عمر الكدي
إصلاح نظام القذافي
عندما عُرض عليَّ أن أكون محررًا ثقافيًا لجريدة «الجماهيرية» عام 1988، توهمت أن هناك صراعًا بين جناحين في اللجان الثورية. جناح محافظ يريد أن تبقى الأمور على ما هي عليه، وجناح إصلاحي يريد تغيير المشهد السياسي في ليبيا على طريقة البريسترويكا.
ففي مارس من نفس العام أُطلق سراح السجناء السياسيين فيما عرف بـ«أصبح الصبح»، وأُلغيت قوائم الممنوعين من السفر وصَدر عفو عام لصالح المعارضين المنفيين,
وفي عام 1992 أَصبحتُ، تحت ضغوط، رئيسًا لتحرير الجريدة، ولكنني وصلت إلى القناعة بأن هذا النظام لا جدوى من إصلاحه، لذلك استغللت أول فرصة وتركت الجريدة، ومنذ ذلك الوقت بدأت في معارضة النظام من الداخل، من خلال مقالاتي في مجلة «لا» وجريدة «الشمس»، حتى أوقفت عن الكتابة في جريدة «الشمس» بأمر من القذافي، ثم توقفت مجلة «الفصول الأربعة» ومجلة «لا» اللتان كانتا تصدران عن رابطة الأدباء والكتاب حيث عملت منذ عام 1993.
وبعد محاولة اعتقالي وتقديمي للمحكمة الثورية بسبب قصيدتي «أرى ما لا ترون»، اقتنعت بأن الخروج من ليبيا هو أفضل قرار أمامي، وفي المنفى كنت أتابع محاولات الإصلاح التي يقودها سيف القذافي، وانضمام الكثير من أصدقائي لمؤسسة الغد بكل فروعها، إلا أن قناعتي بعدم جدوى إصلاح النظام ظلت راسخة.
في المنفى اكتشفت أن بعض المعارضين وضعوا كل البيض في سلة سيف القذافي، وأنهم قابلوه في لندن وفي عواصم أوروبية أخرى، وخرجوا بانطباع قوي بأن سيف شاب دمث وخلوق ومتحمس للإصلاح أكثر منهم.
الإخوان المسلمون حاولوا أن يكونوا ساعده الأيمن، وساعدوه في التفاوض مع سجناء الجماعة الإسلامية المقاتلة، وفي المراجعة التي أدت إلى خروجهم من السجن، بينما ساعده الآخرون في قضايا حقوق الإنسان من خلال جمعياتهم في الخارج، وكنت أنصحهم بالتريث مفضلًا أن تكون هذه اللعبة لعبة الموجودين بالداخل، فمن حقهم الانخراط في مشروع سيف لأنه لا يوجد بديل غيره، وأن دور المنفيين هو رفع السقف إلى أعلى مستوى ممكن، ولهذا كتبت مجموعة من المقالات تشكك في نية النظام الجدية في الإصلاح، وأنه ترك ابنه يفاوض الغرب للخروج من العقوبات الدولية والتطبيع معه، خوفًا من مصير يشبه مصير صدام حسين.
وبعد فشل الأمريكان في العراق تراجع النظام عن كل الوعود التي أطلقها سيف في لقاءاته السنوية بالشباب، وفي عام 2008 أعلن سيف انسحابه من كل المشاريع التي أطلقها قبل عشر سنوات، ولم يبق أمام الشباب اليائس إلا الانتفاضة ضد النظام، وهو ما تحقق في 2011.
فشل الرجل الثاني في إصلاح النظام، بعد سلسلة من الاجتماعات عقدها مع ثمانين من خيرة السياسيين وأساتذة الجامعات والمثقفين طوال شهر رمضان عام 1993، ورد القذافي على مشروع الإصلاح الذي أحضره جلود، بهدم مبنى رئاسة الوزراء ومبنى البرلمان القديم، فانعزل جلود في بيته في حي الظهرة وفي شاليه المصيف البلدي، يعاشر سقط المتاع من القبضايات وذوي السوابق، ويشبع نزواته في ظلام الشاليه حتى لا يسمع إلا أصوات الأمواج تتكسر على الشاطئ.
كما حاول أحمد قذاف الدم طرح مشروع إصلاحي بتشكيل ما سمي بحكومة الإصلاح، وخلال مفاوضاته مع عبد المنعم الهوني عرض عليه رئاسة الحكومة، ويبدو أن الهوني تحمس للمشروع ولكن القذافي سرعان ما تراجع، فعين الهوني مندوبًا لليبيا في الجامعة العربية، دون أن يضطر للعودة إلى ليبيا، وأمر أحمد قذاف الدم بالالتحاق بكتيبته بطبرق، فلم يبق في ملعب الإصلاح إلا الوريث سيف.
