سالم الكبتي
عبر هذه المرحلة من الأعوام التي مرت بها أمة العرب بعد نكبة فلسطين كما يشار إليها في مايو 1948 طغى في جانب من جوانب الفكر العربي استحسان اللجوء إلى تغيير الواقع الراهن بواسطة الجيوش التي دخلت على خط السياسة بوضوح وقوة أيضاً.
كان التيار الذي طرح يزداد قوة مع الأيام ويتمثل في الإصلاح المنشود بواسطة الانقلابات العسكرية بدلاً من أن تظل الجيوش قابعة في ثكناتها تتفرج وتراقب من بعيد.
وغدا هذا الحلم ينتشر لدى العسكريين العرب وشعروا أنه سيقود الأمة إلى الأفضل.
أضحت الانقلابات سيدة الساحة بين صباح ومساء فيما كانت أغلب تلك الجيوش تعج إلى حافتها بالتنظيمات العسكرية السرية وتمتلئ.
ومع مرور الوقت أيضاً عقب مطلع الخمسينيات وما ساد المنطقة من تغيُّرات وتبدلات لم يكن الجيش في ليبيا بعيداً عن هذا الذي بدأ ينمو ويسود.
تأثر وإن بطريقة غير مباشرة. تماهى ذلك أيضاً مع بروز التأثير الحزبي في البلاد الذي ظل يتغلغل وينمو سرياً بفعل التأثير الخارجي.
التنظيمات السرية مع التشكيلات الحزبية السرية تكادان تكونان انطلقتا في وقت واحد وإن لم يكن ثمة تنسيق ظاهر بينهما أو علاقة واضحة إلا في بعض الحالات لعلها ظلت على مستوى ضيق عبر بعض قيادات وأفراد تلك الأحزاب مثل البعث أو حركة القوميين العرب اللذين حاولا مد الجسور مع بعض العسكريين خاصة الذين عادوا من الدراسة في الكلية الحربية في العراق وكان أيضاً بعض العسكريين قد شملهم تيار حركة الإخوان المسلمين.
بمعنى أن هؤلاء كانوا ينتمون إلى هذه التشكيلات المدنية أو لديهم تعاطف معها واستمر هذا الشعور مع التحاقهم في الجيش ووحداته تلك الأعوام. يذكر بعض قادة تيار الإخوان في ليبيا أن بعض العسكريين كانوا يحضرون أحياناً اجتماعات ذلك التيار خاصة في بنغازي.
وفي جانب آخر يؤيد هذا الاتجاه الأيديولوجي والفكري السياسي لدى بعض العسكريين الليبيين أن مجموعة أخرى من تيار حزب البعث وحركة القوميين العرب حافظوا على عقيدتهم السياسية داخل الجيش بعد انضمامهم إليه وإن لم تكن واضحة للعيان سوى للمقربين من رفاقهم خاصة خلال نكسة يونيو 1967 وما تلاها.
والواقع أن الجيش الليبي بعد الاستقلال ظلت اهتماماته توجه بالكامل من قبل رؤسائه والسلطة في البلاد إلى انصرافه بالكامل لمهامه الحربية عبر الضبط والربط والتدريب ورفع روح الكفاءة لدى منتسبيه من الضباط وضباط الصف والجنود الذين كان أغلبهم ذوي درجات محدودة أو حتى متدنية من التعليم والثقافة ولكنه بمرور الوقت وتأثراً بما يحدث في الداخل وما يجاوره في المنطقة كان لا بد من أن تطاله لعبة السياسة والمشاركة في التغيير.
كان يلاحظ إجمالاً على الجيش وصفوفه اهتمامه بالعمل العسكري كما أشرت وكان في الصورة الواضحة بعيدا عن العمل السياسي أو المشاركة في تفاصيله. لم يشارك في الانتخابات أو في تنظيمها أو في الدعاية للشيوخ أو النواب أو الانحياز لهما.
لم ينخرط أفراده في أية نقابة أو رابطة. لم يشارك أيضاً في تفريق المظاهرات أو التدخل في مراقبة المشتبه فيهم سياسياً أو التحقيق معهم أو سجنهم. كان ذلك متروكاً للأجهزة الأمنية الأخرى في الدولة.
