يوسف عبدالهادي الحبوش
كان التوجه السائد أن ظروف البلاد تحتم عليها أن تمر بمرحلة نظام اتحادي (فيدرالي), وهو ما أنس إليه السعداوي أيضًا وصرّح بقبوله وتحدث فيه بالموافقة مع الملك المقبل, ولكن كان نذير شؤم –كما يقول أدريان بيلت– قبول السعداوي له وتصريحه به في مجالسه الخاصّة دون أن يُعلن عنه في بيان عام كما سنرى.
وعليه, وفي الأسبوع التالي من نفس الشهر توجه السعداوي الى طرابلس وكان الأمل كبيرًا في أن يثوب الى عقله, وأن تسير العملية السياسية لتطبيق شروط القرار الصادر من هيئة الأمم بصورة أكثر سلاسة, وخاصة بعد الوضع السياسي الجيّد الذي صار فيه مؤتمره الوطني الطرابلسي.
وبالأخص بعد تجمّع تاجوراء الذي عقده السعداوي في مارس من نفس السنة وندد فيه صراحة بعبد الرحمن عزّام, وطالب بالعمل على إبعاد أصابعه عن القضية الليبية, ولكن الأمر لن يستقيم على هذا النحو, وقد لخصه أدريان بيلت في وصفه للسعداوي قائلًا:
” رجلا طيب السريرة ذا رؤية وفطنة سياسيّة ولكنه غير ثابت الشخصية, وإن إحدى نقاط ضعفه ميله إلى تحميل غيره مسؤوليات أخطائه وسوء تقديراته“.
وبالعودة إلى المسار السياسي في البلاد ومعرفة الأوضاع الراهنة فيها, وحين تعلم أنه ما عدا الأمير أو القلة من المفاوضين الليبيين الذين وصلوا الى أروقة الأمم المتحدة؛ فإن هناك جهلا تامًا وسوء فهم لقرار هيئة الأمم ومواده حتى من جهة رؤساء وأعضاء الكيانات السياسية في البلاد, بل إن مدير مرزق مثلًا وهو ممثل فزان في مجلس العشرة فيما بعد؛ أفاد بأنه لم يسمع بالقرار مطلقا إلا يوم وصول الموفد الأممي إلى فزّان؛ حين تعلم ذلك ستدرك مدى صعوبة المسألة.
أولى تلك المهام الصعبة كانت في تنفيذ أول خطوة من خطوات الوفد الأممي وهي اختيار ممثلي ليبيا الأربعة في المجلس الاستشاري والمعروف بـ(مجلس العشرة) الذي سيشرف على تنفيذ القرار.
لم تكن هناك مشكلة في إمارة برقة أو في فزّان التي يحسم أمرها البي “حمد سيف النصر“, المشكلة كانت تكمن في اختيار ممثل طرابلس! وقد فاز بها بعد مخاض عسير نائب السعداوي سكرتير حزب المؤتمر الوطني “مصطفى ميزران“.
لقد استغرق الأمر قرابة شهر أضيف إلى 5 أشهر سبقت وضاعت من الوقت الذي يعمل في غير صالح القضية, وفي منتصف ذلك العام بدأ القلق يسري بالفعل من التأخير في تأليف الجمعية الوطنية التي نص عليها القرار.
لم يكن لدى البرقاويين الذي نظّموا شؤون إمارتهم أيضًا أية مشكلة في إجراء أي انتخابات سواء للجنة التحضيرية (لجنة الواحد والعشرين) أو للجنة الستين, كذلك لم تكن عند “حمد سيف النصر” هو الآخر أية مشكلة في ذلك؛ بل كان البي حمد يطالب وبقوة بإجراء هذه الانتخابات.
ولكن باعتبار أن الوقت الذي حدده القرار كشرط لصحة إعلان هذا الاستقلال قد بدأ في التآكل, وأن عقلاء طرابلس وعلى رأسهم السعداوي كانوا مقدّرين لصعوبة إمكانية توفر إجراء سريع لهذه الانتخابات, أضف اليه ما للزعماء هناك من تركة في الخصومات والتناحر التي ستذكيها عمليّة الانتخاب هذه؛
وبدعم رأيي ممثلي مصر والباكستان فقد كتب السعداوي إلى الأمير بتاريخ 26 مايو يعترض على فكرة الانتخاب الذي سيكون عبئا ثقيلا على السكان, فقام الأمير بدوره بإحالة هذا الخطاب الى المجلس الاستشاري مبديًا موافقته على طلب السعداوي.