كان القذافي يعيش في عالم افتراضي نسجه بنفسه، وكان عليه أن يخرج إلى خيمته ليؤكد حضوره الطاغي، وقد سلّم كل شيء لأبنائه ولعبدالله السنوسي والبغدادي المحمودي، بينما انصرف الشباب المخدوعون إلى العالم الافتراضي ليشعلوا الثورة.
عندما علم القذافي أن سيف أسس مركزا للديمقراطية يترأسه المحامي ضو المنصوري الذي اختطفه المعتصم، أمر بأن يجرف المركز بالبلدوزرات، فقالوا له إن المركز موجود على الإنترنت، وهو ما يؤكد غياب القذافي عن واقعه الذي كان لا يزال يعتقد أن ما يحركه هو المذياع والتلفزيون.
بعد انتفاضة 2011 كان على سيف تبني كل مطالب المتظاهرين، ولكن، ووفقًا لشهادة عبدالمطلب الهوني، لم يُلق سيف الخطاب المتفق عليه، واختار خطابًا مناقضًا ومناهضًا للثورة، فيما بعد علمنا أن العائلة جردته من الصلاحيات كافة، وحملته مسؤولية ما حدث.
ولهذا حاول أن يزايد على شقيقه المعتصم الذي حاز على ثقة العائلة والقبيلة، وتحول سيف من مصلح إلى مدافع شرس عن نظام أبيه، وهو ما يؤكد عدم نضجه السياسي، وعدم قدرته على قيادة الإصلاح، وإنما لعب لعبة غير قادر على استكمالها.
واتضح أن القذافي خيّر أبناءه فمن يقاتل وينتصر سيخلفه.
محمد الذي كان خارج الحساب كان أول الهاربين، ثم الساعدي وهانيبال وتركوا المعتصم وسيف وخميس يدافعون عن النظام. قتل من قتل ونجا سيف بأعجوبة ووجد نفسه أسيرًا لدى الزنتان، وهو مصير لم يتوقعه أبدًا، فالمصلح أصبح في يد قبيلة بدوية لا يعنيها الإصلاح بقدر ما تعنيها الغنيمة، ولهذا لم يخرج خلال تقديم أوراق ترشحه للانتخابات الرئاسية، وهو يرتدي البدلة الأوروبية، وإنما ارتدى ملابس بدوية تعكس الرغبة في الانتقام أكثر من الرغبة في الإصلاح، وأن النخبة التي أحاطت به طوال عقد كامل اختفت، ولم يبق أمامه إلا «خوت الجد».
منذ خطاب زوارة عام 1973 اعتمد القذافي نظرية كيس الخيش المليء بالفئران. عليه أن يرج الكيس حتى لا تتمكن الفئران من قضم الكيس والخروج منه، وبالتالي لم يستقر على نظام إداري ثابت، ومنذ إلغاء القوانين المعمول بها في البلاد أصبح القذافي مصدرًا لقوانين تتغير باستمرار.
إلا أن انصراف الشباب عن منظومة القذافي كافة بعد انكشاف سيف الأحلام، جعلهم يلتصقون بالعالم الافتراضي، الذي وجدوا فيه حريتهم وآمالهم بالتغيير في انتظار اللحظة المواتية، وهو ما تحقق في 15 فبراير 2011.
وعندما رأى القذافي المتظاهرين وهم يطالبون بسقوط نظامه، اكتشف أنه توقف عن رج كيس الخيش فقضمته الفئران وخرجت إلى الشوارع، فصرخ يائسًا «من أنتم أيتها الجرذان».
روى لي مصدر مطلع أن كونداليزا رايس وزيرة الخارجية في عهد بوش الابن، عندما زارت ليبيا في عام 2008، طلبت لقاء مغلقًا مع القذافي لا يحضره إلا مترجمها، وفي هذا اللقاء طلبت رايس من القذافي التنحي عن السلطة، لصالح ابنه سيف، ومترجم رايس هو عربي يعمل في وزارة الخارجية الأمريكية، التقى بمصدري الذي روى له ما جرى في ذلك الاجتماع، وثمة عدة افتراضات لما جرى بين رايس والقذافي:
الافتراض الأول أن الأمريكان ضاقوا ذرعا بالقذافي ويريدونه أن يختفي من المشهد السياسي برمته.
والافتراض الثاني أن سيف هو من طلب من الأمريكان الضغط على والده للتنحي، بدليل أنه أعلن انسحابه من جميع المشاريع في نفس العام، أو على الأقل هذا ما فهمه القذافي من حبيبته «كوندي» كما كان يصفها، ومثل هذا النظام يستحيل إصلاحه.
