بقلم مفتاح فرج
الإخـتراق
قامت أمريكا منذ نهاية الخمسينيات بإنشاء شبكة من العملاء و“الأصدقاء الموالين” في ليبيا. والصنف الأخير كان يضم عسكريين من جيش وشرطة ورجال أعمال وموظفين ومحامين.
وسنتكلم هنا عن أخطر وأهم عميل لأمريكا في ليبيا ولربما في الشرق الأوسط، ألا وهو مصطفى كمال أحمد المهدوي المحامي.
مصطفى المهدوي من مواليد مصر سنة 1932. تخرج من كلية الحقوق بالإسكندرية سنة 1959، ومن زملاء دفعته بالكلية إبراهيم الفقيه حسن وشمس الدين أبوشويرب.
عقب رجوعه إلى ليبيا عمل المهدوي بالقسم الفني بالمحكمة العليا بطرابلس، وكان مقيما بمنطقة الفويهات الغربية ببنغازي. كان ذا ثقافة واسعة، لبق الحديث. جندته المخابرات الأمريكية بسبب صلته العائلية والحميمة بمصطفى بن حليم رئيس الوزراء السابق.
كوّن المهدوي خلال فترة وجيزة صداقات كثيرة بين العسكريين والمدنيين. فمثلاً كانت تعقد في بيته بطرابلس بمنطقة كازابورايو اجتماعات لمثقفين وشباب من طليعة النخب الفكرية والثقافية والعلمية في البلاد، ضمت من الليبيين على وريث رئيس تحرير جريدة البلاغ (توفى فى حادث سيارة في طريق عودته من مصراته إلى طرابلس في 17 أغسطس 1970 وكان معه في نفس السيارة أخواه عبدالحميد وخالد وابن عمه عبدالهادى أحمد وريث وقد نجوا من الحادث مع إصابتهم بكسور مختلفه) والمحامي إبراهيم بشير الغويل (كان في نفس السيارة التى قتل فيها المرحوم على وريث ونجا من الحادث).
ومن الفلسطينيين د. أحمد صدقي الدجاني و د. أنيس القاسم، و عيسى القاسم، و فريد أبووائل ومن الأردن نواف جرادات، وغيرهم.. بالإضافه إلى أصدقاء المهدوي من الضباط الأمريكان الذين كانوا يحضرون في بعض الأحيان حفلات أعياد ابنته الصغيرة.
كان المهدوى أثناء سكنه في طرابلس يقضى أيام الجمع مستجماً في مزرعة عائلة توفيق غرغور وكان صديقاً لإبنهم حبيب. في سنة 1970 استولت السلطات الليبية على المزرعة وعلى الفلل التى حولها ووزعتها بعد تقسيمها على عدد من المقربين واحتفظ العقيد القذافي لنفسه بأحسن تلك الفلل.
وغرغور مواطن فلسطيني قدم للعيش في ليبيا بلد العدل والآمان بعد أن أمم الرئيس جمال عبدالناصر أمواله وممتلكاته في مصر ظلماً وعدواناً أوائل الستينيات، وهو ليس “واحد أجنبي أفاّق” كما نعته العقيد القذافي في خطابه يوم 1 مايو 2006.
والقذافي حشر اسم غرغور في خطابه بعد أن بلغه خبر تقديم عائلة غرغور دعوى قضائية خارج ليبيا من أجل استرداد أموالهم وممتلكاتهم التى نهبت في ليبيا.
بالنسبه لنشاطاته داخل المؤسسة العسكرية الليبية فقد تعرف المهدوي “الإنسان البسيط والقاضي العادي” كما وصف نفسه على مجموعة من الضباط من بينهم النقيب عبدالحميد الجدايمي (خريج الكلية العسكرية بنغازي) والنقيب مصطفى نوري (خرّيج الكلية العسكرية بالعراق 1959) وضباط آخرون من ذوي الرتب الصغيرة
واتفقوا فيما بينهم على وضع مخطط تنفذه وحدات من كتيبة الدروع الأولى، ومقرها مدينة الخمس، بالتنسيق مع ضباط أمريكان موجودين بمطار مصراته لاعتقال الملك إدريس أثناء سفره براً إلى طرابلس وذلك في شهر فبراير 1966 وإجباره على التنازل عن العرش لنخبة من الضباط ثم تعلن الثورة. إلا أن هذا المشروع مات فى مهده بسبب سذاجته وأيضاً لرفض بعض الضباط الكبار التعاون معهم.
وكما كان معلوماً مسبقاً للأمريكان وللمهدوي حضر الملك إدريس إلى طرابلس براً في فبراير 1966، وكان غالباً ما يسافر بلا حراسة، وكان رفيقه الوحيد دائماً هو سائقه الضابط عبدالمولي. إلا أنه في هذه المرة كان يرافقه في سيارة أخرى اللواء مفتاح بوشاح (توفي في يوليو 1971) قائد عام قوات الأمن، وفي هذه الرحلة عالج الملك أسنانه في مستشفى قاعدة الملاحة الأمريكي.
