عمر الكدي
القذافي مفكرًا
يُعرف عن القذافي أنه كثير القراءة ويحرص على اقتناء الكتب، وذات مرة اكتشفتُ أن أحد أعضاء اللجان الثورية له مهمة واحدة فقط، وهي زيارة معارض الكتاب في البلدان العربية ليشتري للقذافي ما يرغب من كتب، ويبدو أن خوف القذافي من تسميم الكتب دفعه إلى ذلك.
ولكن من خلال ما كتب القذافي يمكننا معرفة ما استوعبه عقله من هذه القراءة، وهو في تقديري استيعاب انتقائي، فهو لا يقرأ لكي يعرف أكثر وإنما يقرأ لكي يسيطر ويحكم أكثر، وهذا واضح من كتابه الهزيل «الكتاب الأخضر»، ففي نحو 71 صفحة من الحجم الصغير حطم القذافي الديمقراطية الحديثة.
ينتهي أولًا من أداة الحكم في ثلاث صفحات، لينهال بمعوله على المجلس النيابي ثم الدستور والاستفتاء، قبل أن يطرح البديل وهو المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية أو الديمقراطية المباشرة. لا يحتاج القذافي للكثير من الحجج لإقناع قرائه، بل يذهب مباشرة للهدف فيقول بجراءة «أداة الحكم هي المشكلة السياسية الأولى التي تواجه الجماعات البشرية»، وقبل أن نستوعب هذا الاستنتاج الذي ليس له مقدمات يقول «الأسرة يعود النزاع فيها أغلب الأحيان إلى هذه المشكلة».
تجاوز القذافي بجراءة نادرة التراث الإنساني الذي كتبه فلاسفة كبار، مثل أفلاطون في كتابه «الجمهورية» وأرسطو في كتابه «السياسة»، ولا أعتقد أنه اطلع على كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي، وبالتأكيد اطلع على كتاب «الأمير» لميكيافلي، لأنه كتاب سيطرة وبالتأكيد اطلع على كتاب «طبائع الاستبداد» لعبدالرحمن الكواكبي، عندما كان يفكر في الانقلاب على النظام الملكي، وبعد أن يقضي على الصحافة ويحدد شريعة المجتمع ينتهي إلى الاستنتاج التالي: «ليس هناك أي تصور آخر لمجتمع ديمقراطي على الإطلاق إلا هذا التصور».
ثم انتقل إلى الفصل الثاني وحل المشكلة الاقتصادية حلًا نهائيًا، وفي هذا الفصل يتضح أن القذافي لم يقرأ شيئًا عن الماركسية، ولا حتى مر على فلسفة هيجل، وإنما اكتفى ببعض الملخصات من كتب الاشتراكيين الأوروبيين وعلى رأسهم سان سيمون وسيسموندي، وربما باكونين بل إنه لطش بعض المقولات من سان سيمون وحرفها، مثل شركاء لا أجراء التي كانت عند سان سيمون لا أجراء بل شركاء.
وفي هذا الفصل يصبح الترقيع واضحًا لأنه حقق هدفه في الفصل الأول، وهو الاستيلاء على أداة الحكم واحتكارها مدى الحياة، وفي الفصل الثالث يصبح الترقيع أشد وضوحًا، مثل عدَّاء في الماراثون يكاد يصل إلى آخر السباق، وعندها تظهر المقولات المضحكة، مثل المرأة تحيض والرجل لا يحيض، والدجاجة تبيض والدينار لا يبيض، والطفل تربيه أمه، وغيرها.
إذا تقدم القذافي بهذا الكتاب للجنة تقييم في جامعة تحترم نفسها لتحصل على صفر، ولكن ليس هدفه الحصول على لقب جامعي، وإنما تصرف بذكاء ليحتكر السلطة، فالألقاب الجامعية تحصل عليها من جامعات كبيرة حول العالم، بعد أن أصبح الديكتاتور الوحيد الذي ترجم كتابه إلى معظم لغات الأرض، وعقدت حوله ندوات شارك فيها كبار المثقفين العرب والأوروبيين والأفارقة ومن آسيا وأمريكا اللاتينية، بل إنه أمر بنقش الكتاب الأخضر على رخام تولت البحرية الليبية رميه في بحار ومحيطات العالم، فإذا دمر العالم في أي حرب نووية سيجد من يبقى على قيد الحياة نبراسًا يهتدي به.
لم يكتف القذافي بذلك بل كتب حتى في الاستراتيجية، مثل كتاب «آراء جديدة في السوق والتعبئة ومبادئ الحرب»، بعد تخرجه مباشرة في الكلية العسكرية، وحاول نشره في صحيفة الحقيقة قبل انقلابه.
