بقلم مفتاح فرج
الصفقة
قبل نهاية 1966 تم الاتفاق ما بين القذافي والأمريكان على ما يلي:
أولا– جلاء القواعد الأمريكية مع تحييد بريطانيا وإقناع حكومتها بإخلاء قواعدها في ليبيا على أن يتم فيما بعد الاتفاق على دفع تعويضات مناسبة للدولتين. كان اتجاه الأمريكان هو إخلاء القواعد ـ خاصة داخل البلاد التى قد تحدث بها اضطرابات بسبب رفض شعوبها وجود تلك القواعد على أراضيها ـ والإستعاضة عنها بحاملات الطائرات والطائرات ذات الإرتفاعات الشاهقة والطويلة المدى مثل طائرات ب 52.
وعندما قام المتظاهرون بالهجوم على بعض المنشآت الأمريكية وحاول البعض الهجوم على قاعدة الملاحة أثناء وبعد حرب يونيو 1967 شعر الأمريكيون بخطورة وجود قواعدهم على الأراضى الليبية. وكبادرة لإظهار حسن النية قامت السلطات الأمريكية بإخلاء وتسليم مخازنها بميناء طرابلس البحري إلى السلطات الليبية.
ثانيا– أن يخرج من ليبيا عند حدوث الإنقلاب كلا من مصطفى بن حليم رئيس الوزراء السابق ويحي عمر سعيد، وأن يقوم الإنقلابيون بنقلهما إلى قاعدة الملاحة الأمريكي بطرابلس ليسافرا من هناك حيث ستكون كل منافذ ليبيا براً وبحراً وجواً مغلقة، وحذروا من تعرضهما لأي أذى.
ثالثا– البحث عن ضابطين برتبة مقدم أو رائد لينضما للمجموعة المختارة، أحدهما يقوم بالسيطرة على الأمن، أي وزير داخلية، والآخر يتولي شئون الجيش، أي وزير دفاع، بحجة أن معظم أعضاء تنظيم القذافي من الضباط الصغار ولن يتمكنوا في المرحلة الأولى من التفاهم مع ضباط أقدم وأعلى رتبة منهم في هاتين المؤسستين.
وهكذا تم استقدام فيما بعد كلا من المقدم آدم الحواز (الذي كان على أول دفعته ومحبوباً في صفوف الجيش) والمقدم موسى أحمد ـ وقد كانا زميلين في الدفعة الأولي بالكلية العسكرية الملكية (1957-1959) ـ ليكونا أعضاء في تنظيم القذافي.
بعد الإنقلاب عين المقدم آدم الحواز وزيراً للدفاع وعين المقدم موسى أحمد وزيراً للداخلية، ثم غدر بهما القذافي بعد أن تحقق له ما أراد حيث تم القبض عليهما يوم 7 ديسمبر 1969 بتهمه التآمر لقلب نظام الحكم وحكم عليهما بالسجن ثم بالإعدام ثم خفض إلى السجن المؤبد.
أطلق سراح المقدم موسى أحمد في مارس 1988 وتوفي في 24 أبريل 2005 إثر تعرضه ـ حسب الرواية الرسمية ـ لهجوم بالسكين من قبل مجموعة من اللصوص الأفارقة، ولا يعرف مصير زميله المقدم آدم الحواز.
عند القبض على المقدم آدم الحواز نهض العقيد أحمد المدفعي (آمر صنف المخابرة بمعسكر قاريونس) وكان جالساً في زنزانته بالسجن المركزي بطرابلس وصاح بصوت عال: “لقد تم القبض على من اختارته أمريكا ومن كان يساير فيهم.. إن أمريكا يا عالم لها يد في هذا الموضوع!” ونظراً لقربه من الحواز فهو آمره المباشر، فلا بد أن بعض الأمور اتضحت له بعد القبض على الحواز.
كان العقيد أحمد المدفعي والمقدم آدم الحواز عضوين في لجنة الإتصالات الأمريكية الليبية لتوحيد واستكمال خطوط الاتصالات المدنية والعسكرية، وقبل الإنقلاب تم تنحية العقيد المدفعي من اللجنة.
رابعا– عند ساعة الصفر يقوم الأمريكان بضمان تزويد الإنقلابيين بالسلاح والذخيرة.
