برشان رسالة تهدده بالقتل إن لم يتوقف عن نشر تقاريره الصحفية الكاذبة!.
وكذلك وفي نفس الشهر كانت تلك الحادثة الخطيرة الأخرى بإطلاق الرصاص على “فاضل بن زكري” و “ابراهيم بن شعبان” و “سالم شرميط” لتخترق الرصاصات عباءة جليسهم السيد “علي القرمانلي” الذي أرسل بدوره رسالة للسعداوي باسمه يحذره فيها بأن العنف لن يواجه إلا بالعنف إذا لم يتسن لبشير أن يسيطر على هؤلاء الصبية وسيئيّ السمعة, ليرد شباب المؤتمر على رسالة القرمانلي بأن إطلاق الرصاص الحقيقي لم يبدأ بعد!.
ولم ينتهي شهر مايو من تلك السنة حتى استقال أيضًا من المؤتمر ثمانية آخرين من منطقتي الجبل؛ الوسطى و الغربية, موضحين أسباب استقالاتهم بنكوص المؤتمر عن مبادئه التي تأسس عليها في اجتماع مسلاتة, وأولها مبايعة الأمير السنوسي وطاعته, معلنين في استقالتهم اخلاصهم لمليكهم المحبوب (هكذا).
وربما من الأمور المزعجات أكثر هو القبض على مجموعة سرية ولدت فور تشكيل حكومة طرابلس الغرب, وتتالف هذه الحركة من 5 شباب من أعضاء المؤتمر والكتلة, وقد قررت هذه الخليّة اغتيال أبرز المؤيدين للفيدرالية, واحتوت قائمة الاغتيالات على (الشيخ أبو الاسعاد, ومحمود المنتصر, ومحمد الميت, وإبراهيم بن شعبان, ومنصور بن قدارة). كما عُثِر على عشرات القنابل المعدة للاستعمال.
لقد شعر الجميع أن زعماء الأحزاب –وفي مقدمتهم السعداوي طبعا– مسؤولون إلى حد كبير عن ولادة هذا الجنين الإرهابي, وذلك بغرس الكراهية في هذه العقول الغير ناضجة.
…
يتبع
_____________
المصدر: صفحة علاء فارس على الفيسبوك
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?