كمال بن يونس
مرت 44 سنة عن الهجوم المسلح والدامي الذي شنه “كومندوس” مسلح تونسي “يساري عروبي” مدعوم من نظامي القذافي في ليبيا والجزائر على منطقة قفصة جنوبي غربي تونس، ضمن محاولة كانت تستهدف النظام التونسي بزعامة الحبيب بورقيبة ورئيس حكومته الهادي نويرة.
في هذه الذكرى التقى الإعلامي والأكاديمي كمال بن يونس المؤرخ التونسي محمد ضيف الله وأجرى معه الحوار التالي لـ “عربي21″، حول بعض أبعاد منعرج “ثورة قفصة” التي بدأت فجر الـ 27 من كانون الثاني / يناير 1980:
س ـ أستاذ محمد ضيف الله من خلال قراءاتك المعمقة لتاريخ “الزمن الراهن” في تونس والمنطقة، كيف تنظر إلى ما سمي في يناير 1980 “ثورة قفصة” ضد نظام الحبيب بورقيبة واعتبرته السلطات التونسية ثم المحاكم “مؤامرة” شارك فيها وقتها النظامان الليبي والجزائري وعشرات القوميين العروبيين والشيوعيين بينهم من تدرب على السلاح في ليبيا لبنان وكانت له علاقات بجبهة البوليزاريو الصحراوية؟
ـ في الحقيقة لا بد أن نعترف بعد قراءة أدبيات المحاكمات السياسية في تونس وبينها ما يهم قضايا المجموعات اليسارية القومية العربية “الثورية” والإسلامية أن أغلبها تبنى في مرحلة من المراحل “المنهج الثوري“… وبعضها تبنى منهج “الثورة المسلحة” والتدرب على السلاح في معسكرات عديدة من بينها ليبيا ولبنان… مثلما تكشفه النشريات السرية لتنظيمات يسارية وعروبية مثل “العامل التونسي” و“الشعلة “…
في تلك المرحلة وقع تأسيس مجموعات سياسية و“ثورية” بعضها كانت له علاقة بحركات التحرر الوطني الفلسطينية واللبنانية… بينما كان بعضها الآخر أداة من أدوات بعض الأنظمة والأحزاب “الثورية” التي تخدم أجندات بعض الحكومات العربية وبينها الأنظمة “العروبية واليسارية” في ليبيا والعراق وسوريا والجزائر واليمن…وكان لعدد من رموز المعارضات التونسية والعربية في المهجر علاقات بتلك الأنظمة والحركات “الثورية القومية” وشارك معها في التدريب على السلاح..
كما كانت لدى بعض النشطاء علاقات بجناح في النظام الجزائري والمخابرات العسكرية الجزائرية على غرار الكومندوس الذي هاجم مدينة قفصة التونسية في كانون الثاني / يناير 1980 وكان برمج أن تتحرك مجموعات مسلحة عديدة في كامل البلاد لدعمه…
وكان مقررا أن يلتحق بالكومندوس في قفصة حوالي 500 مسلح تونسي آخرين كانوا يتدربون في لبنان… كانت لديهم علاقات بالنظامين الليبي والجزائري وبعض التنظيمات الفلسطينية المسلحة مثل الجبهة الشعبية بزعامة جورج حبش والتنظيم “الإرهابي” الذي كان يتزعمه أبو نضال، صبري البنا، من بغداد..
وكانت لديهم علاقات بالمعارضات التونسية والعربية في فرنسا وأوروبا والجزائر مثلما كشفته شهادات وكتب أصدرها عدد من أبرز المناضل اليساريين والقوميين السابقين مثل المتصف الشابي وأحمد نجيب الشابي وفتحي بالحاج يحيى..
ولعل أهم استنتاج يتوصل إليه الباحث والمؤرخ هنا هو أن أغلب الحركات والحكومات القومية العربية واليسارية والإسلامية لم تكن تؤمن في تلك المرحلة بـ “الوطن” و“الدولة الوطنية“.. بل كان ولاؤها خارجيا قوميا أمميا..
