عمر الكدي
القذافي وأبناؤه
كان القذافي يردد دائمًا أنه لم يُربِّ أبناءه. عاش بعيدًا عنهم في باب العزيزية وسط حراسه وحارساته، ولكن ثمة شهادات كثيرة تفيد بأن القذافي دائمًا كان يوصي أولاده بأن يجعلوا الليبيين يخافونهم، ويبدو أنهم لم يكونوا بحاجة للتوصية، كما أن نرجسية القذافي وحبه لذاته لم يتركا متسعًا ليحب أي شخص آخر، بما في ذلك أبناؤه، فكان يتصرف معهم مثل بيادق على رقعة الشطرنج يحركهم كما يشاء.
ابنه البكر محمد عاش مع والدته التي أحسنت تربيته، فكان دمثًا متواضعًا ولا يتصرف بعنف، ولكنه أدرك مبكرًا أنه لن يكون خليفة والده، ولهذا انصرف لجمع المال بهوس، فسيطر على البريد والاتصالات وتوكيل المشروبات الغازية، ودخل في خلافات عديدة مع إخوته وخاصة المعتصم، ولم يزر والده في باب العزيزية إلا مضطرًا ليشكو من إخوته، بينما كانت علاقته بزوجة أبيه صفية فركاش ودية.
سيف تصرف منذ البداية على أنه الخليفة لوالده، وتدخل في كل الملفات التي تورط فيها والده مثل ملف لوكربي، وأسلحة الدمار الشامل ومذبحة سجن بوسليم، وقضية أطفال الإيدز في بنغازي، فقد أدرك أن هذه القضايا ستشكل عائقًا أمام طموحاته في تولي القيادة، بينما تصرف القذافي على أن يكون التوريث مطلبًا شعبيًا وليس مفروضًا من أعلى، ولهذا ترك لسيف الحرية في إنشاء مؤسسات ستبتلع مؤسسات والده، مثل مؤسسة الغد وصحفها وقنواتها، وجمعية حقوق الإنسان وغيرها، ونجح في استقطاب شخصيات عديدة من التيار الوطني ومن المعارضة الخارجية، وراهن عليه الإخوان المسلمون أيضًا، ولم يكن ينقصه شيء سوى أن يحال والده على التقاعد وأن يتحول إلى المرشد الأعلى للثورة، أو الأب القائد، وهو ما لا يحتمله شخص مثل القذافي، كما أن طموحات شقيقه المعتصم ظلت عقبة كأداء أمام مشروعه.
رعونة سيف وعدم إلمامه بعلم السياسة، فهو درس الهندسة المعمارية في جامعة الفاتح، ثم اكتشف أن العمل في السياسة يحتاج إلى دراسة الاقتصاد وإدارة الأعمال، فأمضى بعض الوقت بين لندن وفيينا، ولا أعتقد أنه نال شهادة حقيقية.
ثمة من يرجح أن شكري غانم كتب له رسالة الدكتوراه عندما تعرف عليه في فيينا، وهي الرسالة التي أوصلت غانم إلى رئاسة الحكومة. لم يكن سيف في حاجة إلى استدعاء الحرس القديم والقطط السمان، وهو ما استغله المعتصم ليكوّن تكتلًا ضده مكونًا من القبيلة واللجان الثورية.
المعتصم النزق والعنيف جعل القذافي يوازن بين خيارين، منذ أن شعر بخطر المعتصم على نفسه، وبالتأكيد ذكره بيوسف باشا وهو يقتل شقيقه الأكبر ثم يستبعد شقيقه الثاني لينفرد بالسلطة، وهو ما أجبره على حل كتيبة المعتصم التي رفض ضباطها الانصياع لأوامر القذافي.
فغضب المعتصم وسافر إلى القاهرة، حيث منحه الرئيس مبارك رتبة عقيد أركان وعاد بعد تسعة أشهر ليعين أمينًا لمجلس الأمن الوطني، وهو منصب للترضية فلا وجود له في الواقع، ومع ذلك ابتز المعتصم رئيس الحكومة البغدادي المحمودي ليحصل منه على ميزانية ضخمة لمجلسه المزعوم، بالضبط مثلما يحدث اليوم بين زعماء المليشيات ورؤساء الحكومات.
كل المؤشرات تؤكد أن الحرب الأهلية ستندلع بين سيف والمعتصم إذا اختفى القذافي فجأة، وغالبًا سينتصر الطرف الذي ينحاز إليه خميس قائد اللواء المعزز 32.
