علي الصلابي
يقع الكثير من الخلط واللغط حول علاقة أقدار الله تعالى بالأسباب التي أمر الناس بالأخذ بها في سعيهم الدنيوي والديني، وهو ما يجعل مسائل القضاء والقدر، وعلاقتها بأفعال العباد وما يجري في الخلق من حوداث، باباً يستغله الضالّون لإضلال غيرهم، كأتباع مذهب “الجبرية” الذين وقع من فتنتهم في التاريخ الإسلامي ما وقع.
وقد يستغل هذا الباب أيضاً ضعيفو الإيمان أو المرجفون والمتثاقلون لتبرير ضعفهم وعجزهم، ولكي يتملصوا من مسؤوليتهم ومقتضيات إسلامهم أمام الله تعالى وأمام أمتهم، فيحتجون بغلبة أقدار الله وأنها ستجري شاء العباد أم أبَوا، وأن كل ما يحدث بإرادة الله وتقديره، ولذلك فليس عليهم أن يتحركوا في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين، والدفاع عن حقوق المسلمين ومقدساتهم ضد المعتدين والظالمين، الذين امتلكوا جميع أسباب القوة المادية والدنيوية، وعلت رايتهم في الأرض فلا سبيل إلى غلبتهم أو مغالبة أقدار الله التي قضت بذلك!! وإنَّ رأي هؤلاء زيغ، وأقوالهم هي الضلال المبين والفهم السقيم لآيات الله تعالى ولدينه القويم، وإنهم ليخلطون الحق بالباطل من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
فالحق أنّ الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر إثبات الأسباب، هو أنَّ قدرة العبد مع فعله لها تأثيرٌ كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسبّبات، والأسباب ليست مستقلّةً بالمسببات، بل لا بدَّ لها من أسبابٍ أُخر تعاونها، ولها مع ذلك أضداد تمانعها، والمسبَّبُ لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته، كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعلُ العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بدَّ من الإرادة الجازمة مع القدرة.
ولم يقل أحدٌ من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم.. لا مالك، ولا أبو حنيفة ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا الليث، ولا أمثال هؤلاء: إن الله يكلّف العباد ما لا يطيقونه، ولا قال أحد منهم: إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله، أو لا تأثير لها في كسبه، ولا قال أحد منهم: إن العبد لا يكون قادراً إلا حين الفعل، وإن الاستطاعة على الفعل لا تكون إلا معه، وإن العبد لا استطاعة له على الفعل قبل أن يفعله، بل نصوصُهم مستفيضةٌ بما دلَّ عليه الكتاب والسنة من إثبات استطاعة لغير الفاعل، كقوله تعالى: ﴿ولِلَّه على النَّاس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبِيلاً﴾ [آل عمران: 97]، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ لم يستطع فإطعامُ ستِّين مسكيناً﴾ [المجادلة: 4]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جَنْبٍ».
والمقصود بتأثير السبب في المسبب، أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدَثة، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسبَّبات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا حق، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات، وليست إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شِركاً، وإلا يكون إثبات جميع الأسباب شركاً، وقد قال الحكيم الخبير: ﴿فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلِّ الثَّمرات﴾ [المؤمنون: 57]، وقال تعالى: ﴿فأنبتنا به حدائق ذات بهجةٍ﴾ [المؤمنون: 60]، وقال تعالى: ﴿قاتِلوهم يُعذِّبْهم اللَّه بِأيديكم﴾ [الأنفال: 14].
كما أنّ تأثير العبد في فعله يتوقف على تحقيق الشرط، وانتفاء المانع، فإذا فُسِّر التأثير بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر، وانتفاء موانع – وكلّ ذلك بخلق الله تعالى– فهذا حقّ، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار؛ وإن فُسِّر التأثير بأن المؤثِّر مستقلٌّ بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع، فليس شيء من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحدَه خالق كل شيء، لا شريك له ولا ندَّ له، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. يقول تعالى: ﴿ما يفْتحِ اللَّه للنَّاس من رحمةٍ فلا مُمسِك لها وما يُمْسكْ فلا مُرسِل له مِن بَعده﴾ [فاطر: 2]، وقال تعالى: ﴿قل ادْعوا الَّذين زعمتم مِن دون اللَّه لا يملكون مثْقال ذرَّةٍ في السَّماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما مِنْ شِرْكٍ وما له منهم من ظهيرٍ* ولا تنفع الشَّفاعة عنده إلّا لمَن أَذِنَ له﴾ [سبأ: 22 ـ 23]، وقال تعالى: ﴿قل أفرأيتم ما تَدْعون من دون اللَّه إنْ أَرادنِيَ اللَّه بِضُرٍّ هل هُنَّ كاشفات ضُرِّه أو أرادني برحمةٍ هل هنَّ مُمْسِكات رحمته قُلْ حسبي اللَّه عليه يتوكَّل المتوكّلون﴾ [الزمر: 38]، ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
إنَّ من الأسباب ما يعرفه كلُّ إنسان بفطرته، مثل أنّ الوطء سبب الولد، وإلقاء البذور سببٌ للزرع، والأكل سبب للشبع، وشرب الماء سبب للري. ومن الأسباب ما يجادل فيه بعض الناس، مثل أن اتّباع شرع الله سببٌ للسعادة في الدنيا والآخرة، والخروج على هذا الشرع سبب للشقاوة في الدنيا والآخرة، والدعاء سبب لدفع المكروه ونوال المطلوب.
