عبدالرزاق العرادي
قد تكون المرأة أنجح من الرجل في إدارة الدول، كملكة سبأ بلقيس التي قدمت مصلحة بلادها على مصلحتها، وأنقذت قومها من دخول الجيوش إلى بلادها وفرض سيطرتهم عليها، وتغيير مكانتهم من العزّ إلى الذلّ، فتصرّفت بحصافة وذكاء؛ لم تُسلّم أهلها، ولكن أسلمت وساقت الخير إلى قومها.
لا يفلح قوم ولو أمر وزارة صحتهم طبيب أو وزارة أوقافهم شيخ وقس على ذلك. قد ينجح طبيب في إدارة مستشفى ما، وقد ينجح شيخ في إدارة الأوقاف في بلد ما، ولكن الشاذ لا يقاس عليه.
الأصل في الإدارة التخطيط وحسن استخدام الموارد المختلفة، لتحقيق نتائج محددة في زمن محدد، وهذا علم أفردت له الجامعات تخصصات مختلفة وسنوات من الدراسة والتحصيل. ِكذلك حال العسكري –في الدول المتخلفة التي اعتاد العسكر أن ينقلبوا فيها على السلطة– لا يصلح أن يقود دولة مدنية.
في ليبيا تولى القذافي الحكم وأحالها إلى خراب. أكثر من أربعة عقود من سوء الإدارة والسير نحو التخلف والفساد والإهمال وتقديم عديمي الكفاءة عبر الواسطة والمحسوبية والرشاوى.
أربعة عقود من حكم الفرد أحالت ليبيا إلى بؤرة فساد عشّش فيها المفسدون في شتى مناحي الحياة، كما عشّش فيها حصادهم المرّ لعقد آخر من الزمن مع فبراير باستمرار الفساد، بل زاد وتغلغل، كما تفاقم الإهمال وسوء الإدارة، وزاد تولي عديمي الكفاءة المسؤوليات بالواسطة والمحسوبية، تضخم الكادر الوظفي بالبطالة المقنعة وانتشرت أمراض إدارية أخرى.
مهمة العسكر محدودة في الدفاع عن الوطن وحماية الحدود، توضع لهم السياسات الوطنية التي تحدد عددهم وتضمن تسليحهم بأنسب الأسلحة المتقدمة، وتدريبهم وتجهيزهم بأحدث التقنيات، وتضمن استعدادهم الدائم وتفوقهم العسكري لأداء مهمتهم الأصلية في حفظ الوطن لا الحاكم.
يتدربوا من أجل حماية الحدود، لا أن يتفوقوا في الاستعراضات العسكرية التي يبذلون فيها جهودا وأموالا طائلة طوال السنة من أجل أن يجلس الحاكم العسكري على كرسي في منصة التخلف، ليستعرض على العالم قوته، والعالم يعرف مدى ضعفه، (أحد الضباط الأمريكان ممن تولى تدريب أحد الجيوش العربية، ظهر على شاشة قناة الجزيرة قائلا عن ذلك الجيش الذي درّبه:
“إنهم يتفوقون علينا –يقصد على الأمريكان– في الإستعراض العسكري، لكنهم لم يتدربوا على القتال ولا على الاستعداد للحروب“، نعم تركوا مهمتهم الأصلية وتفرغوا للاستعراض العسكري، ودخلوا في مجالات وتخصصات نافسوا فيها رجال الأعمال والصناعة في قوتهم، فلا نجحوا في هذا ولا في ذاك).
مهام العسكر تتركز في التدريب بكثافة وفي تعلم الاستراتيجيات والتكتيك الحربي وفي استخدام الأسلحة والمهارات وفنون القتال. العسكري يحافظ على لياقته البدنية ويتعلم الضبط والربط والسمع والطاعة وتنفيذ الأوامر دون تأخير ولا استفسار ونقاش، تربوا على “نفذ ثم ناقش“. العسكري يتعلم السرية وعدم التعاطي مع الإعلام وعدم التدخل في السياسة.
العسكري يقوم بمهمة واحدة هي المهمة العسكرية، بينما يتعامل المدني في مجالات متعددة اقتصادية وسياسية وأمنية وغيرها، العسكري يتدرب على فنون القتال، بينما المدني يختلف تدريبه باختلاف وظيفته.
العسكري يخضع للقانون العسكري وله إدعاء وقضاء خاص، مختلف عن المدني الذي يخضع للقوانين المدنية وللنيابة العامة والمحاكم المختلفة.
العسكري دائم التنقل بشكل إجباري، بينما للمدني هامش من الاختيار يجعله أكثر حرية واستقرارا.
العمل العسكري يحتاج إلى تأهيل مختلف عن العمل المدني، فإن لم يكن الطبيب والعالم الشرعي والعسكري وغيرهم على علم بشؤون الإدارة والمالية العامة والتخطيط والتنفيذ، فإنهم سيعجزون عن تولي المهام الكبرى في الدولة التي تتطلب الكثير من الخبرة بأساليب الإدارة المختلفة والمالية العامة والتخطيط بجميع أنواعه.
لذلك على العسكري، صاحب الطموح، أن ينفك عن الخدمة ويبقى خارجها سنوات قبل أن يتأهل للعمل المدني، فترة تسمح له بأن يستكمل نواقصه التي يتطلبها العمل السياسي.