خامسا– تعهد الأمريكان بتسهيل مهام الإستطلاع والتدريب للطيران الحربي الليبي المتمركز بقاعدة الملاحة.
سادسا– إعطاء الإنقلابيين مطلق الحرية في تحديد سياستهم الداخلية والخارجية.
سابعا– التعهد بتشكيل حكومة مدنية في مدة أقصاها سنة ليتفرغ بعدها الإنقلابيون للجيش، كما تعهدوا بحماية المصالح الغربية، ووعدوا باستمرار ضخ البترول الليبي.
باختصار، لقد تم الاتفاق على تبادل المصالح، الضباط الوحدويون الأحرار لهم السلطة وللأمريكان المصالح الكاملة في ليبيا.
ولضمان تنفيذ هذه الاتفاقات قامت المخابرات الأمريكية من ناحيتها بزرع عملاء وعيون لها في كل مكان مستخدمة كافة الوسائل والإمكانيات، وكان من بينها الإستعانه بعشرات المتطوعين الأمريكان بفرق السلام (Peace Corps) المتواجدون على الأراضي الليبية وبالعديد من الموظفين الأمريكان والعرب بشركات النفط وفي المراكز الثقافية الأمريكية.
فمثلاً في سنة 1963 قامت شركة (باكتل) لخدمات البترول بتعيين عميليين للسي آي إيه بإدارة شئون العاملين. والأهم من هذا كله فقد تم ومنذ سنة 1966 اختراق تنظيم العقيد عبدالعزيز الشلحي وتم زرع ضباطاً عملاء في مكتبه، والمهدوي كان على علم تام بهذا الأمر الخطير.
كما قامت أمريكا سنة 1966 بتعيين ضابط بسلاح الجو الأمريكي في طبرق ليتجسس على الملك وعلى تحركات عمر الشلحي ـ ناظر الخاصة الملكية ومستشار الملك وشقيق العقيد عبدالعزيز ـ وعلى تحركات الإنجليز حيث توجد قاعدتهم الجوية في “مطار العدم“
العوامل الأساسية التى ساعدت على الإنهيار الكامل للنظام الملكي:
1– وجود الملك إدريس خارج ليبيا، حيث كان قد غادرها إلى اليونان ثم إلى مدينة بورصة التركية في يونيو 1969.
2– إقالة اللواء نورى الصديق من رئاسة أركان الجيش في أكتوبر 1968 وتعيينه عضواً بمجلس الشيوخ مع منحه رتبة فريق. لقد كادت أن تتجمع لدى اللواء نورى ـ الذى أحاط نفسه بضباط ذو كفاءة وإخلاص ووطنية ـ كل خيوط المؤامرة الأمريكية ولكن كما سنرى كان للعقيد عبدالعزيز الشلحي رأي آخر.
3– إختراق المخابرات الأمريكية لأجهزة الأمن الليبية. ففي أوائل مارس 1969 كلف المقدم نصر الدين هامان والرائد أحمد بوغولة بالذهاب إلى منطقة سرت لمراقبة تحركات واجتماعات أعضاء الضباط الوحدويون الأحرار والقبض عليهم.
ذهب بوغولة إلى سرت وتأكد من وجود اجتماع للإنقلابيين وشاهد القذافي وهو يصل إلى مكان الاجتماع بسيارة فولكس واغن زرقاء، إلا أنه تجاهل أوامر المقدم هامان وبذل جهداً كبيراً فيما بعد لطمس وإخفاء الأدلة التى تؤكد حدوث الاجتماع.
وبعد فترة وجيزة اكتشف المقدم هامان أن الرائد أحمد بوغولة وزميله في الإستخبارات يوسف مانة كانا على اتصال بالمهدوي.
4– تمكن الأمريكان من معرفة تاريخ استلام الشلحي للسلطة من خلال ثلاثة مصادر:
الأول: في ربيع 1969 أثناء “زردة” ( نزهة) للقبائل في منطقة الصفصاف بالجبل الأخضر طلب الشيخ المجاهد عبدالحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ وزعيم قبيلة “العواقير“، من المقدم موسى أحمد “الحاسي” عمل أي شئ لمنع آل الشلحي “البراعصة” من تولي مقاليد السلطة في ليبيا، قائلا: “كفاية عليهم” حسب تعبير الشيخ… وباح له بالسر الخطير وهو أن الشلحي سيستلم السلطة في شهر سبتمبر من ذلك العام.