كان ثمة إدارة للمخابرات الحربية تخضع للجيش وقيادته وعملها يتجه لأمن القوات المسلحة وحمايتها ومراقبة أي تحركات أو أعمال لا تتعلق بمهام الجيش. وربما كانت هذه الإدارة تشارك برأيها فيما تمر به البلاد من أحداث سياسية وتبلغ به إدارة الجيش للعلم فقط.
العمل الأخر الذي تميز به الجيش الليبي تلك الأيام هو تكليفه ومشاركته في أعمال الإغاثة والإنقاذ على سبيل المثال كما حدث في فيضانات وادي درنة عام 1959 وفي كارثة زلزال المرج عام 1963.
كما لوحظ أنه لم يسهم أيضا في أية حركات فعلية حربية سوى في معركة إيسين جنوب البلاد عام 1957 في مواجهة الاعتداء الفرنسي على تلك القرية وكذا إعلان حالة الطوارئ في صفوفه عام 1967 وصدور الأوامر إليه بالتحرك نحو الحدود الشرقية ومرابطته في البردي انتظاراً للمشاركة في (معركة المصير) مع مصر.
وقد ظل الأمر كذلك ولم يشارك لعدة ظروف لعل في مقدمتها تحقيق الضربة الخاطفة ضد القواعد الجوية المصرية وعاد إلى ثكناته بعد أن اجتاز مجموعة من ضباطه الحدود ودخلوا إلى مصر للمشاركة في تلك المعركة تحدياً للأوامر ولم يعودوا سوى في سبتمبر 1969 ليقضي أغلبهم بقية حياته في السجن اعتباراً من ديسمبر 1969!!
وعلى المستوى العسكري الخارجي كان الجيش يشارك أو يحضر في أعمال قادة الجيوش والمؤتمرات العسكرية على المستوى العربي أو الأفريقي وفي عام 1960 خلال حرب الكونغو تقرر تشكيل قوة عربية لحفظ السلام هناك بقرار دولي واختيرت ليبيا من بين جيوش بعض الأقطار ومنها مصر والسودان وتونس والسعودية.
لكن الملك حفاظاً على أرواح أبناء الجيش في قضية لا تخص ليبيا بطريقة حيوية مباشرة أمر الحكومة في ذلك الوقت بالاعتذار والمشاركة مادياً إذا قبلت الأطراف الدولية بهذا الاقتراح.
كان الجيش بناء على هذه الرؤية بعيداً عن السياسة وملابساتها. وحين قدم الضباط العراقيون كما أسلفت القول إلى ليبيا أسهموا في بناء الجيش ورغم أنهم كانوا في الغالب مؤدلجين سياسياً وعقائدياً فإنهم لم يفكروا في تسييس الجيش الليبي أو تنظيمه سياسياً بأي شكل من الأشكال.
ويلاحظ أن هؤلاء الضباط الكبار أو الصغار أيضاً كان بعضهم ينضوي تحت تنظيمات عسكرية سرية في العراق وهو أمر كان قوياً ومعروفاً لدى الجميع وكانت تسعى لقلب الأوضاع هناك.
والعجيب أنهم لم يفاتحوا أحداً هنا بأي موضوع سياسي أو يوجهوا بشأنه أياً من العسكريين الليبيين.
لم يتدخلوا في حال البلاد الداخلي. في مراحل لاحقة سيلاقي هؤلاء الضباط حتفهم جراء هذه الصراعات العراقية مثل اللواء عادل أحمد راغب الذي كان آخر رئيس أركان للجيش الليبي حتى عام 1958.
.. والعجيب في هذا كله أن أول تنظيم سري عسكري ليبي بداياته كانت هناك.. في العراق عند ضفاف دجلة وليس في ليبيا. انطلق أواخر عام 1956. أيام الدراسة في الكلية العسكرية خلال العدوان الثلاثي على مصر. شكل ذلك التنظيم مجموعة من طلاب الدفعة العسكرية الليبية الثانية تضامناً مع القضية العربية والفلسطينية.. وأيضاً لتغيير النظام.
ــــــــــــــــــ