ولكن محمد الهوني رمى المخطوطة في سلة القمامة، وعندها لم أعد أتعجب من جراءة القذافي الذي عند انقلابه كان يحمل رتبة ملازم أول في سلاح الإشارة، ولم يشارك في أي حرب وربما حتى في أي مناورة، ولم يستكمل دراسته العسكرية في كلية الأركان، مثل رفيقه عبدالسلام جلود الذي كان يلقب بالرائد ركن.
وبعد أن اعتزل العمل أطلق عليه الناس لقب الرائد على ركن، فكيف امتلك القذافي الجراءة ليطرح آراء جديدة في نشاط معقد يحتاج إلى عقول جبارة مثل الاستراتيجي الصيني سن تزو صاحب كتاب «فن الحرب»، بل إن القذافي لم يجد غضاضة في الاعتراض على خطة الجيش المصري خلال حرب العبور.
عندما طرح خطة بديلة ولم يجد الرئيس السادات بدًا من أن يتيح للقذافي الاجتماع بكبار ضباط الجيش المصري والسوري، وعندها طرح خطته بينما الفريق سعد الدين الشاذلي يتأمل هذا المخلوق الجريء، وهو يقول من الخطأ أن نطلق طلقة واحدة في سيناء، بل علينا أن ننزل القوات خلف خطوط العدو ونتجه مباشرة إلى فلسطين، بينما كبار الضباط الذين خاضوا عدة حروب يشرحون له كيف يمكن تأمين هذه القوات إذا نجحنا بقذفها خلف خطوط العدو، وكيف نستمر في الاتصال بها وكيف نمدها بالذخائر والتموين والسلاح وقطع الغيار.
وطبعًا هذه المرة لم يجد القذافي من يصفق له ويهتف بالروح بالدم، فالدماء فعلًا كانت تسيل على الضفة الأخرى من قناة السويس وفي هضبة الجولان، والقادة وقتهم ضيق لسماع هذه الترهات التي أجبر الليبيون على سماعها قبل كل نشرة أخبار.
فهدف القذافي تحقق وهو السيطرة المطلقة على السلطة دون الحاجة للخروج إلى انتخابات، وهو المرجع الأعلى لتفسير كتابه الذي حل محل الدستور، ويبدو أن من جاءوا بعده حفظوا هذا الدرس، ولهذا لم يشهد الليبيون انتخابات منذ 2014، وهذه المرة لن يحتاج عقيلة صالح والمشري وحفتر والدبيبة لكتابة كتاب آخر.
ثقافة القذافي
علينا أن نحلل شخصية القذافي من جميع وجوهها لأننا بذلك نحلل ظاهرة الطاغية في تاريخنا، وعندما نستوعب هذه الظاهرة لن تتكرر في تاريخنا مرة أخرى. أسس الدولة القهرمانلية ابن مهاجر تركي من قرية قهرمان في الأناضول. تزوج من سيدة ليبية مؤسسا بذلك مجموعة من السكان عرفت باسم الكراغلة انتشرت في المنطقة الغربية وبنغازي، واستمرت تلك الدولة من 1711 إلى 1835 ولم ندرسها بشكل كاف، حتى مرحلة يوسف باشا الأقرب إلينا والذي يشبه القذافي لم ندرسها بشكل واف، لذلك ظهر يوسف باشا مرة أخرى على شكل ضابط بدوي يسيطر على الاحتياطي الأكبر من النفط في أفريقيا، وليس مثل يوسف باشا الذي اعتمد في اقتصاده على القرصنة البحرية وتجارة العبيد وتجارة القوافل مع أفريقيا.
لم يكن أمام القذافي الذي ولد في بادية سرت ليتعلم إلا الكُتاب، حيث تعلم على يد فقيه تقليدي نجده عادة في القرى الصغيرة يعتاش على ما يمنحه طلابه الصغار كل يوم خميس، ومن وقف الجامع فالقرية الفقيرة تجد فقيهها فقيرا، والقرية الغنية تجد فقيهها أفضل حالا. في الكتاب تعلم القذافي القراءة والكتابة، وحفظ بعض سور القرآن والتحق، وقد تجاوز عمره الثماني سنوات، بمدرسة سرت الابتدائية التي تبعد عدة كيلومترات عن النجع حيث تقيم عائلته، وفي مدرسة سبها الإعدادية وجد فرصة أفضل للتعلم ومكتبة لم تكن موجودة في سرت، إلا أن أهم مصادر ثقافته جاء من المذياع الذي كان يحمله حيثما توجه، وينصت إلى إذاعة صوت العرب أكثر من غيرها.