لكن في الوقت نفسه رفض الأمير مقترح السعداوي بأن يقوم الأول (أي الأمير) بتعيين ممثلي طرابلس في اللجنة التحضيرية من أجل قطع الطريق أمام أي خلافات متوقعة .مبررًا رفضه هذا بعدم ممارسته أي نفوذ مباشر على الإقليم
وفي الأخير أوضح الأمير أنه لن يكون لديه اعتراض على أي اسم يأتي من طرابلس وأنه يتمنى للسعداوي دوام التوفيق, مع رفضه (أي الأمير) إمكانية تمثيل الايطاليين بأي صورة من الصور سواء في اللجنة التحضيرية او لجنة الستين, مبررا رفضه بعدم أحقيتهم كضيوف في رسم مستقبل الدولة القادمة وصنع مؤسساتها الدستورية, الأمر الذي قد يمكنهم من المطالبة بحقوقهم السياسية بعد إعلان الاستقلال, هذا رغم الحاح السعداوي مرارًا على قبول تمثيلهم وعدم ممانعة مجلس العشرة في ذلك.
لقد كانت مسألة تكوين اللجنة التحضيرية المعروفة بلجنة الواحد والعشرين معضلة ثانية حقيقية بعد مجلس العشرة, وهي التي ستقوم بعملية توليد عسير للجنة الستين.
وبدون الدخول في التفاصيل المرهقة التي استهلكت منتصف تلك السنة, وبعدم رضى من الإدارة البريطانية على تسمية أعضائها عقدت اللجنة أول اجتماعاتها في نهاية يوليو من نفس العام, وبرئاسة الشيخ أبو الاسعاد العالم أكبر الأعضاء سنًا, وفي جو من الشعور بالمسؤولية والانضباطية الجادّة.
ولولا كياسة المبعوث الأممي في طرح تقريره أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها العادية في سبتمبر 1950 وعندما ناقشته لجنتها السياسية, وأيضًا لولا ثقة الهيئة الأممية بقدرات ممثلها وجهوده والتي أعربت عنها في أول نقطة من توصيات لجنتها حول ذلك التقرير؛ لأخذت الأمور بسبب التحريض العزاّمي والمصري ضد لجنة الستين الوطنية –التي التأم أول اجتماعاتها في 25 نوفمبر– منحىً لا يُعلم مداه.
إذًا اجتمعت لجنة الستين لتتخذ أول قرارتها بأن نظام الحكم سيكون فيدراليا, وأن ليبيا ستكون مملكة دستورية تحت تاج الملك إدريس الذي يعتبر من الآن ملكًا شرعيا, وأبرقت إليه بذلك, وعليه رد الملك شاكرًا ولكنه يؤجل اعتلاء عرشه الى حين الانتهاء من وضع وإقرار الدستور الذي سيحدد صلاحياته, كما بدأت اللجنة في تكوين كيانها ولوائحها الداخلية, وانتقلت يوم 17 ديسمبر الى بنغازي لتقديم البيعة الى الملك.
لم يحتج بشير السعداوي الذي وصل من القاهرة لحضور تلك البيعة العلنية لملك على مملكة “فيدرالية“, لكن طبع السعداوي لن يتغيّر, ولن يستطيع الإفلات من تأثير الآخرين وأولهم عزّام, وبعقلية زعيم الحزب الواحد التي تملكته للحد الذي لم يعد يشعر فيه حتى بوجود من حوله, ومقاربته للقضايا بأسلوبه الديكتاتوري, وبوجود “المبغوض” من معظم الطرابلسيين مستشاره المصري محمد فؤاد شكري بقربه؛ سيقع السعداوي الآن في أخطر مراحل حياته السياسية التي هزت مكانته, بل أدت بنجمه إلى الأفول.
السعداوي يفقد البوصلة
مع أن ليبيا لم تعلن استقلالها بعد؛ لكن ما أن قامت الجمعية التأسيسيّة الوطنية بتقديم البيعة للملك المقبل حتى عم البلاد نوع من الفرح لاجتياز هذه المرحلة العصيبة, مع إدراك الجميع بما فيهم السعداوي نفسه أن اختيار الجمعية للنظام الفيدرالي هو أمر أملته ظروف تاريخية, وقد اختير كخطوة مرحلية تجتاز بها البلاد معضلة تحقيق التوافق, وهذا هو ما صرّح به العديد من أعضاء الجمعية في اجتماعاتهم العلنية حتى قبل اعلان البيعة للملك.
ففزان وقتها لا تجد ضرورة للاستقلال أصلا, بل ترفضه إذا كان فيه سيطرة الطرابلسيين عليها, (هكذا), وبرقة صاحبة الدور المحوري في هذا الاستقلال لن تُسلّم نفسها طواعية هي أيضًا لحفنة من المسيطرين على المشهد في الإقليم الغربي؛
خاصة بعدما أصبحت تُسمع من هناك بوضوح صيحات التفوق, وبعد أن تزعزعت الثقة في مواقف بشير السعداوي المتقلبة, هذا بلا أدنى مراء هو الوضع المسيطر آنذاك.