هكذا اشترطت العديد من الدول كالجزائر التي اشترط قانونها الانتخابي أن يمضي العسكري 5 سنوات خارج الخدمة العسكرية قبل أن يسمح له بالترشح لمنصب رئيس الدولة.
إدارة الدول تتطلب القدرة على توجيه البلاد نحو رؤية محددة في إطار خطة تضع هذه الرؤية موضع التنفيذ، وتتخذ فيها القرارات المدروسة، في الأوقات الصعبة بحنكة ودراية.
الرئيس –في الدولة الديمقراطية التي تحترم إرادة شعوبها ولا تزورها– هو الذي يحدد هذه الرؤية الواضحة للمستقبل، يختاره الشعب بناء على هذه الرؤية ويحاسبه عليها في صناديق الإقتراع. هذا الرئيس يعمل على توجيه الدولة –من خلال مؤسساتها– نحو تحقيق الأهداف المرسومة ويحقق التطور الموعود في الخطة.
الرئيس يلزمه العمل بشفافية ونزاهة في إدارة الدولة، والسماع لشعبه والتفاعل معه ومع احتياجاته ومخاوفه. هذا الرئيس ينبغي أن يكون ممن يمتلكون القدرة على التفاوض وبناء التحالفات والتعامل مع القوى السياسية المختلفة داخل البلاد وخارجها، وينبغي أن لا يكون حامل لجنسية دولة أخرى، يلزمه قانونها وتفرض هذه الدولة عليه تبعيته لها، فيحاكم بتهم ارتكبها خارج بلاده –المجنس بجنسيتها– على أساس أنه أحد مواطنيها!!
يجب أن يتمتع الرئيس بالحكمة وحسن التصرف في الأوقات الصعبة، وأن يكون له وعي تام بالحالات الصعبة التي تمر بها البلاد، وله القدرة على مواجهة التحديات والحالات الطارئة، وأن يكون واعيا بالمخاطر بنفسه أو من خلال مستشاريه الخبراء، لا أن يحذر شعبه من خطر البحر المرجوح، ويترك خطر السد الراجح.
الحاكم العسكري –أو التابع– لا يسمع إلا نفسه؛
لم يقرأ صيحة الخبير عبد الونيس عاشور منذ أكثر من سنة عندما قال “إذا حدث فيضان ضخم، ستكون النتيجة كارثية على سكان الوادي والمدينة” يقصد درنة.
ولم يقرأ صيحة صفحة “رؤية” التي حذرت سكان الوادي لأخذ الحيطة والحذر .
ولم يسمع صيحة عميد بلدية درنة المكلف أكرم عبدالعزيز الذي طالب بإخلاء المدينة .. لكنها صيحة في وادي ..
في النهاية فرض العسكر حظر التجوال على سكان الوادي، فكان الذي كان، ثم بعد ذلك منعوا من التعبير عن آهاتهم وغضبهم أيضا .. هنا يضاف إلى الفساد والإهمال، سوء الإدارة، الناتج عن تولي العسكر أمر لا يفقهوا فيه. العسكري مدرب على قضايا ليس من ضمنها المياه والأودية والسدود والأعاصير.
الرئيس الوطني المحب لبلاده ينبغي أن يكون جامعا، وقادرا على لم الشمل وإصلاح ذات البين وقادرا على توحيد الوطن بدلا من تبني “سياسة فرق تسد“.
هذا الرئيس يجب أن يكون من أصحاب التعليم العالي والثقافة الواسعة، والإدراك الكامل للقضايا المحلية المتشابكة والدولية البالغة التعقيد، وأن يكون على دراية واسعة بالتحولات الجيوسياسية والقضايا الدولية الرئيسية وربطها بمصالح الوطن العليا. ويلزمه بعد هذا أن يحترم القانون ويلتزم بدولة المؤسسات ويحافظ على حقوق شعبه ويحرص على جودة تعليمهم وصحتهم ويسهر على أمنهم.
كلمة آخيرة
يقول الشاعر ” طاح الغطاء ماعاد فيها خافي .. عرفنا المغشوش من الصافي” . كارثة درنة أسقطت كل من في المشهد من قادة عسكريين ومدنيين وفضحتهم شر فضيحة.
ما حصل في درنة أسقط النظام السابق وبين عواره وفساده وسوء حصاده وسواد مآله. بيّن سوء استخدام السلطة بشتى أنواعها. وبيّن أن من تولاها حتى يومنا هذا – إلا من رحم الله– فسدة عملوا بلا ضمير ولا أخلاق ولا أمانة .
في السابق جيروا مصالح الشعب بأكمله نحو مصالح فرد واحد وسيروا البلاد لمصلحته الخاصة . وفي الحاضر جير كل مسؤول ما يليه من مقدرات لمصلحته الشخصية، دون وازع من دين ولا ضمير ولا أخلاق ولا أمانة .
شهداء درنة ضحايا عقود من تولي عديمي الكفاءة المناصب الحساسة التي تعود على الشعب بالفائدة إذا صانها المسؤول، وبالكوارث إذا خانها .. ارتقوا شهداء ليسقط كل خائن لأمانته وحان موعد الحساب.
ولتعلمن نبئه بعد حين.
_____________