***
ميراث القذافي
رحل القنفذ وترك أشواكه الحادة والسامة في كل مكان. لم يترك جيشًا محترفًا يلملم أشتات البلاد حتى بقبضة فولاذية، ولم يترك دستورًا يحتكم إليه الناس، ولا أحزابًا تتوافق وتقود البلاد في فترة عصيبة، ولم يترك مجتمعًا مدنيًا، وكان القذافي قد قال ذات يوم «تستلموها مني رماد» وهذا ما حدث.
تعكس مرحلة القذافي صعوبة بناء الدولة في هذا الجزء من العالم. يرى المفكر الجزائري مالك بن نبي أن آخر دولة إسلامية ظهرت في المنطقة هي دولة الموحدين، لعله يقصد الدولة بمفهومها الخلدوني، أي العصبية والدعوة الدينية، فبعد الموحدين لم يعد يحتاج الأتراك إلى خليفة عباسي ليحكموا من ورائه، بل إن المماليك وهم صنف من الرقيق الأبيض حكموا مصر والشام.
صحيح ظهرت دعوات دينية مثل السنوسية في ليبيا والمهدية في السودان، ولكنها فشلت في بناء دولة على نمط دولة الموحدين بسبب الاستعمار.
الدولة الوحيدة التي نجحت هي الدولة السعودية بقيادة الملك عبدالعزيز، بعد محاولتين فاشلتين قادها أجداده.
عبدالناصر هو أول مصري يحكم مصر منذ العصر الفرعوني، وعبدالكريم قاسم أول عراقي يحكم العراق منذ البابليين، والقذافي هو أول ليبي يحكم البلاد منذ ما قبل العصر الإغريقي والروماني، وأحمد بن بلا هو أول جزائري منذ ما قبل الاحتلال العثماني، ولكن جميع هؤلاء وصلوا إلى السلطة من خلال انقلابات عسكرية، وليس بتوافق مع مجتمعاتهم.
أول دولة حديثة في المنطقة أسسها ضابط ألباني اسمه محمد علي، اعتمد بالكامل على الأوروبيين والأتراك والشركس ولم يعتمد على المصريين، فالجيش أسسه ضابط فرنسي تحول للإسلام يدعى سليمان باشا، وكلوت بك الفرنسي هو من بنى مستشفى قصر العيني.
كل الدول الحديثة التي تحولت إلى جمهوريات فشلت فشلًا ذريعًا. ليس فقط بتآمر العسكريين وإنما لأن هذه المجتمعات لم تنطلق من تراثها وتجربتها التاريخية.
بعد استقلال السودان تقاسم السلطة حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي. كان حزب الأمة يمثل الطائفة المهدية والحزب الآخر يمثل الطائفة الختمية.
لماذا لم يحكما بهذه الصفة واختارا قناعين لم يصمدا طويلًا، فبعد سنتين من الاستقلال طلب رئيس الوزراء عبدالله خليل من قائد الجيش إبراهيم عبود الاستيلاء على السلطة، وبعد أن استشار عبود زعيم المهدية عبدالرحمن المهدي وزعيم الختمية ذهب إلى الإذاعة وقرأ البيان الأول. لم يحرك دبابة واحدة ولا استعان بعسكري واحد.
نجحت دول الخليج لأنها لم تستورد أنظمتها السياسية من الغرب، وتطورت في ظل مشيخات تقليدية، أما الذين حاولوا أن يمشوا مثل الحمام فقد نسوا مشيتهم ومشية الحمام.
منذ البداية لم تستطع هذه البلدان التوافق، لذلك طلب السوريون من فيصل بن الشريف حسين أن يحكمهم، وبعد احتلال سورية استدعاه العراقيون.
ورضي الليبيون بحفيد مهاجر جزائري ليكون ملكًا عليهم، فقد كان من المستحيل أن يرضى أهل برقة بأن يحكمهم شخص من طرابلس والعكس صحيح، حتى الدولة الوحيدة التي ظهرت في فزان وهي دولة أولاد محمد أسسها مهاجر موريتاني.
والدولة الوحيدة التي خضعت لها ليبيا هي الدولة القرهمانللية، التي أسسها ابن مهاجر تركي.
بعد 72 سنة من الاستقلال يعود الليبيون إلى المربع الأول، ولكن هذه المرة بدون ملك ينحدر من الأدارسة، وبميراث مسموم تركه القذافي، فإذا كانت المشكلة قبل فبراير هي القذافي نفسه، فأصبحت بعد فبراير عدد النسخ المشوهة من القذافي، وكأن القنفذ ترك جيناته المعدية لتصيب الجميع.
دفن القذافي في قبر مجهول، لكن ميراثه لا يزال يتجول في الشوارع، ويدخل ويخرج من كل البيوت.
________________