عمر الكدي

تحليل شخصية الطاغية 

حكم القذافي ليبيا منفردًا لمدة اثنين وأربعين عامًا، وهو ما يعني أن الرجل لا ينقصه الذكاء، ليبقى طوال هذه المدة، إلا إذا اعتبرنا أن الليبيين غير أذكياء، وأن جميع محاولاتهم لإسقاطه باءت بالفشل سواء كانت من الداخل أو من الخارج.

ولكنه سقط في النهاية على أيدي الجماهير التي تغلبت على خوفها، وبمساعدة من حلف الناتو، ولولا هذه المساعدة لطالت المعركة، فالطاغية بعد 42 سنة يؤمن بأنه لا يُهزم، فما الذي جعل القذافي يستمر كل هذه المدة؟ أخذًا بعين الاعتبار أننا جميعًا ساهمنا في صنعه بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء كنا نعلم أو لا نعلم.

الطاغية هو من يصل إلى السلطة بطريقة غير شرعية، وحتى إذا وصلها بطريقة شرعية ينقلب على الدستور الذي أوصله إلى السلطة، ويصبح هو الدستور وهذا مثلًا ما حدث مع هتلر الذي وصل إلى السلطة عن طريق الانتخابات.

يتفق علماء النفس على أن الطاغية هو غالبًا نتاج طفولة مضطربة، كأن يكون الأب شديد التسلط أو أن الأم قوية لا تعرف الرحمة، فيتعلم الطاغية مبكرًا الكذب والخداع لينجو من العقاب، ويحتقر قيم مجتمعه الأخلاقية والدينية لأن ما يراه في البيت عكس ما يقوله المعلمون في المدرسة.

ولكنه يكتشف لاحقًا أن هذه القيم ضرورية ليكتسب احترام الناس، وعندها يتظاهر بحبه لهذه القيم ويصبح عدوانيًا تجاه من يستخف بها، وهكذا يتعلم الطاغية حيلًا جديدة كل يوم للتأثير على محيطه الضيق، ثم يكتشف لاحقًا أن هذه الحيل قد تقوده ليحكم البلاد كلها، ولكنه يدرك أنه لا يستطيع الوصول إلى هذا الهدف وحده، ويبدأ في انتقاء من يصلح لمساعدته، والذين سيتخلص منهم جميعًا بعد وصوله إلى السلطة.

كان القذافي يقول عن رفاقه من أعضاء مجلس قيادة الثورة، إنهم مجرد دواب حملوه إلى هدفه ثم استغنى عنهم، عندما وجد دوابَّ أخرى أسرع وأقوى على التحمل ليصعد بهم حيث لا تستطيع الدواب السابقة.

الطاغية شخصية نرجسية ومصابة بمزيج من جنون العظمة وفصام الشخصية، فهو لا يثق في أحد ولا يحب أحدًا بما في ذلك أبناؤه.

كان سيف يخاطب والده بلقب «القائد»، وعندما سأله أحدهم لماذا لا تخاطبه بـ «يا بابا» أو يا «بوي» أو يا «باتي» قال إنه عندها لن يحصل منه على شيء.

بسبب هذين المرضين يشعر الطاغية بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا يحتمل أي معارضة حتى ولو كانت نكتة. القذافي هو الطاغية الوحيد الذي أصدر قانونًا يمنع النكتة.

في البداية خدع رفاقه في مدارس سبها ومصراتة بتدينه الشديد، وبنفس السلوك خدع رفاقه في القوات المسلحة، وعندما انفرد بالسلطة تحول إلى شخص ماجن وكون كتيبة من الحارسات لمتعه الشخصية، كما يتظاهر بالزهد ونظافة اليد وأنه يعيش في خيمة ينقلها معه أينما حل، وكان قد أقسم باليمين أنه لن يتقاضى أكثر من راتب عقيد في الجيش، ونحن نعلم أنه كان يتصرف في مليارات الدولارات.

