عمر الكدي
القذافي والمثقفون
كان القذافي مطلعا على الحركة الثقافية في ليبيا خلال الستينات، وقسم الكُتاب وفقا لتصنيفه الأيديولوجي إلى إسلاميين وقوميين ويساريين، كما كان يراقب ظاهرة الصادق النيهوم الذي كان الكاتب الأكثر جماهيرية، ويبدو أنه حاول بعد انقلابه أن يكوّن ثنائيا منه ومن النيهوم، على غرار عبدالناصر وهيكل.
وعين النيهوم أمينا للثقافة في الاتحاد الاشتراكي، وحضر مناقشات ندوة الفكر الثوري التي من خلالها أعاد القذافي تصنيف المثقفين، وفي عام 1973 اعتقل معظم كتاب اليسار، وبعث النيهوم والشاعر محمد الفيتوري للتفاوض معهم(*) في السجن.
ولكنهم رفضوا التفاوض وهم في السجن، وكان من بين المعتقلين عبدالله ويوسف القويري وأمين مازن وكامل عراب وحتى أستاذ الفلسفة المصري عبدالرحمن بدوي اعتقل بأمر من بشير هوادي، ويبدو أن النيهوم نجح في إقناع القذافي بإطلاق سراح المعتقلين، كما أقنعه بأن يغادر البلاد إلى سويسرا حيث أسس دار المختار التي أصدرت مجموعة من الموسوعات.
وظلت علاقة النيهوم بالنظام تتم من خلال التوجيه المعنوي في الجيش حيث أنتج لهم برنامج الشعب المسلح، ولكنه كان يقابل القذافي كلما عاد إلى ليبيا متخذا من غرفة في الدور الرابع بالفندق الكبير مقرا له، حيث يجتمع بعقداء من ضباط الجيش أكثر من المثقفين.
وبعد اعتقال كتّاب صحيفة الأسبوع الثقافي عام 1978، والحكم على رئيس تحريرها عبدالرحمن شلقم بالإقامة الجبرية، توقف تقريبا جميع المثقفين عن الكتابة ولم يبق في الساحة إلا الحواة، ولكن ظل القذافي يستدعي الكتاب ويرهبهم حتى وهم صامتون.
روى لي أكثر من شاهد بأن القذافي استقبلهم مرة في الخيمة، حيث علق بندقيتين إحداهما من نوع بوصوانة والثانية من نوع كلاشنكوف، وبعد أن جلسوا سحب بندقية بوصوانة وقال: «بمثل هذه البندقية قاوم أجدادنا الطليان»، ثم أخذ بندقية الكلاشنكوف وسحب الأقسام ووجهها نحوهم وقال: «وبمثل هذه البندقية سنسحق أعداء الثورة»، فقال له أمين مازن: «من دخل الخيمة فهو آمن»، فرد عليه القذافي: «من دخل الثورة فهو آمن».
وروى لي المرحوم كامل عراب أن القذافي كلما التقاه يقول له، آه كنت تخطط للقيام بانقلاب قبلي، وذات مرة رد عليه عراب قائلا «أرجوك يا قائد ارفع عني هذا السيف المسلط»، فكف القذافي عن ذلك.
بينما روى لي المرحوم محمد أحمد الزوي أن القذافي كان يطلب منه كتابة أسماء الكتاب وفقا لمقاعد جلوسهم، فينظر إلى الصفحة أمامه ثم ينظر إلى الكاتب أمامه ويناديه باسمه، حتى تأكد أن هؤلاء لا يشكلون خطرا عليه، بالرغم من ماضيهم المعارض للنظام الملكي.
فيما بعد عرفتُ أن الروائي إبراهيم الكوني والشاعر سعيد المحروق كانا مصنفين كشعوبيين، الأول يدعو للطارقية والثاني يدعو للأمازيغية الذي توفي في مقتبل العمر إثر حادث أقعده عن الحركة، وتحول الأول إلى روائي عالمي سرعان ما قربه القذافي، وعامله مثل النيهوم حيث أقام في قبرص ثم سويسرا قبل أن يستقر في إسبانيا
ووجد القذافي في أدب الكوني ما يبحث عنه، فقد مجّد الكوني الصحراء وقيم الزهد والتقشف والخلوة، وهو ما دعا إليه القذافي في قصصه التي لا تطاول قامة الكوني.
كما حظي الروائي أحمد إبراهيم الفقيه بمعاملة مميزة حيث عين سفيرا في أكثر من بلد، وأسست له شركة في القاهرة حملت اسم شركة الصقر الأخضر للإنتاج الإعلامي، كما حظي الشاعر محمد الفيتوري بمعاملة مميزة كملحق ثقافي بالسفارة الليبية في الرباط وقبلها في بيروت.
وعند الإعلان عن اتحاد الجمهوريات العربية بين ليبيا ومصر وسورية، عين عبدالله القويري وعلي مصطفى المصراتي وعلي فهمي خشيم وزراء في الاتحاد، بينما تولى خليفة التليسي رئاسة الدار العربية للكتاب وهي دار نشر ليبية تونسية منذ تأسيسها وحتى وفاته.
ومنذ ما يعرف بأصبح الصبح لم يسجن القذافي أي مثقف، ولكن لجأ للتضييق على من ظلوا يحاولون رفع سقف حرية التعبير بقطع مرتباتهم، ومنعهم من الكتابة وإقفال المجلات التي كانوا ينشرون فيها مقالاتهم المناكفة.
وبعد أن رفض القذافي التصور الذي وضعه جلود مع ثمانين من المثقفين وأساتذة الجامعات، راهن الكثير منهم على سيف القذافي وتعاونوا معه في وضع خطة لليبيا 2030، كما شاركوا في وضع مسودة للدستور قبل أن تفاجأهم انتفاضة 2011.
وهذا يشمل أيضا الكثير من المعارضين في الخارج، الذين التقوا بسيف القذافي خارج البلاد ونسقوا معه كجمعيات حقوقية وجمعيات مجتمع مدني، وبعضهم عاد إلى البلاد ووضع كل البيض في سلة سيف، إلا أن القذافي ظل ممسكا بكل خيوط اللعبة حتى انسلت من يديه خيطا خيطا، ووجد نفسه وحيدا أمام مسلحين غاضبين يبحثون عن ثأر تأخر طويلا.
ومنذ ما يعرف بأصبح الصبح لم يسجن القذافي أي مثقف، ولكن لجأ للتضييق على من ظلوا يحاولون رفع سقف حرية التعبير بقطع مرتباتهم، ومنعهم من الكتابة وإقفال المجلات التي كانوا ينشرون فيها مقالاتهم المناكفة،
***
المحرر: المعروف أن الذين جرى التفاوض معهم هم الأخوان المسلمون وأعضاء حزب التحرير، وأن الأخيرين هم الذين رفضوا التفاوض فأفرج عن الأخوان المسلمين ومكث أعضاء حزب التحرير في السجن ثلاثين سنة.
_____________