خميس هو العسكري الوحيد بين أولاد القذافي. منضبط وخلوق ويعيش وسط جنوده، ولم يتورط في قضايا فساد مالي وأخلاقي مثل إخوته، كما أنه خطب فتاة من قبيلته، وبعد تخرجه من الكلية العسكرية درس العلوم السياسية، وكل هذا يؤكد أنه يفكر في خلافة والده أيضًا، وبتكوينه هذا قد يكون حلًا وسطًا مقنعًا إذا اندلعت الحرب بين شقيقيه.
أما الساعدي فقد استبعد مبكرًا من السباق، لأسباب أخلاقية وفساد مزمن، ولهذا توجه للرياضة ثم عاد وتفرغ لدعم الدعوة السلفية.
أما هانيبال فقد استحوذ على الشركة الوطنية للنقل البحري باعتباره قبطانًا بحريًا، هذا التخصص الذي حوله إلى بحار فينيقي يتزوج من عارضة أزياء لبنانية، ويخوض البحر خلفها حتى يستدرج إلى معتقله في لبنان، وتسبب بنزقه وعنفه في أزمات دبلوماسية مع سويسرا ودول أخرى.
كما تسبب الشقيق الأصغر سيف العرب في أزمات مع ألمانيا بسبب طيشه، وعندما زار توني بلير ليبيا للإعداد لتسليم البرنامج النووي الليبي، هدد سيف العرب بأنه سيغتال توني بلير، ولا أدري هل هي إحدى حركات والده أم أن الولد كان يعني ما يقول؟
عائشة هي الوحيدة التي كانت الأقرب لقلب والدها. تقول له يا بابا وليس مثل أشقائها يخاطبونه بـ«يا سيدي». لم يجد القذافي من هو ند لها ليزوجه عائشة، وأخيرًا وافق على ضابط من القبيلة وأقيم لها عرس أسطوري، ولكن هذا لم يمنعها من إدارة جمعية واعتصموا، كما سيطرت على الشركة الوطنية لاستيراد الذهب والمعادن الثمينة، وتحولت إلى أكبر تاجر للمعدن النفيس، ومنذ أن أبدت رغبتها في دراسة القانون في جامعة طرابلس، أمر والدها بألا يقبل ذكر واحد في الكلية التي ستدرس فيها عائشة، ثم بني سورًا أحاط الكلية من جميع الجهات قبل أن تحضر عائشة محاضرتها الأولى.
وباختصار إذا كانت أزمة ليبيا في العهد الملكي أن الملك لم ينجب وليًا للعهد، فإن أزمتها في عهد القذافي أنه أنجب أكثر مما يجب، وأنه لم يتفرغ لتربيتهم مثل عبدالناصر فخرجوا مشوهين، فالقنافذ تلد القنافذ.
القذافي والزعماء العرب
تعلق القذافي بـ جمال عبدالناصر تعلق المريد بشيخه، وظل يستمع إلى خطاباته منذ أن كان تلميذًا في مدرسة سبها الإعدادية، وبعد الانقلاب ومنذ اليوم الأول أرسل آدم الحواز إلى القنصلية المصرية في بنغازي، ليؤمن أول اتصال مع زعيمه المبجل دون أن يكشف عن نفسه، وأرسل عبدالناصر فتحي الديب ومحمد حسنين هيكل الذي عاد على نفس الطائرة إلى القاهرة، كان عبدالناصر يعتقد أن عبدالعزيز الشلحي هو قائد الانقلاب، ولكن هيكل عندما عاد قال لعبدالناصر إنهم مجموعة من الشباب متعلقون بك، وفي أول لقاء بين عبدالناصر والانقلابيين طلب القذافي من رفاقه ارتداء نظارات سود عند لقاء عبدالناصر، ربما لأنهم انخرطوا في نوبة من البكاء عندما أطل عليهم عبدالناصر.
في ذلك الوقت كان القذافي يحتاج إلى عبدالناصر لتأمينه، ولكن سرعان ما تغير القذافي عندما اضطر عبدالناصر إلى لجمه، بعد أن تطاول على الملك حسين في اجتماع عقد بطرابلس لدول المواجهة، ويروي عبدالمنعم الهوني أن القذافي قال له بعد زيارة للقاهرة، إن عبدالناصر بنى نظاما بوليسيا، ولو عاش عبدالناصر أطول لتفجر الخلاف بينه وبين القذافي، ويبدو أن القذافي شعر أن عبئًا ثقيلًا انزاح من على صدره بموت عبدالناصر، وخاصة بعد أن قال عبدالناصر في زيارته الأخيرة لليبيا «أترككم وأنا أقول إن أخي معمر القذافي هو الأمين على القومية العربية والوحدة العربية».