وهم يلتقون في هذا التمشي مع أغلب الأطراف والحركات السياسية “الإسلامية ” و“الليبرالية” التي كانت مرجعياتها بدورها “أممية” و“عالمية” وليست للوطن والدولة الصغيرة التي تنتمي إليها..
وهنا تطرح إشكاليات معرفية فكرية كبرى حول مفهوم الأمة والدولة والولاء للوطن.. إشكاليات أثرت في مسارات أغلب الحركات والأحزاب والحكومات والشخصيات التي أثرت لاحقا في الحراك السياسي الوطني وفي توجهات النخب والمجتمعات…
س ـ ما هي أهم الأطراف الفكرية والسياسية والمخابراتية والعسكرية التي شاركت في “ثورة قفصة 1980″ التي وقع إجهاضها؟
ـ أطراف عروبية ويسارية شاركت مباشرة أو بشكل غير مباشر في “عملية قفصة” أو دعمتها سياسيا وإعلاميا كثيرة..
بعضها سبق أن شارك في حركات قومية وشيوعية و“ثورية وطنية” برزت في تونس في الستينيات والسبعينيات مثل منظمة “العامل التونسي” و“الشعلة” والتنظيمات القومية السرية وبينها “الجبهة القومية التقدمية التونسية” و“الحبهة القومية لتحرير تونس” وهما من تبنّى الهجوم على قفصة.. وقد تأسستا في ليبيا ولبنان… وكانت لدى نشطائهما علاقات بالسلطات الليبية والجزائرية..
ومن أبرز رموزها وقتها عمارة ضو بن نايل ونبيل حمدي والمسطاري بن سعيد..
وحسب وثائق المحاكمات السياسية فإن “مكتب الاتصال العربي” وهو أحد فروع المخابرات الليبية تكفّل بنقل أفراد المجموعة المسلحة من ليبيا ولبنان نحو الجزائر.. وكان من المقرر أن يدعمها لاحقا بـ 500 مقاتل..
لكن وقع العدول عن ذلك لما أجهضت العملية.. لأسباب ذاتية.. َبعد بروز خلافات بين المتحكمين في خيوطها في ليبيا والجزائر ولبنان والعراق.. وربما بسبب “خيانات“.. من بينها عدم توفير أجهزة اتصالات تسمح لقيادة الكومندوس بأن تتواصل مع شركائها في منطقة يتجاوز مداها 50 كلم.
س ـ هل ثبتت مشاركة السلطات الجزائرية في دعم التمرد المسلح على نظام بورقيبة ورئيس حكومته الهادي نويرة في كانون الثاني / يناير 1980؟
ـ وثائق المحاكمات السياسية في تونس تكشف ضلوع مسؤولين ليبيين وجزائريين في عملية قفصة 1980..
أولا كان قائد الكومندوس وعقله المدبر عز الدين الشريف من خريجي جامعة الزيتونة ومن بين زملاء الرئيس الجزائري هواري بومدين لما كان طالبا. ثم قابل بومدين في قصر الرئاسة في الجزائر بعد أن أكمل عقوبة سجنية بعشرة أعوام في 1972 بسبب مشاركته في المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد حكم الحبيب بورقيبة في 1962..
وتكشف المصادر أن العقيد الجزائري سليمان هوفمان مسؤول المخابرات الجزائرية ومستشار الرئيس الجزائري الهواري بومدين ثمّ خليفته الشاذلي بن جديد قام بمساعدة العقيد محمد صالح اليحياوي والعقيد شكيب بإيواء المجموعات المسلحة القادمة من ليبيا ومن لبنان ونقلهم تحت إشراف وحماية المخابرات الجزائرية نحو الحدود الجزائرية التونسية ومنها تسهيل دخولهم نحو محافظة قفصة.. غير بعيد عن واحة مدينة نفطة السياحية في الجريد التونسي.. حيث كان الرئيس الحبيب بورقيبة يقضي إجازة في أحد فنادقها..
