بقلم مفتاح فرج
كان عام 1966 بداية العد التنازلي للاستقرار في ليبيا. ففي خريف ذلك العام وبعد رجوعه من دورة تدريبية ببريطانيا (التي لم يوفق في إكمالها لعدم اجتيازه الإمتحانات كما يقول أحد رفاقه المقربين) وقع الإختيار على الملازم معمر القذافي ليكون المنفذ لمآرب أمريكا في ليبيا.
وكان قد تعرض للمراقبة والإختبار لمدة سنة أي منذ تخرجه من الكلية العسكرية الملكية ببنغازي. وعلى الفور بدأ الأمريكان في تدريبه وتوجيهه، وحمايته بطبيعة الحال، من أعين المخابرات الليبية والإنجليزية والمصرية، ولم يكن مدرسه وموجهه السياسي سوى العميل وخبير الإنقلابات مصطفى كمال المهدوي.
لقد درس الأمريكان تاريخ القذافي ونفسيته بدقة، فعرفوا عن وجود شائعات حول نسبه، وأنه طرد من مدارس سبها آواخر 1961 لسوء أخلاقه وشذوده وليس ـ كما يدعي ـ بسبب أعماله الوطنية، وهذا بشهادة مدرسيه.
لقد أتت أمريكا بشخص مجهول وغير معروف بولائه لها حتى لا يجلب عليه المشاكل وينكشف أمره. ومما يؤكد ما كان معلوماً لدينا ما جاء في مقالة للسيد عبدالحميد البكوش نشرتها مجلة الوسط في 16 أكتوبر 1995:
“… كان ضباط الإنقلاب صغاراً غير معروفين للناس. وذكرني ذلك بما قاله لي سفير أمريكي وأنا رئيس وزراء (كان ديفيد نيوسم سفير أمريكا لدى ليبيا فى ذلك الحين)، إذ كان يشك في رغبتي في الإستيلاء على الحكم فجاءني زائراُ يستطلع تلك الرغبة، ونصحني بأني إذا فكرت في ذلك فإن علي أن أتجنب إشراك أسماء معروفة، لأن الناس تحكم عليهم من أول يوم، وأن من الذكاء مشاركة أسماء مجهولة تستطيع السيطرة على الأمور والجميع يتوقعون منها ما لا يعرفون..”.
لقد صدق السفير، فبناءاً على هذه الإستراتيجية تم تجنيد القذافي ومجموعته من الضباط الأحداث سنة 1966.
وما خفي عن البكوش في ذلك الوقت أن المخابرات الأمريكية والسفير نيوسم قد استقرا على استغلال مجموعة الضباط الوحدويون الأحرار لتنفيذ مآربهم ولم تكن نصيحة (السفير) له سوى حيلة بارعة ليطمئنه أن الأمريكان لم يكن لديهم أي مخطط إنقلابي، وليصرفوا الأنظار عن عملائهم الكثر.
لقد كانت مواجهة غير متكافئة بين سفير تسنده آلة إستخباراتية ضخمة (بلغت ميزانية وكالة الإستخبارات المركزية ـ السي آي إيه ـ وحدها سنة 1966 (505) مليون دولار وفي سنة 1998 وحسب المصادر الرسمية بلغت ميزانية كافة الأجهزة الإستخباراتية الأمريكية 26 مليار دولار) وبين رئيس وزراء شاب لا يتجاوز عمره خمسة وثلاثين عاماً يتبعه جهاز إستخبارات صغير، حديث النشأة، قليل الإمكانيات، ومخترق.
ويبدو أن البكوش لم يعد في ذلك الوقت كسابق عهده متابعاًً لتحركات المهدوي، ونحن لا نلومه على هذه الغفلة فقد توارى المهدوي عن الأنظار بعض الشئ بعد إنتقاله إلى بنغازي في ربيع 1967 بناء على أوامر المخابرات الأمريكية. لقد كانت ليبيا فريسة وغنيمة سهلة للمخابرات الأمريكية.
وقد نصح الأمريكان مجموعة الضباط الوحدويون الأحرار بالإبتعاد عن الأحزاب السياسية المدنية ( بعثيين، وإخوان، وقوميين) والتيارات والتنظيمات المتنافسة داخل الجيش وكانت في ذلك الوقت ثلاث مجموعات رئيسة:
مجموعة الشلحي: التى تضم خريجي مصر وبعض من خريجي بنغازي. ومجموعة العراق: سمي بتنظيم العراق لأن معظم أعضائه كانوا ضباطاً من خريجي كلية العراق العسكرية. كانت توجهات أعضائه قومية ولم يكن تنظيماً بعثياً. ومجموعة خريجي مدرسة الزاوية العسكرية.
وقد تمكنت أمريكا من خلال وجود هذا الخلاف والتنافر بين ضباط الجيش إلى إيجاد ثغرة دخلت من خلالها وأمسكت بزمام الأمور مستغلة في نفس الوقت إمكانيات كل مجموعة لمصلحة تنظيم الضباط الصغار الذى كان يرأسه الملازم معمر القذافي.
كان اختيار مجموعة الملازمين دون غيرهم من الرتب لأسباب وجيهة من وجهة نظر الأمريكان أهمها أن الضباط الصغار عادة ما يكونون قريبين من الجنود حيث هم آمروهم المباشرون، وأغلبهم يبيتون في الثكنات ولا تشغلهم مسئوليات عائلية.
كما أن لديهم طموحاً واستعداداً للمغامرة، وأن تحركاتهم ليلاً او نهاراً لا تثير شبهات الأجهزة الأمنية مثل ما تثيره تحركات الضباط الكبار.
