مقتطفات من كتاب “السلالة السنوسية الحاكمة: العائلة التي صنعت ليبيا” للمؤلف هاري هالم.
كان دستور 1951 وثيقة مناسبة للغاية لسياقها، وقد احتوى على مبدأ فصل السلطات على النمط الغربي جنبا إلى جنب مع الحفاظ على القيم الاسلامية التقليدية. والأكثر لفتا للنظر أنه لم يتم تصميمه لنظام ملكي مستمر.
لم يكن السنوسيون عائلة ملكية كما هو الحال في السعودية أو العراق أو الأردن، أو زعماء قبائل على غرار شيوخ الإمارات. ويعكس الدستور ذلك، من خلال خلق حيّز لتطوير المؤسسات الديمقراطية.
من شأن انتخابات 1952 أن تحدد الثقافة السياسية الليبية، مع الأخذ بعين الاعتبار قرار إدريس بمنع الأحزاب السياسية. يشير التحليل الدقيق إلى أن قراره رغم أنه كان خطأ في نهاية المطاف، إلا أنه كان ذكيا في ظل السياق، وينبع من الاعتراف الملموس بالتهديد الذي سيشكله الانتماء الحزبي على الدولة الليبية الوليدة.
كان التحدي الأكبر للاستقرار الليبي هو إعصار القومية العربية الذي ظهر في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. أصبحت القومية العربية رائجة بجوار ليبيا، حيث استولت على السلطة في مصر، ثم انتشرت كفيروس في جميع أنحاء العالم العربي الاسلامي. بحلول عام 1960، بدت القومية العربية وكأنها مرجة المستقبل.
أدى تصاعد الحركة القومية العربية إلى تعريض كل أنظمة الشرق الأوسط للخطر، ويبين ذلك القوة الاجتماعية التي منحت للإنقلابيين المجال لإسقاط النظام الملكي.
تطلب تأسيس دولة مستقلة إطارا سياسيا للوضع الراهن. وكان الدستور الليبي انعكاسا لظروفه التاريخية. ومع ذلك، فهو يكيّف العناصر الليبرالية التقدمية في سياق إسلامي، وهو تطور غير مفاجئ بالنظر إلى التجربة التاريخية للسنوسيين.
ويوضح هذا التلخيص الموجر والملخص لدستور عام 1951 ارتباطه الذي لا ينفصم بالنظام السنوسي الذي حكم ليبيا. ويبين أنه نتيجة طبيعية لـ 150 عاما من التطور الاجتماعي والسياسي، وليس إلزاما أجنبيا معاديا للمجتمع والثقافة الإسلامية.
لقد قام آخرون بتحليل دستور 1951 بشكل متعمق، إلا أن هدفنا هنا هو تحديد الدور المحوري للسنوسيين داخل ذلك الدستور.
ديباجة الدستور هي المفتاح لفهمه وبطبيعة الحال، سيتم نعت السنوسيين في الدستور كنظام ملكي وراثي
يميز الفكر السياسي الحديث بشكل واضح بين السيادة والحكومة. السيادة هي السلطة السياسية العليا، بينما تقوم الحكومة بتنفيذ الإجراءات السياسية بهذه الصفة، فإنها تظل معتمدة بشكل كلي على صاحب السيادة في سلطتها.
الحالة الليبية لا تعرّف الأمة الليبية بما بعد أو بغياب السنوسيين. لقد وُصف الشعب الليبي، في ديباجة الدستور، على أنه من “برقة، وطرابلس، وفزان” وهي المناطق الجغرافية الأساسية في ليبيا. وهم يوافقون على “الاتحاد” ليس بشكل عام، ولكن على وجه الخصوص، في ظل ولي عهد الملك محمد إدريس السنوسي. ورغم أن الأمة هي التي تمنحه العرش، من الناحية اللغوية، فمن الواضح أن دستور الأمة الليبية لا يمكن فهمه في غياب الملك إدريس، وبالتالي دور السنوسيين في التاريخ الليبي.
تنعكس هذه العلاقة المتبادلة بشكل حرفي من خلال اليمين الدستورية التي يؤديها الملك، والتي يشهد عليها الشعب الليبي كما يتجسد في الهيئة التشريعية التمثيلية.
يكرس الدستور الحماية المدنية والدينية بشكل عام إلى جانب تكريس الإسلام كدين للدولة الحديثة. وتظل هذه الجوانب خارج أي خلاف. كان أغلب سكان ليبيا مسلمين، لكن السنوسيين دائما دائما ما قبلوا بما هو غير تقليدي، طالما أن الممارسة الإسلامية المعنية لم تتحول إلى بدعة، أي طالما أن الممارسة الإسلامية لم تصبح مشوهة لدرجة عدم تمييزها.
بالاظافة إلى ذلك، كانت مهمة السنوسيين شخصية وجماعية في المقام الأول، وليست عقائدية. ولم يركز السنوسيون كذلك على تفسير محدد للشريعة الإسلامية، وبالتالي، ليس من المستغرب أن يتضمن الدستور الليبي، في ظل حكم الملك السنوسي، حماية الحقوق الفردية بشكل صريح بغض النظر عن الدين أو المذهب.
ووسع دستور 1951 حتى التصويت ليشمل النساء، قبل نحو عقدين من منح المرأة السويسرية الحق في التصويت تحت النظام الفيدرالي.
