سالم الكبتي
(فكل امرئ.. منا وإن قل شأنه……. سيغنيه من تاريخه ما يسطر)
أحمد رفيق
كان لا بُد أن يتطور الصراع من الصحف إلى الشارع ولا يبقى حبيس المانشيتات والأحبار. في المدينة وما حولها لاحظه الكثيرون وشاهدوه على أرض الواقع يشتد ويتجه نحو العنف والعراك. كان المقصود مباشرة بذلك هو سكرتير جمعية عمر المختار.. بشير المغيربي الذي قارع بمقالاته الحادة الباشا عمر الكيخيا وحكومته نتيجة للقرارات المتسارعة ضد نشاط الجمعية تلك الأيام وتقييد حركتها ولجمه.
الحماس وصل بالبعض إلى أن يتصرف بطريقة فردية محضة تجاه المغيربي. بدأت باستفزازه ذات ظهيرة ثم بالاعتداء عليه بالضرب. هذا الحادث هو الوحيد في فترة حكومة الباشا لم يسبقه حادث من قبل ولم يعقبه حادث من بعد. وربما هذا الذي حدث قوبل بالدهشة من الجميع. فمن الناحية الاجتماعية والقبلية والعائلية كان أطراف الحادث تحتويهم قبيلة واحدة وهي ما يعرف بقبيلة (يدر) وتضمهم في الأصل (الكرغلية) مع مجموعة قبائل أخرى منذ القدم في المدينة.
الباشا والمغيربي وأفراد الاعتداء كلهم (يدر) غير أن مفهوم السياسة لم يجمع الثلاثة مطلقاً وفرق بينهم.. كل في اتجاه. هذا من جهة .. ومن جهة أخرى كان الأستاذ المغيربي عديلاً للحاج رشيد الكيخيا أخو الباشا عمر. لكن الاعتداء حدث في كل الأحوال. فكيف جرى ذلك وسط تلك الظروف السياسية والاجتماعية وفي فترة حكومة الباشا؟
إن التفاصيل التاريخية الدقيقة لهذه الواقعة يفصح عنها تقرير مساعد حكمدار منطقة بنغازي إلى رئيسه الحكمدار وهو تقرير لم يسبق نشره. يقول التقرير في ثنايا سطوره وقد أضحى جزءاً من التاريخ: (إلى حضرة حكمدار منطقة بنغازي. الموضوع: حادث اعتداء على المدعو بشير بن الحاج مصطفى المغيربي).
بتاريخ 11 ديسمبر 1949 الساعة الرابعة عشرة بعد الظهر وردت إشارة تليفونية من المتصرف العام علي أفندي جعودة تفيد أن أشخاصاً اعتدوا بالضرب على المدعو بشير المغيربي في شارع بن عمران. بناء عن هذه الإشارة تحرك أحد أفراد التحقيق إلى المستشفى لمواجهة المتضرر وهناك ذكر له الطبيب أن الشخص المتضرر في حالة نفسانية الآن ولا يمكن أخذ أقواله في الوقت الحاضر.
رجع فرد التحقيق إلى المركز وأبلغ بذلك الصول محمد محمود فانتقل الصول بصحبة الأنباشي رمضان علي إلى المستشفى وهناك قيل لهما أن المتضرر قد نقل إلى بيته. رجعا إلى المركز وأبلغا ضابط المركز بذلك.
لذا أمر الأنباشي رمضان علي بأن يذهب إلى بيت المتضرر لأخذ أقواله وفعلاً ذهب الأنباشي المذكور إلى بيت بشير المغيربي وهناك وجد المتضرر محاطاً بأناس كثيرة فاستأذن منهم وأخذه في حجرة مستقلة وأخذ أقواله التي تتلخص فيما يلي: يقول المتضرر أنه بينما كان ماراً مع شارع بن عمران وذلك حوالي الساعة الثالثة عشرة والنصف إذ قابل الشخصين أحدهما يدعى ….والآخر …… فخاطبه الأخير قائلاً بالنص ..كاسب كيفك يتكلم في حق الباشا.
ثم ضربه بيده على وجهه فاشتبك الاثنان في أثناء هذا يقول بشير المغيربي أنه تلقى عدة ضربات من الخلف ويرجح ذلك بأن عدد الأشخاص الذين اعتدوا عليه يترواح ما بين ثلاثة إلى أربعة منهم المدعو …. ولم يتعرف على الباقي وهو يعتقد أن الآلة التي ضرب بها آلة صلبة مثل الحديد ولكنه لم يشاهدها وكانت الضربات في الرأس من المعتقد من المعتقد أنها أربع جروح– لم نستلم التقرير الطبي للآن.
يوجد شاهد يدعى سالم خليل عبدالكافي يقول أنه شاهد المتضرر ملقى على الأرض ولم يشاهد أحداً من المعتدين بجانب المتضرر. فاتني أن أذكر أن الأنباشي رمضان علي بمجرد أخذ أقوال المتضرر ذهب وألقى القبض على كل من ….و….. وساقهما إلى المركز حيث أوقفا تحت التحقيق.