ومن الأسباب ما يخفى على كثير من الناس مثل أسباب الأحداث الاجتماعية، وما يصيب الأمم من عزٍّ وذلٍّ، وتقدّم وتأخّر، ورخاء وشدّة، وهزيمة وانتصار، ونحو ذلك، فهذه الأحداث لها أسبابها التي تستدعي هذه النتائج، ولا يمكن تخلّف هذه النتائج إذا انعقدت أسبابها، فهي كالأحداث الطبيعية من تجمّد الماء وغليانه، ونزول المطر، فهذه أحداث لها أسبابها التي قدّرها الله، فمتى تحققت هذه الأسباب تحققت هذه الأحداث، وكلّ الفرق بينها وبين الأحداث الاجتماعية أنّ الطبيعية أسبابها منضبطةٌ، ويمكن معرفة حصول أكثرها إذا عرفتَ أسبابَها، أمّا الأحداث الاجتماعية فإنّ أسبابها كثيرة جدّاً، ومتشابكةٌ، ويصعب الجزم بوقت حصول نتائجها، وإن أمكن الجزم بحصول هذه النتائج.
والشرع دلّنا على هذا القانون العام –قانون السبب والمسبَّب– في نصوص كثيرة، والمقصود أن ما قدّره الله وقضاه إنّما قدّره بأسباب، فمن أراد الحصول على نتيجة معينة فلا بدَّ من مباشرة السبب المفضي إليها. وما ذهب إليه العلماء المحقّقون في فاعلية السبب في مسبّبه بإذن الله تعالى هو ما يتّفق مع ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبويّة الصحيحة، وهو المنهج الوسط، والطريق الأسدّ في إعمال النصوص كلّها على وجه الجمع دون الاقتصار على بعضها؛ وهذا الذي ذكرناه، هو ما ذهب إليه السلف الصالح، وتلقّاه أهل العلم بالقبول.
ولا يخفى أن اعتناق هذا الرأي يفسح الطريق أمام القيام بأعباء خلافة الإنسان في الأرض، والتفكّر في سنن الله في الخلق، وهو توطئة للوقوف على أسبابها ونتائجها، ومن ثَمَّ التفاعل مع معطياتها بما يحقّق إناطة تحمّل المسؤولية بالمكلّفين في الدنيا والاخرة، وهو الأمر الذي يوسّع ويثري من دائرة الدراسات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية وِفْق المنهج الإسلامي، مما يعيد لهذه الأمة شهودَها الحضاري، ووسطيتها الشاملة التي ضَمِنَها لها الشرع الشريف في قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلْناكم أُمَّةً وَسَطًا لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرَّسول عليكم شهيدًا﴾ [البقرة: 143]، وبذلك تعود الأمة إلى أصولها وخيريتها ﴿كنتم خير أمَّةٍ أُخْرِجتْ للنَّاس﴾ [ال عمران: 110]، وبالأحرى تتخلّص من تبعيتها للثقافات الوافدة التي ترزح تحت وطأتها إلى يومنا هذا، رغم عدم انسجامها مع معطيات الشرع وحقائق الفطرة.
إن القعود عن أسباب النصر والتمكين بحجة غلبة أقدار الله في خلقه هو كذبٌ على الله ورسوله، وإن الاختباء خلف “الإرادة الإلهية” لتبرير العجز والركون إلى الدنيا هو علامة النفاق والضلال؛ فالله تعالى أمر بالإعداد والعمل والأخذ بالأسباب المتاحة والممكنة في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها وأحداثها تطبيقاً عملياً ونموذجا واقعياً لذلك المنهج الرشيد، ولكن الحقيقة أن المتذرعين بالأقدار هم من انعدمت فيهم الإرادة والعزيمة ولم يصدقوا النية، فهم كمن قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلَوْ أرادوا الخروجَ لَأَعَدُّوا له عُدَّةً ولَكن كَرِه اللَّه انبعاثَهم فثبَّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين﴾ [التوبة: 46]، فإن الأفعال تصدق النيات، وقد قال الشاعر عبدالرحمن السهيلي في هذا المعنى
تقول لا حِيلَةً في الوصل أَعرِفُها …. لَو صَحَّ منك الهوى أُرشِدتَ للحِيَلِ
وأختتم بما قاله شاعر وفيلسوف الإسلام محمد إقبال رحمه الله – وما أجمل ما قال! -: “المؤمن الضعيف يحتجّ بقضاء الله وقدره، والمؤمن القوي يعتقد أنه هو قضاء الله الذي لا يُرد
______________