أكبر انتقاد يمكن للمرء أن يوجهه للدستور، من الناحية الهيكلية، هو أن القضاء الليبي لم يكن مستقلا تماما عن النظام الملكي. فقد تم تعيين القضاة بمرسوم، ظاهريا من قبل الملك، وقام القضاة بأداء القَسَم للملك، وليس للدولة. ومع ذلك، نظرا لطبيعة الثقافة السياسية الليبية غير المتطورة، فمن المنطقي أن يتحول النظام الدستوري إلى النظام الملكي لتعيين القضاة.
وكما هو الحال في المجتمعات التقليدية، لعب الحاكم دورا قضائيا واضحا، من خلال تجاوز النزاعات بين الفئات وإقامة العدل بكل نزاهة، بالنظر إلى الظروف، كان من الصعب تصور حل مغاير.
لم يكن الدستور الليبي لعام 1951 بشكل عام معروفا في العالم العربي، ولا يزال كذلك حتى يومنا هذا. وجوهر القضية ليس مجرد حماية قوية للحقوق الفردية وحرية الدين والضمير، وإنما يجب علينا تقييم المسألة هيكليا.
خارج المملكة الليبية، تأسس ولا يزال هناك نوعان من الأنظمة في العالم العربي. من جهة، هناك نظام السعودية والإمارات والكويت، وكل أنظمة الحكم هاته مستقرة نسبيا، لكن كل نظام منهم هو في الأساس تكرار للعصبية القبلية على نطاق واسع. يصبح شيخ القبيلة هو الملك الحديث، لكنه يحكم النظام السياسي بطريقة مطابقة للقبيلة.
وفي بعض الحالات يكون هذا من الناحية الوظيفية. وتظل الامارات هي أوضح مثال على ذلك. ومع ذلك تعمل العائلة الملكية كعشيرة أو قبيلة حاكمة كبيرة.
حتى الأردن، التي يمكن القول بأنها الأكثر استقرارا، والأكثر ليبرالية، هي من بين النظم الملكية العربي التي لا تزال نظاما عشائريا هجينا، حيث يحكم الهاشميون بسبب دعم السكان البدو، وقدرة النظام الملكي على إبعاد نفسه عن خيارات سياسية محددة.
والبديل الوحيد لتطور الحكم القبلي هو البديل العربي الفاشي، وكانت نسخة عبدالناصر هي الأولى. لم يكن عبد الناصر بحاجة لقراءة النصوص الفاشية ليعيد نظاما فاشيا. كما هو الحال في إيطاليا، عندما قام النظام الثوري بإضفاء الطابع المؤسسي على سلطة الدولة خارج أجهزة الدولة، سواء في الجيش أو من خلال سلسلة من الأحزاب السياسية الشخصية.
وكما هو الحال في إيطاليا كذلك، حين هيمن التوسع الخارجي والمظلومية التاريخية الوطنية على اهتمامات السياسة.وكما هو الحال في ايطاليا، حيث قضت الشرطة السرية على المعارضة بلا رحمة.
ولا تتعارض حقيقة ضم الناصرية لعناصر من الاشتراكية مع التصنيف الفاشي، فالفاشية نفسها، لها جذور اشتراكية ومرنة من الناحية الأيديولوجية.
وكان التيار البعثي السوري العراقي بمثابة أنظمة مماثلة، وإن كان بشكل خاص في الحالة الأخيرة أكثر وحشية وتعطشا للدماء، ولا توجد سوى هذه البدائل لتطور الحكم القبلي في الشرق الأوسط العربي.
تناول دستور 1951، على وجه التحديد احتمالات فساد الدولة، بدلا من إضفاء الشرعية على مثل هذا الفساد المنتشر في جميع أنحاء المنطقة، فقد تم منع الوزراء، على سبيل المثال، من المشاركة في مجالس إدارة الشركات أو إدارة الأعمال أثناء الفترة التي يقومون فيها بمهامهم كوزراء.
ولا يمكنهم توجيه الشركات نحو العروض التعاقدية المربحة. ولا يجوز لأي فرد منك أفراد العائلة الملكية الليبية أن يتولى مهام وزارية، مما يمنع تطوير أنظمة السلط شبه القبلية.
بالإضافة إلى ذلك، في عام 1956، أعاد مرسوم ملكي تنظيم وتوضيح نظام تعاقب الحكم. بما أن إدريس لم يكن لدية أطفال بيولوجيين، عند وصوله إلى العرش، فقد اختار شقيقه محمد الرضا وليا للعهد. وبعد وفاة محمد الرضا، عين إدريس الحسن الرضا وليا للعهد. وينص المرسوم الملكي بوضوح على أنه إذا لم يكن لإدريس ورثة، فإن سلالة العائلة الملكية في ليبيا ستنتقل بالتحديد إلى ولي العهد الأمير الحسن وذريته.
وبالنظر إلى أن إدريس، مرة أخرى، قد مات دون أي وريث بيولوجي، فإن سلالة ولي العهد الأمير حسن هي السلالة الوحيدة المقبولة بالنسبة للعرش الليبي.
تساعد طبيعة ليبيا المتفردة، كما يعبّر عنها من خلال دستورها والمراسيم والتعديلات ذات الصلة، في تفسير الكراهية الشديدة التي يحملها الكثيرون في المنطقة تجاه النظام الملكي السنوسي.
أضفى دستور المملكة الليبية الطابع المؤسسي على الملك، ولكنه فصله أيضا عن المجتمع المدني، وجعل الملكية جوهر الدولة الليبية ولكن مع ثقافة تمثيلية قوية. لقد كان هذا ولا يزال غير معروفا في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
***
هاري هالم ـ حاصل على ماجستير في الفلسفة والعلاقات الدولية وماجستير في النظرية السياسية من كلية لندن للاقتصاد. وهو باحث في قضايا الدفاع.
_____________________