ومن الجدير بالذكر أن “صحيفة الوطن” الجمعيستيّة الناطقة بلسان حال جمعية عمر المختار التي عادت للصدور من جديد بمانشيت عريض: (عاش الملك) لم تتوانى هي أيضًا عن الإشادة بالمرحلة الهامة التي قطعها الشعب الليبي في طريق الاستقلال, بل بدأت تحذّر صراحة مما يحاك من وراء الستار للجمعيّة التأسيسيّة الوليدة لنزع شرعيتها بحجة “الانتخاب والتعيين“.
كما بدأت تحذر السعداوي دون مواربة بأن “ما يقوم به من محاولة الظهور بهيئة أخرى والطعن في شرعية اللجنة الوطنية التي نشأت بالطريقة التي اختارها هو وألح عليها وقررها هو خطأ شنيع واختيار غير موفق“.
لقد بدأ عزام يصرح علنًا وبكل جرأة منذ مطلع يناير 1951 ضد لجنة الستين متعللًا بأنها لم تأت بطريق الانتخاب وعلى قاعدة النسبة السكانية, بل عمد بكل وقاحة إلى وسيلة أخطر لتخريب كل الجهود التي بُذِلت؛
وذلك بتسخير منصة الجامعة العربية لاستصدار القرارات من لجنتها السياسية لدعوة مندوب هيئة الأمم للعدول عن هذه الخطة وتحميله تبعة تشويه قرار الأمم المتحدة“.
والظاهر أن تناغم تصرفات السعداوي مع ما يقوم به عزّام في هذه الأثناء لم يكن مجرد انسياق فقط, بل جاء اتفاقًا معه واشتراكًا في المؤامرة على القضية الليبية!.
وإن لم يكن الأمر كذلك فما الذي يفسر تصرفه بعد أن قاد –صحبة نائبه الأخطر مصطفى ميزران– المظاهرات الصاخبة في طرابلس طيلة شهر يناير ضد فكرة اختيار النظام الفيدرالي, وبعد أن قامت عناصر متهورة من أعضاء مؤتمره الوطني غير مرة بترويع السكان تحت قناع حرية التعبير لغلق محلاتهم, وإغراء أطفال المدارس للمشاركة في تلك المظاهرات التي أدت إلى أعمال شغب.
ما الذي يفسر تصرفه بوصوله يوم 27 من نفس الشهر الى القاهرة ليصرح هناك ضمن الجوقة العزّامية وفي الصحف المصرية ضد الجمعية التأسيسيّة الليبية واجراءاتها ؟!.
لقد بدأت أسهم بشير السعداوي تهوي طوعًا, وها هو يفقد في شهر يناير 1951 ما تبقى من ثقة عقلاء الطرابلسيين الذين لم يزايلوا مؤتمره الوطني بعد أن وصل الأمر –في اجتماع للمؤتمر انعقد في يوم 15 من الشهر– إلى تهور عدد من الشخصيات الهامة عليه وهم أعضاء في لجنته التنفيذية ومنهم “محمد قنابة” و“الشيخ ابحيح” و“محمد المنصوري” و“مصطفى المنتصر” وبعد أن قالوا له علنًا : ” لماذا كنت موافقًا على الوضع الفيدرالي ونحن كنا نعارض وأنت كنت تُلِح علينا وأقنعتنا!, واليوم ترجع وتقول لنا أن الفيدرالية تقسيم ومضر للقضيّة؟!, ولماذا تقول لنا أنك أتيت بتعليمات من الملك وأنك متفق معه وظهر لنا أن هذا خلاف إرادة الملك ؟!, أبرز لنا تيلغراف الملك, أنت شخص مراوغ !”.
لقد تلى هذه الموقعة العصيبة على السعداوي وتحديدا بين يومي 16 و18 من الشهر انسحاب أكثر من 60 شخص من الهيئة التنفيذية للمؤتمر الوطني ساخطين.
وقد أبرقوا بذلك الى الممثل الأممي أدريان بيلت كما ابلغوه بأنهم يؤيدون قرارات جمعية الستين الوطنية. بل حدث ما هو أخطر من ذلك!:
ففي الوقت الذي وصلت فيه برقيات أعوان السعداوي لأدريان بيلت تدين اعتماد النظام الفيدرالي, وكذلك مثلها من البرقيات التي تدعم خطته (أي خطة بيلت) وتقول عكس ذلك, والتي جميعها رغم تضادها ليس فيها برقية واحدة تحتج على تنصيب إدريس ملكًا, فقد وصل إليه أيضًا ثلاثة من رجال من قبائل جبل نفّوسة وعرضوا عليه استعدادهم لوضع “خمسمائة مقاتل” تحت تصرفه!, لكن الرجل لم يسعه إلا أن يعبّر لهم عن امتنانه فهو في جميع الأحوال لا يعتقد بأن الوضع يبرر استعراض القوة“.
وبذا نستطيع القول أن السعداوي بدأ بالفعل في فقد أنصاره حتى في الأماكن النائية مما سينعكس على أول عملية انتخابية تأتي فيما بعد.
…
يتبع
_____________
المصدر: صفحة علاء فارس على الفيسبوك