وفي كل البلدان العربية تقريبًا يخوض الطغاة الانتخابات كل خمس أو ست سنوات، وتكون النتائج متشابهة فلا معارضة تذكر، ومع ذلك لم تحتمل نرجسية القذافي هذه الشكليات، فادعى مبكرًا أنه سلم السلطة والثروة والسلاح للشعب وأنه لا يحكم.

ولكن عندما اهتزت خيمته بشدة توسل للشعب أن يتركه مثل ملكة بريطانيا أو إمبراطور اليابان، فالطاغية عندما يحاط بالأعداء يعود إلى ذلك الطفل الذي تعود على النجاة من العقاب باستعطاف من حوله.

هكذا ودع القذافي جبروته وحيدًا عندما قَبض عليه المتمردون قرب الحي الثاني في سرت. كان يقول لهم «شنو فيه.. خيركم». فجأة اختفت الكاريزما والقدرة على الإقناع، وعاد ذلك الطفل الخائف والمضطرب الذي فقد كل السلطة والحيل التي أدمنها.

ما يميز القذافي عن غيره من الطغاة هو بداوته المزمنة، فهو يحتقر المدينة لأنه يخشى من التعدد الذي تمثله المدينة، ويميل إلى النجع والقرية لأنها أحادية بطبيعتها ولأن القطيع يسهل التحكم به، وعندما يصل إلى السلطة يقارن نفسه بمن حكم البلاد قبله، وإذا وجد حاكمًا أو قائدًا ناجحًا يغار منه، ويحذفه من جميع المناهج الدراسية ويمحوه بالكامل من التاريخ، وهذا يفسر حقده الشديد على الإمام محمد بن علي السنوسي الذي أمر بهدم ضريحه وأن تلقى رفاته في الصحراء، وهذا بالضبط ما حدث مع القذافي.

البدوي الأخير 

القذافي هو البدوي الأخير الذي تطلقه الصحراء في اتجاه التمدن والتحضر، ومثلما قال الحجاج بن يوسف في خطبته بجامع الكوفة، بعد أن أرسله الخليفة عبد الملك بن مروان واليًا على العراق «إن أمير المؤمنين عبد الملك نثل كنانة بين يديه فعجم عيدانها عودًا عودًا، فوجدني أمرها عودًا، وأشدها مسكًا، فوجهني إليكم ورماكم بي».

وهذا ما فعلته الصحراء مع القذافي الذي كان فقيرًا مثل فأر في جامع، وحقودًا مثل جمل، وماكرًا مثل ثعلب صحراوي، ومتوحشًا مثل ذئب أجبر على أكل الجيف، وعنيدًا مثل بغل يفكر في الانتحار، وله إصرار ضب يتمسك بجحره، ويشعر أنه في بيئة معادية مثل قنفذ لا يرى إلا شوكه.

ولعل أول من لاحظ غرابة أطوار القذافي هو الصحفي المصري محمد حسنين هيكل، عندما وصفه بأنه يشبه طرزان في نيويورك، فلا أحد يشبهه من رفاقه لا عبد السلام جلود ولا امحمد المقريف ولا أبوبكر يونس، والثلاثة جاءوا من الصحراء، ولكن القذافي جاء من قبيلة ضعيفة ومن فرعها الأضعف، لذلك كان حقده على المدينة حقدًا نرجسيًا، يلخص ما تعرض له البدو من هوان في المدينة.

واكتشف القذافي مبكرًا أنه لن يستطيع التكيف والتأقلم مع المدينة، لذلك كتب في كتابه «القرية القرية الأرض الأرض»: «وإن كنت حاشرًا لنفسك.. حديثًا في المدينة.. ولست من ساكنيها الأوائل، والمتكيفين بكيفها، فأنت أضحوكة المدينة في كل الأحوال.. إن كنت تريد التمسك بما عندك من معانٍ وقيم وسلوك غير مديني، تصبح شاذًا، ولا تجد مع من تتفاهم. وعندما تغير حالك، لكي تصير مدينيًا، تصبح ركيكا».