والثاني: هو الملازم محمد جمعه الشلماني الضابط المدسوس داخل مكتب الشلحي الذى كان يتنصت على مكالمات واتصالات الشلحي، فقد أبلغ الشلماني الإنقلابيين عن موعد حركة الشلحي بعد تنصته على محاورة تليفونية بين العقيد عبدالعزيز وأخيه عمر الموجود خارج ليبيا ذكر فيها التاريخ 5 سبتمبر.
فى ديسمبر 1969 أدين الملازم الشلماني في محاولة الحواز الإنقلابية وسجن لعدة سنوات ثم أطلق سراحه.
والثالث: هو ضابط مخابرات إنجليزي إستدرجه الأمريكان فى حفلة عشاء بمدينة طبرق وعرفوا منه كلمة السر.
5– من أجل تدعيم مركزه وتولى الموالين له مراكز قيادية بالجيش قبل استلامه السلطة يوم الجمعة 5 سبتمبر 1969 وتحويل ليبيا من ملكية إلى جمهورية قام العقيد عبدالعزيز الشلحي، الذى كان يشغل منصب مدير التدريب ورئيس لجنة إعادة تنظيم الجيش، بتعيين صهره اللواء السنوسي شمس الدين السنوسي رئيساً للأركان ـ وكان يعانى من شلل خفيف ـ وعين صهره الآخر العقيد عون ارحومة شقيفة مديراً للحركات (العمليات).
أما وزير الدفاع حامد العبيدي (توفى في سجن بنغازي في 6 فبراير 1970) فكان يعانى من مشاكل خاصة جعلته غير قادر على القيام بواجبه كوزير دفاع بكفاءة. وكان صديق العقيد الشلحي وزميل دفعته بالكلية الحربية المصرية العقيد حسين على الفرجاني يرأس الإستخبارات العسكرية.
كما قام العقيد الشلحي بتحويل العديد من الضباط الأكفاء، منهم حوالى نصف خريجي كلية العراق العسكرية، إلي الوظائف الإدارية البعيدة عن نطاق العسكرية الفعلية.
ومع ذلك فقد حاول العقيد الركن صالح السنوسي عبدالسيد توحيد الصفوف بإقناع زملائه خريجي العراق بضرورة التعاون وتنسيق المواقف مع العقيد الشلحي، إلا أن قائد المجموعة العقيد الركن فوزى الدغيلى رفض رفضاً باتاً هذا الإقتراح وقال: “نحن لا نستجدي أحداً“، وبسبب موقفه المتشدد هذا فصل العقيد فوزى من التنظيم.
وقد حاول بعض الضباط خريجي العراق رأب الصدع والإلتحام مع العقيد الشلحي والذى أبدى رغبة في التعاون، إلا أن الوقت كان قد فات وكانت إرادة الله هى الغالبة.
وفي النهاية لم يجد النظام الملكي ولا العقيد الشلحي من يدافع عنهم في ساعة العسرة، وانتهى المطاف بالجميع الى دخولهم السجن.
ولا بد أن نشير إلي أن العقيد عبدالعزيز الشلحي كان في بادئ الأمر متردداً في القيام بحركته، فمنذ سنة 1966 حذره زملاؤه، وكان من بينهم العقيد عبدالله سويسي من مغبة عدم حسم الأمور وضرورة إنقاذ البلد من المغامرين ومن الهيمنة الأمريكية، فنهرهم العقيد الشلحي قائلاً: الملك إدريس في مقام والدى ولا يمكن أن أخونه أو أنقلب عليه. لقد كان في اعتقاده أنه بامكانه أن يواجه مكر وخداع أمريكا.
6– تأثير الإعلام المصرى… خاصة إذاعة صوت العرب.. التي كانت تحرّض على التمرد وتؤجج الجماهير العربية ضد الأنظمة الحاكمة والملكية منها خاصة بحكم أنها تابعة للأمريكان والإنجليز.
7– بداية تفشي الفساد السياسي والاقتصادي في الدولة.
***
يتبع
_____________
المصدر: كتاب “المؤامرة والخديعة: خبايا وأسرار حركة الضباط الوحدويين الأحرار في سبتمبر 1969” ضمن سلسلة ”حان الوقت ليعلم شعبنا الليبي.