وقد أطلق المهدوي والأمريكان على المجموعة الإنقلابية الأسم الحركي” بلاك بوتس” (وهذا يعزز الإعتقاد السائد بين كثير من المراقبين والمهتمين بعدم وجود تنظيم في صفوف الجيش الليبي تحت مسمى “الضباط الوحدويون الأحرار“، ويؤكد ذلك أن هذا الاسم المزعوم لتنظيم داخل القوات المسلحة اليبية لم يظهر إلا بعد إنقلاب سبتمبر 1969) حيث كان صغار الضباط في الجيش الليبي آنذاك يرتدون الأحذية السوداء.
ويذكر الليبيون أن أول صورة نشرت لمعمر القذافي على صفحات الجرائد الليبية أياماً بعد نجاح الإنقلاب ظهر فيها جالساً على مكتب مرتدياً حذاءه (بوته) الأسود، وكأن الغرض منها توصيل رسالة مشفرة للمعنيين أن تنظيم “البلاك بوتس” قد انتصر.
وقد نقل المهدوي تصورا آخر للمخططين الأمريكان في مسألة اختيار الملازمين (القذافي وجماعته) دون غيرهم من الرتب: “إن الضابط الكبير الذى يبرر اختيار ملازم عديم الخبرة لهذا العمل الضخم وهو إسقاط دولة أهم شئ عنده هو أن الصغير يمكن تدريبه وإعادة تشكيله كعجينة كما نريد، بل ننسخه من جديد ونحوله إلى شئ جديد وكيان يعمل بسهوله لنا، فتفريغ مخه سهل فلم تثبت بعد في عقله كل ما يعتقد حتى أننا ممكن أن نحوله عن دينه إن شئنا، وهذه تجارب نحن نعمل ونقوم بها ويعرفها عملاؤنا الراسخون في عملهم وعلمهم وتجاربهم، لهذا كان الاختيار للأحدث دون الأقدم“.
كلام المهدوي هذا لم يأت من فراغ فهو بالتأكيد كان على علم بالتجارب التى كان يقوم بها العلماء الأمريكان في مجال السيطرة على العقل أو غسل الأدمغة ، وربما كان على علم أيضاً بالتجارب السرية التى كانت وكالة الإستخبارات الأمريكية تجريها منذ عام 1953 في مجال التأثير والسيطرة على سلوك الإنسان، وقد أعطت الوكالة لهذا المشروع الأسم الكودي MK-ULTRA.
وكانت جريدة (النيويورك تايمز) أول من نبه الرأي العام الأمريكي في ديسمبر 1974 عن وجود هذه التجارب غير القانونية حيث كانت تجرى على آلاف الأفراد من عسكريين ومدنيين دون علمهم بماهية التجارب ولا عن نوع العقاقير التى كانت تعطى لهم.
بعد إنكشاف أمر التجارب شكل الكونجرس الأمريكي سنة 1975 لجنة تحقيق برئاسة السيناتور فرانك تشرش التى أمرت بإيقاف التجارب وتعويض المتضررين. كما شكلت لجنة تحقيق رئاسية ولجنة بوزارة الجيش لنفس الغرض.
وكان ريتشارد هيلمز (مدير السي آي إيه من 1966 إلى 1973 وأحد مهندسي المشروع) وقبل تركه رئاسة الوكالة عام 1973 قد أمر بإتلاف الوثائق والملفات الخاصة بالمشروع ، إلا أن القليل من هذه الوثائق نجا من الإتلاف ووجد طريقة إلى الصحافة سنة 1974.
في سنة1977 صرحا ضابطان سابقان في (سي آي إيه) هما فكتور ماندريتي ومايلز كوبلاند أن التجارب ما زالت مستمرة، وذكر كوبلاند أن أغلب المعلومات عن المشروع قد أخفيت عن لجان التحقيق.
كان الهدف الأساسي من التجارب هو اكتشاف عقاقير لغسل أدمغة الأفراد ليكونوا عملاء وجواسيس دون علمهم، وكانت تستعمل في التجارب مواد مخدرة أهمها مخدر ( إل إس دى ) بالإضافة للتنويم المغناطيسي. تصريحات المهدوي تؤكد أن الأمريكان استعملوا أحدث الأساليب العلمية للتجنيد والسيطرة في تعاملهم مع مجموعة الضباط الوحدويون الأحرار.
ولا يخفى على المعنيين أن وكالة الإستخبارات الأمريكية تحتفظ بملفات كاملة بالصوت والصورة عن اجتماعات ممثليها بالمهدوي قبل وبعد الأول من سبتمبر 1969، وهذا الأسلوب متبع مع كل الجماعات والتنظيمات المتعاونة مع الإستخبارات الأمريكية والغربية عموماً كما ذكر كثير من عملاء الإستخبارات الأمريكية الأمريكان في مذكراتهم المنشورة وفي ما كتبوه بعد استقالتهم من الوكالة.
وقد تعلمت الأنظمة الإستبدادية من ذلك فعمدت إلى استعمال نفس الأسلوب ضد معارضيها وشعوبها معتقدين أن هذه الأساليب الخسيسة والمحرمة شرعاً وقانوناً قد تطيل من أمد حكمها.
***
يتبع
_____________
المصدر: كتاب “المؤامرة والخديعة: خبايا وأسرار حركة الضباط الوحدويين الأحرار في سبتمبر 1969” ضمن سلسلة ”حان الوقت ليعلم شعبنا الليبي.