كان المهدوي كثير التردد على قاعدة الملاحة (امعيتيقة) الأمريكية وكان يدخلها بكارنيه (بطاقة) خاص يحمل رقم 157 صدر له من قيادة القاعدة. كان يشترى بعض حاجياته من متجر (بي إكس) الموجود داخل القاعدة دون أن يدفع ثمنها، فقد كان لديه حساب مفتوح بصفته ضابط التجنيد الرئيسي.
كانت مهمته الأساسية هى استقطاب الضباط الليبيين ثم دعوتهم للذهاب إلى القاعدة حتى يتمكن ضباط الإستخبارات الأمريكان من التعرف عليهم عن قرب، وكانت تقدم لهم المشروبات والمرطبات بالإضافه لبعض الهدايا من متجر (بي إكس) .
في أغسطس من عام 1966 توجه المهدوي إلى كل من الأردن والكويت والبحرين ـ وربما الإمارات العربية التي كانت آنذاك تحت الوصاية البريطانية ـ برفقة وفد رفيع المستوى من المخابرات الأمريكية. واستغرقت الرحلة نحو عشرين يوماً، وفي نفس الرحلة زار إسرائيل.
أخبرنا المهدوي عن زيارته للكويت والقدس (أخبار ليبيا 11 فبراير 2006) ـ هو طبعاً لم يحدد أي قدس ـ والمؤكد أنه زار القدس الغربية حيث تلقى علاجاً للأسنان في مستشفى هاداسا الاسرائيلي الكائن بمنطقة عين كريم.
ونسي المهدوي أن يخبرنا عن زيارته للبحرين حيث قابل أميرها الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (1933-1999) الذى أهداه هدايا قيمة، منها عباية مذهّبة وساعة ثمينة عليها صورة الأمير. وندعو الله أن يطيل في عمر المهدوي ليحكي لنا الأسباب الحقيقية لزيارته لهذه الدول.
قبل حرب يونيو 1967 اتخذ جهاز أمن الدولة الذى كان يرأسه في ذلك الوقت العقيد إسماعيل التويجيري قراراً لكشف نشاط عملاء أمريكا في ليبيا والحد منه، وكان على رأسهم مصطفى المهدوي، وذلك بالتنسيق مع الإستخبارات العسكرية والمخابرات الإنجليزية.
وبسبب نشاطاته الواسعة وشبه العلنية، مستخدماً سيارته الفولكس الخضراء في تنقلاته (كان قد اشتراها من شركة “جنرال موتورز” التى كان قريبه مصطفى بن حليم وكيلها في ليبيا) قررت أجهزة الأمن الليبية تضييق الخناق عليه.
كما قام كل من اللواء نورى الصديق رئيس الأركان وعبدالحميد البكوش الذى كان وزيراً للعدل ثم رئيساً للوزراء (من 26 أكتوبر 1967 إلى 7 سبتمبر 1968)، وبدافع الحس الوطني، بتنبيه بعض من مرؤسيهم بعدم الإتصال وبضرورة قطع علاقتهم بالعميل الخطير ـ حسب تعبيرهم ـ والمعروف لديهم بمصطفى المهدوي.
وقد وصف أحد كبار المسؤولين السابقين بالدولة الليبية المهدوي بالعميل والإنتهازي.
فى ربيع 1967 انتقل المهدوي للعمل في محكمة الإستئناف ببنغازي ليكون قريباً من معسكر قاريونس الذى كان يسمى “معسكر أمريكا” أو “معسكر المؤامرة” حيث كان يوجد العديد من الضباط الوحدويون الأحرار وعلى رأسهم الملازم أول معمر بومنيار القذافي.
فقد كلف المهدوي بمتابعة ملف الملازم معمر القذافي ـ بالإضافه لعمله الأساسي كضابط تجنيد ـ وكان يزوره بمعسكر قاريونس ببنغازي باستمرار لحين قيام إنقلاب سبتمبر. وكان القذافي، الضابط بسلاح ا (المخابرة)، يسمح للمهدوي بإجراء مكالمات دولية من حجرة الإتصالات بالمعسكر.
في ربيع 1970 عرض القذافي على المهدوي تولى رئاسة محكمة الشعب فرفض (حسب ادعائه) لوجود علاقات عائلية بينه وبين بعض رجال العهد الملكي الذين مثلوا أمام تلك المحكمة، عندها طلب منه القذافي البقاء في عمله بمحكمة الإستئناف.
وقام المهدوي بترشيح كل من القاضي عبدالعزيز النجار والشيخ محمود صبحى ليكونا أعضاء في المحكمة. إلا أن السبب الحقيقي لرفض المهدوي منصب رئاسة المحكمة هو لعلمه أنه كان عميلاً معروفاً ولو قبل لانكشفت الشبكة التي نظمها للقيام بالإنقلاب.. ولانتهت المسألة، لذا آثر البقاء بعيداً عن الأضواء.