وجهت تهمة الاعتداء على الغير إلى كل منهما على انفراد وذكرا بأنهما بينما كانا خارجين من جامع النخلة بشارع بن عمران إذ مر عليهما المدعو بشير المغيربي وبصق على الأرض ناحيتهما فخاطبه المدعو ….. قائلا لماذا تبصق ناحيتي فرد بشير المغيربي وماذا في ذلك فما كان من المدعو .. إلا أن ضربه بيده فاشتبك الاثنان ثم فصلا بينهما الناس.
وكانت أقوال المدعو ….. مطابقة تماماً لأقوال صاحبه … وقد أنكر أنه اعتدى على بشير المغيربي. يقول الاثنان أنه لا توجد أي عداوة أو صلة بينهما وبين بشير المغريبي وأن سبب الاعتداء أنه بصق ناحيتهما وأنهما يعرفان بشير المغيربي معرفة سطحية) مساعد الحكمدار. 12.12.1949.
هذا التقرير أوردته على حاله دون أي تغيير أو تصويب مراعاة للتاريخ. وهو يؤكد بطريقة أو بأخرى أن السبب الرئيس هو نشاط بشير المغيربي والجمعية ضد رئيس الحكومة كما يبين أن البوليس في تلك الأيام لم يتوان في المسارعة في ضبط وتوثيق الحادثة والتحقيق فيها مع كل الأطراف رغم حساسيتها الاجتماعية وأسبابها السياسية ومحاولة البعض إنكار ذلك ممن قام بالاعتداء.
ظل هذا الحادث في مجمله فردياً فالواقع أن رئيس الحكومة لم يأمر به من قريب أو بعيد ولكن الحمية طغت وقادت إلى ما حدث بطريقة مؤسفة ثم إلى محاكمة المتهمين وصولاً إلى تسويتها بتنازل المغيربي عن حقه وأعتبر أن الحادث كأنه لم يقع.
والواقع أن الصراع في حقيقته كان يمثل صراع أجيال واختلافاً في الآراء وبالضبط صراع جيل لاحق مع جيل سابق أو في إطار تزاحم أضداد وسط (الزحام).
تعاطف البعض من الجيل السابق مع الجمعية تقاطعاً مع الباشا عمر وحكومته رغم هذا التضاد والتقاطع ومنهم سليمان رقرق المجاهد والمهاجر والرفيق القديم لأحمد الشريف في مقاومته وعمر شنيب وعبدالحميد الديباني وخليل القلال وخليل الكوافي وغيرهم. وهذه التقاطعات لم تفسد للود قضية على الإطلاق.
وربما هذا الاعتداء الذي لم يعد موضوعاً في أحاديث المدينة لحقه آخر بعد فترة حيث سيعتدي بالضرب أشخاص محسوبون أو موالون لصالح بويصير النشط في المجال السياسي والصحفي والمتعاطف من بعيد مع الجمعية وصاحب جريدة الدفاع ..على عمر الأشهب رئيس تحرير صحيفة التاج.
الاعتداء جرى في وضح النهار أيضا في ميدان الحدادة الذي يشهد على الدوام نشاطاً تجارياً بين سوقي الجريد والظلام في بنغازي.
تمر الأحداث وتبقى الحكومة تتابع أعمالها وفي جلستها المنعقدة صباح الخميس 29 ديسمبر 1949 وأكدت اهتمامها بوحدة ليبيا وتأييدها لقرار الأمم المتحدة باستقلالها الذي كانت وقفت منه موقفاً سلبياً وأدى إلى تصاعد الخلاف واشتداد الحملات الصحفية وحل الفرقة الكشفية بالجمعية.
رحبت الجمعية من خلال صحيفة الوطن ببيان الحكومة واعتبرته بأنه تصحيح للمسار ومن أجل ذلك..( نتغاضى عن الماضي الذي يطوي مواقف رئيس الوزراء المعروفة من الوحدة الليبية ونكتفي في الحاضر بتسجيل هذا الانتصار لمبدأ الوحدة ولكننا نأمل ألا نلدغ في الغد من المكان الذي لدغنا منه بالأمس).
سارت الأمور إلى ما هو غير متوقع بعد هذا كله إلى يناير1950. هاجم بعض الأفراد دار المطبعة الحكومية واختطفوا حارسها ونقلوه في سيارة جيب إلى خارج المدينة ووضعوا مفرقعات وصفيحتين من الوقود داخل المطبعة ولكنها لم تنفجر. حامت شبهات من الحكومة ضد أفراد الجمعية.
في نفس الوقت ووسط هذه الأجواء وصل مندوب الأمم المتحدة إلى بنغازي أدريان بلت لمقابلة من يعنيهم الأمر بمستقبل البلاد. المزيد من الانفجارات ولكن من نوع آخر. ورثة عمر المختار يتقدمون إلى الحكومة بطلب يتبرأون فيه من الجمعية وأعمالها ويطالبون عبره بسحب اسمه من الجمعية بسبب خروجها على مبادئ عمر المختار. وافقتهم الحكومة على الفور. فماذا ورد في الخطاب الموجه من الورثة بالخصوص؟!
___________