هذا ما كان يحتاجه القذافي من شيخه، ليتفرغ لخليفته أنور السادات. في البداية اعتقد القذافي أن السادات رئيس ضعيف، لو أقنعه بالوحدة الاندماجية سيحكم البلدين عاجلًا أو آجلًا، ولكنه اكتشف بعد حرب أكتوبر أن السادات ضحك عليه، ولذلك احتفل بمقتله وكان يطلق عليه «المقبور السادات».
وجاء حسني مبارك الذي عرف كيف يرضي غرور القذافي، وكانت اللقاءات بينهما أشبه بمباراة بينغ بونغ، وعرف مبارك كيف يحصل من القذافي على ما عجز الرؤساء الآخرون عن الحصول عليه.
لم يخشَ القذافي رئيسًا عربيًا مثل هواري بومدين. جعل العلاقات بينه وبين الجزائر علاقة عادية تتسم بحسن الجوار، أما علاقته بـ الحبيب بورقيبة فكانت علاقة عاصفة. في البداية اعتقد أن بورقيبة صيد سهل، وعندما تبين له عكس ذلك وخاصة بعد أن تراجع بورقيبة عن مشروع الوحدة بين البلدين، بدأ القذافي في سلسلة التآمر على تونس، كانت ذروتها انتفاضة قفصة وانتهت العلاقة بقطيعة حتى انقلاب زين العابدين عام 1987.
كان القذافي يريد من زين العابدين أن يكون مجرد تابع له، ومرت العلاقة بينهما بين شد ورد، ولكن زين العابدين بعقليته الأمنية وتربيته السواحلية عرف كيف يرضي القذافي، حتى ولو اضطر لتوسيط زوجته ليلى.
واتسمت علاقته بالرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بالبرود، بل إن القذافي سخر من بن جديد أكثر من مرة على التلفزيون، وخاصة بعد أن دخلت الجزائر في عشريتها السوداء.
وقبل ذلك وجد القذافي فرصة لتطبيع العلاقات مع الحسن الثاني على حساب الجزائر، ويمكن القول إن الحسن الثاني هو القائد العربي الوحيد الذي عرف كيف يوقف القذافي عند حدوده، وأن يحصل منه على ما يريد.
في أول لقاء بينهما خاطب القذافي الحسن الثاني بـ«يا أخ حسن»، فقال له أنا اسمي الملك الحسن الثاني، ولم أسمح لأحد بمخاطبتي باسمي الأول إلا ابني عمي إدريس السنوسي والحسين بن طلال.
أوقف القذافي دعمه لجبهة البوليساريو وتسلم عمر المحيشي مقابل 200 مليون دولار، وطلبت* المغرب من المعارضين الليبيين مغادرة البلاد.
كانت علاقة القذافي بـ جعفر النميري في البداية علاقة ودية، حتى إن القذافي ساهم بشكل فعال في إحباط الانقلاب العسكري الذي قاده هاشم العطا وبابكر النور ضد نميري، عندما أنزل الطائرة التي على متنها قادة الانقلاب، المتجهة من لندن إلى الخرطوم وسلمهم للنميري، ولكن فيما بعد ساءت العلاقات بين البلدين لدرجة القطيعة، وتحول اسم النميري في الإعلام الليبي إلى الذيل نميري.
كانت علاقة القذافي بقادة الخليج سيئة وخاصة مع السعودية، فقد أطلق عليهم اسم خنازير الجزيرة، وأطلق على عُمان اسم مربط الحمير، وكان يعتبرهم رجعيين وعملاء لأميركا، ووصل التوتر إلى محاولة اغتيال الملك عبدالله، أما ملك الأردن عبدالله الثاني والرئيس السوري بشار الأسد فكان يتعامل معهما بترفع، ويخاطبهما بـ«يا ابني» ولم يأخذهما على محمل الجد.
علاقته بـ صدام حسين كانت علاقة غريبة، فقد اتسمت بالكراهية الشديدة من الطرفين، والمنافسة على من سيقود الأمة العربية، وفجأة تحولت إلى علاقة حب شديد بعد القبض على صدام حسين، أما بعد إعدامه فتحول إلى قديس حتى إن القذافي فكر في نصب تمثال لصدام في قلب طرابلس، ولأول مرة يشاهد القذافي وهو يبكي يوم إعدام صدام، وانعزل قرابة شهر لأن البدوي داخله أدرك بحدسه أن الدور عليه، وأن كل ما أعده صدام بخبرته في العمل السري قد ذهب سدى، فالذي بلغ على مخبئه من فريق حمايته الخاص، ومن بني عمومته.
ومنذ ذلك الوقت لم يعد القذافي يثق في أحد، فسلم في كل شيء لعل رأسه يسلم، مستبعدًا أن يثور عليه الليبيون ما دام فتح صفحة جديدة مع الغرب. كان الأفضل له ولنا لو ذهب وراء حدسه البدوي.
____________