المذياع جعل القذافي بعد نجاحه في امتحان الثانوية العامة بمدرسة مصراتة الثانوية يتجه إلى الكلية العسكرية ببنغازي، ومن خلال المذياع قرأ بيانه الأول، لذلك حرص على حراسة الإذاعة بدبابتين وعدد كبير من الحراس. في العام 1994 وصلتني دعوة من إذاعة المنستير لأشارك مع الصديق الشاعر فرج العربي في ملتقى الأدب المغاربي، ووجدنا سيارة تنتظرنا على الحدود، وعندما وصلنا إلى إذاعة المنستير وجدنا المدير في استقبالنا أمام الإذاعة، فقلت له أين الدبابتان ولأنه يعرف ليبيا جيدا استغرق في ضحكة طويلة، وفي مكتبه قال إنه عمل مدرسا في ليبيا في صرمان، وأن الخويلدي الحميدي كان أحد تلاميذه، فقلت له أشهد بالله أنك مدرس فاشل، فاستغرق في ضحكة أطول وهو يقول هذا صحيح.
بعد أن أصبح القذافي ملازما أول في سلاح الإشارة، سجل في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة بنغازي، وكان يتردد على الجامعة ليس فقط للدراسة وإنما لتجنيد خلايا مدنية، من خلال زملاء الدراسة في سبها ومصراتة، ويبدو أنه سجل في الجامعة حتى يبرر تردده عليها، أكثر من طموحه في الحصول على الشهادة الجامعية. نلاحظ أن صدام حسين فعل الشيء نفسه بعد أن حصل على الشهادة الثانوية خلال إقامته في القاهرة، ولكن كل من اتصلت بهم وكانوا قريبين من القذافي أكدوا أنه أدمن قراءة التاريخ أكثر من أي حقل آخر.
لم تكن قراءة منهجية وإنما قراءة انتقائية. الذين يدرسون التاريخ بشكل منهجي ينتهي بهم المطاف للتساؤل لماذا حدث ما حدث، والذين يقرؤون التاريخ بشكل انتقائي يتساءلون كيف حدث ما حدث، ومن الواضح أن القذافي اطلع على التاريخ الأوروبي مثل الثورة الفرنسية وتشكيل الكومونات، ومصير دانتون وروبسبير، كما درس التاريخ الألماني وجهود بسمارك في توحيد ألمانيا، بالإضافة إلى توحيد إيطاليا على يد العسكري غريبالدي والمثقف يوسف ماتزيني، كما درس الثورة البلشفية والمسيرة الكبرى لماوتسي تونغ، ودرس التاريخ العربي الحديث والقديم واهتم بتأسيس الأحزاب عقب سقوط الدولة العثمانية، وتجربة مصطفى كمال أتاتورك، ومن كل هذه القراءات ركز القذافي على كيفية السيطرة، وانتقى ما يساعده على تطبيق برنامجه، فمن ماوتسي تونغ استعار شعار الثورة الثقافية ولم يهتم بفشل هذه الثورة، ولكن سحره ماو تسي تونغ وهو يرى كبار قادة الثورة يحاسبهم طلبة في عمر أبنائهم، لأنهم تجرأوا وانتقدوا نتائج «القفزة الكبرى إلى الأمام» التي تسببت في موت عدة ملايين من الصينيين جوعا، ومن هناك جاءت فكرة تأسيس حركة اللجان الثورية، انطلاقا من جمعية ابن خلدون التي أسسها في جامعة طرابلس عبدالقادر البغدادي وسعيد راشد وسعيد حفيانة وآخرون لا تحضرني أسماؤهم، ومن الثورة الفرنسية استعار الكومونة، كما استعار بعض المقولات من سان سيمون وسيسموندي وباكونين، ومن النازية والفاشية استعار القومية والاشتراكية وعجنهما معا، ومن الثورة البلشفية تعلم كيف تسيطر مجموعة صغيرة منظمة على بلد كامل، ومن لينين تعلم حرق المراحل، ومن تروتسكي استعار الثورة الدائمة، كما انتقى من علم الاجتماع أطروحة الأنثروبولوجي الفرنسي بيار كلاستر «مجتمع اللادولة».
وظل القذافي يستعير ما يلائمه وهو في قمة السلطة، فعندما أصدر الكاتب البريطاني أنتوني جيدنز كتابه «الطريق الثالث» تبناه القذافي لدرجة اتهامه بسرقة أفكاره.
هل يمكننا اعتبار القذافي مثقفا؟
الجواب لا. لأنه كان انتقائيا بشكل مرضٍ، وهذا النوع من القراءة لا ينتج مثقفا بل ينتج محرضا أيديولوجيا أو مثقفا شعبويا، هدفه السلطة فقط وليس المعرفة مثله مثل الفقهاء الذين يحفظون النصوص دون تفكير.
المثقف الحقيقي ينهل معارفه من مصادر شتى ولكنه يستطيع هضمها وتمثيلها وتحويلها إلى سبيكة، أما المثقف المزيف فتكشفه آثار الترقيع حتى تتحول ثقافته إلى ما يشبه ثوب المتسول أو خيمة البدو الرحل.
______________