ربما يعرف الكثير من الليبيين المواقف الوطنية للشيخ الفاضل محمود صبحى أثناء العهد الملكي ولكن القليل من يعرف مواقفه المبدأية والشجاعة أثناء عهد الإنقلاب. ولعل أقل موقف يحسب للشيخ الجليل ويكفيه فخراً هو قيامه بإرجاع مبلغ من المال أرسله له القذافي بعد أن زاره في بيته وشاهد أثاثه المتواضع.
كلف المهدوي بعدة مهام رسمية وسرية من بينها ما كان في سنة 1987 حيث كان عضواً بارزاً في لجنة المباحثات الليبية الفرنسية ثم الليبية التشادية والتى امتدت فى الفترة من يونيو 1987 إلى أكتوبر 1988.
فى معرض الحديث عن الوثائق السرية المفرج عنها من قبل الحكومة الأمريكية وردت الفقرة التالية بمجلة الإنقاذ التي كانت تصدرها الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا (العدد 47، سبتمبر 1998، ص20):
“ويلاحظ أنه في إطار الإستكمال الدوري لهذه التقارير فقد وردت رسالة من وزير الخارجية الأمريكية المستر دين راسك مؤرخة في 18 أبريل 1968 إلى السفارة الأمريكية في طرابلس تحثها على استكمال المعلومات الواردة في بعض التقارير التى سبق إرسالها.
ومن الملفت للنظر أن رسالة الوزير، التى تضمنت ملاحظات حول أكثر من مائة إسم، قد طلبت إزاء عدد محدود من هذه الأسماء تزويد الوزارة بكل شئ عنها وهذه الأسماء هي:
العقيد يونس العمراني، العقيد مختار إبراهيم البنغازي، الزعيم سالم بن طالب (مدير عام أمن طرابلس)، دكتور محمد البشتي، دكتور شكرى غانم (خبير نفط)، محمد أبو عياد اللافي الحاسي (رجل أعمال)، كامل حسن المقهور (محام)، مصطفى المهدوي (قاضي)، المقدم محمود بن ناجي، محمد انقا (رجل أعمال)، الحاج محمد مصطفى الشيباني (رجل أعمال)، مقدم شرطة محمد السوداني، بشير الويفاتي (خبير زراعي)، عقيد شرطة يونس بالقاسم على (مسؤول الأمن الداخلي لعدة سنوات بعد الإنقلاب ثم سجنه القذافي) .”
ويمكننا طرح التساؤلات التالية:
ما هى التوجهات السياسية للأشخاص المذكورين بالقائمة؟
ما هو موقع ودور د. شكرى غانم في هذه المجموعة؟
ما سبب وجود هوائي ضخم بمزرعة محمد إبراهيم انقا منذ أواسط الستينيات؟
(كان الرائد عبدالسلام إجلود قبل وبعد الإنقلاب يتردد بشكل شبه يومي على مزرعة انقا والذى صار في ما بعد مديراً لأموال إجلود المهربة في الخارج.)
هل هى الكفاءة وحدها التى جعلت من العقيد يونس بلقاسم مسئولاً عن الأمن في ليبيا في عهد الإنقلاب؟
تولى كامل المقهور إدارة أموال عائلة القذافي المهربة إلى أوربا بعد وفاة مديرها السابق فوزي الغرياني الذى كان يقيم في أسبانيا. وهناك معلومات تشير إلى أن محمد على الحويج قد تولى إدارتها فيمابعد.
وفي رسالة مصطفى المهدوي إلى الكاتب ورد قوله أن الحكومة الأمريكية لم تكن في حاجة لجمع معلومات عنه لو كان فعلاً عميلاً لها بل لكانت كلفته بجمع معلومات عن الآخرين المذكورين في القائمة.
وهذه حجة واهية وغير مقنعة ولا تنطلى إلا على السذج. فأجهزة الاستخبارات الأمريكية متعددة ومنفصل بعضها عن بعض بحيث توجد لدى بعض الوزارات ـ كالصناعة والزراعة والخارجية مثلا ـ والهيئات أجهزة جمع معلومات أو استخبارات خاصة بها.
كما أنه لا يفوتنا الاشارة إلى أن إدراج اسم المهدوي قد يكون للتمويه ولحمايته وإبعاد الشبهة عنه، وهو أسلوب متبع ومعروف لدى هذه الأجهزة المتخصصة.
وأخيراً فإن تجنيد العملاء والتعامل معهم لا يتم من خلال المراسلات المفتوحة والتي يمكن أن تتسرب أو تقع في أيدي جهات لا يراد لها أن تطلع عليها.
***
يتبع
_____________
المصدر: كتاب “المؤامرة والخديعة: خبايا وأسرار حركة الضباط الوحدويين الأحرار في سبتمبر 1969” ضمن سلسلة ”حان الوقت ليعلم شعبنا الليبي.