وتذكر بعض المصادر أن عز الدين الشريف زعيم الكومندوس وعقله المفكر وأحمد الميرغني قائده الميداني كانا على اتصال بالقيادات الجزائرية والليبية العليا وساهما في تدريب مسلحي “جبهة البوليساريو” التي كانت تقود عمليات الحركات الانفصالية عن المغرب.
ومكنت الجزائر عزالدين الشريف من جوازات عديدة كان يتنقل بها إلى أوروبا وخارجها تحضيرا للهجوم على قفصة..
كان عدد أفراد المجموعة المسلحة حوالي 61 وكان قائدها العسكري الميداني أحمد الميرغني محدود المؤهلات والمستوى التعليمي.. لكنه سبق أن سافر بحثا عن شغل ومورد رزق إلى الجزائر ثمّ ليبيا.. وهناك انتمى إلى “الجبهة التقدمية القومية“.
وسبق لأحمد المرغني أن اتّهم سنة 1972 بمحاولة تفجير السفارة الأمريكية ومقرّ الحزب الحاكم في تونس وحكم عليه بـ 5 سنوات سجنا وبعد الإفراج عنه عاد إلى ليبيا.
وكان المرغني هو الذي قاد الكومندوس يوم 27 كانون ثاني / يناير 1980..وقد انقسم المهاجمون إلى 4 مجموعات الأولى لمهاجمة ثكنة الجيش في المدينة والثانية لمهاجمة مركز الأمن والثالثة لمهاجمة منطقة الحرس الوطني والرابعة لمهاجمة ثكنة الجيش خارج مدينة قفصة..
لكن العملية أجهضت ووقع قمعها بقوة خلال يوم واحد… بعد سقوط 18 مدنيا و41 من الحرس والشرطة وعدد غير محدّد من أفراد الجيش الوطني.. فشلت العملية، وفقد أعضاء المجموعات المسلحة الداعمة الكومندوس قفصة في محافظات أخرى الاتصال ببعضهم.. ففر أغلبهم… لكن السلطات الليبية ووسائل الإعلام تابعت لمدة أسابيع دعم هذه “الثورة التونسية“… عبر الإعلام الليبي الرسمي وعبر إذاعة أحدثتها خصيصا سميت “إذاعة قفصة صوت تحرير تونس“.
قامت هذه الإذاعة بتحريض المواطنين على الثورة على النظام في تونس… لكن صوتها خفت بعد مدة قصيرة..
يذكر أنه تمّت محاكمة 41 من المهاجمين وحكم على 11 منهم بالإعدام. نفّذ فيهم الحكم يوم 17 نيسان / أبريل من نفس السنة. وقد ساندت أغلب الفصائل القومية واليسارية في الحركة الطلابية وخارج الجامعات وقتها “ثورة قفصة“.
لكن ميزان القوى تغير لاحقا لصالح العمل السياسي والنقابي القانوني تحت تأثير الأحزاب الديمقراطية الليبرالية واليسارية الاشتراكية المعتدلة وخاصة حركة الديمقراطيين الاشتراكيين.
بعد ذلك تطور خطاب الأحزاب والحركات التي سبق أن تبنت خطابا ثَوريا راديكاليا بما فيها الحركات الماركسية اللينينية والقومية والإسلامية…
بل لقد خرجت أغلب الأطراف السياسية من السرية إلى العلنية وتقدمت بمطالب تأسيس أحزاب قانونية مباشرة بعد فشل عملية قفصة وتعيين المثقف الوطني والعروبي محمد مزالي وزير التربية ومدير مجلة “الفكر ” رئيسا جديدا للحكومة وأمينا عاما للحزب الحاكم خلفا للهادي نويرة الذي تسببت الأزمة في إصابته بجلطة دماغية أدت إلى شلله وإعاقته..
ثم فتحت صفحات جديدة في تاريخ البلاد والنخب والتيارات السياسية بعد إسقاط حكومة محمد مزالي في يوليو 1986 ثم الإطاحة بحكم بورقيبة في نوفمبر 1987واستلام زين العابدين بن علي مقاليد الأمور حتى الإطاحة به في ثورة يناير 2011.
_______________