لذلك كان لابد من إذلال المدينة وتحويلها إلى جحيم، فأوقف شركة النسر للنقل العام، التي كانت حافلاتها تغطي كامل المدينة، وحوَّل شركة عكرة لتنظيف المدينة إلى شركة عامة، فتحولت طرابلس من أنظف مدينة في حوض المتوسط إلى مكب للنفايات، وأغلق كل الآبار التي كانت تزود المدينة بالمياه العذبة ليشرب الناس ماء مالحًا.

وذات مرة اقترح أن تربي كل عائلة في المدينة الدجاج البياض في الشرفات، وبالفعل وزعت وزارة الزراعة أقفاص الدجاج على العائلات، حتى قال شاعر شعبي: «يا نميري ويا سادات تعالوا شوفوا الإنجازات.. قفص فيه ثلاث دجاجات معاهم ديك صياحه من الفجر يصحيك».

ويستشهد القذافي بالقرآن ليثبت فضل القرية على المدينة قائلًا: «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)».. تلك صورة رائعة لدنيا القرية والريف.. وكذلك قوله: «وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)» وعندما يقسم بالفجر، إن الفجر لا يُرى إلا في الريف والقرية.. أي فجر لمدينة مكهربة ليلًا ونهارًا؟. متناسيًا أن الرسول أطلق على يثرب اسم المدينة، وعلى مكة أم القرى، ودفن في المدينة وليس في أم القرى.

لا يشبه القذافي بدو الخليج الذين زاوجوا بين تربية الإبل والإبحار نحو الهند للتجارة وصيد اللؤلؤ، ولا يشبه بدو العراق الذين تمسكوا ببداوتهم وهم يقتحمون بغداد والبصرة ويتكيفون معها، إنه أكثر شبهًا ببدو نجد الوهابيين الذين حرموا كل شيء تقريبًا، ولكنه تأثر بصعيدي ولد وتربى في الإسكندرية، ونجح في الوصول إلى السلطة بانقلاب عسكري.

ولكن عبد الناصر هذبه النيل ومدينة الإسكندر المقدوني، لهذا احتفى بالثقافة والفن، وجعلهما قوة مصر الناعمة، بينما أعلن القذافي الحرب على الفن والثقافة، وأحرق آلات الموسيقى في ميدان الشهداء باعتبارها غزوًا ثقافيًا، وسمح للشعر البدوي بالسيطرة على وسائل الإعلام، فاختفت أغاني الستينات مثل أغاني سلام قدري، ومحمد صدقي، وشادي الجبل، ومرشان، وكاظم نديم، وخالد سعيد، وسيطرت أغاني ابن عمه علي الكيلاني، وعبد الله منصور، وألحان محمد حسن، واحتل التلفزيون الشاعر الشعبي نور الدين العزومي، وأحمد النويري، وموسيقى النجع.

وذات مرة قال العزومي: «السادات ذيب خش الغابة ومعمر سلوقي مكشرات أنيابه»، فاعتقل وضرب بـ«الفلقة» حتى خرج يزحف على ركبتيه، لأنه أثار سخرية أهل المدينة الذين لا يعلمون أن تشبيه القذافي بالكلب السلوقي قمة البلاغة، ولكن القذافي استهلك هذا التعبير في وصفه للمعارضة بالكلاب الضالة.

وهكذا تحولت بداوة القذافي إلى محنة في المدينة، ولم تُغْنِ عنه تأسيس مدينة حديثة في سرت، فظلت المدينة بدوية، كورنيشها خالٍ من الناس، مثل يتيم تركه الجميع، وبيوتها تفتح باتجاه الصحراء، وخلفها حيث البحر وضع سكانها حظائر للماشية والإبل.

يتبع

_______________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *