سالم الكبتي

(إن خير تحية من جيل لاحق لجيل سابق هي النقد والتطوير)
د. حسن حنفي

بنغازي وأوراق الخريف تتساقط في دروبها ثم تباشير الشتاء تلوح في نوفمبر. وهنا خلال التاسع منه يكلف عمر باشا منصور الكيخيا كما أشرنا برئاسة حكومة برقة الثانية. يخلف ولده الوحيد حتى ذلك التاريخ بموجب الإرادة الأميرية. كان ذلك يوم أربعاء ووافق أيضاً اليوم الثامن عشر من محرم.. العام الهجري الجديد 1369.

احتفل الناس به في بنغازي وضواحيها وعبروا عن ابتهاجهم المعتاد بالفتاشة وعاشوراء. وظلوا ينتظرون المطر وموسم الحرث. كان عمر باشا رئيساً للديوان الأميري منذ أكثر من سنة تم اختار الأمير إدريس عبدالعزيز الحمزاوي المصري الجنسية الذي كان قدم مع الإدارة البريطانية إلى برقة عام 1943 بدلاً منه وكيلاً لرئاسة الديوان.

الحمزاوي يمتاز بشخصية مهذبة وكان قد صحب عمر باشا الكيخيا في مهمة خاصة إلى مؤتمر وزراء خارجية الدول الأربع في باريس لبحث المسألة الليبية وظل يعمل في الديوان الأميري ثم الملكي بعد الاستقلال إلى مايو 1952.

عرف عمر باشا بأنه زعيم وطني من مدينة بنغازي ومن أعيان الكراغلة الكبار من الذين لمعت أسهمهم في العهد العثماني. ولد عام 1870. وتعلم في مدرسة العشيرة في إسطنبول التي درس بها أيضاً الكثير من الليبيين ومنهم.. علي باشا العبيدي وصالح زغاب المهدوي وغيرهما. وهي غير المدارس الرشدية.

كانت ذات مستوى أعلى وتختلف عنها في النظام والإدارة والتعليم. كان يدرس أيضاً بالعشيرة العديد من أبناء الولايات العثمانية الأخرى. عمل عمر باشا مساعداً لمتصرف بنغازي وقائم مقام في جالو.

ثم اختُير لعضوية مجلس المبعوثان (البرلمان) نائباً عن بنغازي مع يوسف بن شتوان اعتباراً من 1909. وكان ثمة ممثلون آخرون لطرابلس ومرزق وما حولهما في المجلس نفسه.. سليمان الباروني ومحمد فرحات الزاوي وعبدالقادر جامي وغيرهم.

وهذه التجربة البرلمانية والنشاط السياسي لعمر باشا وزملائه من الليبيين أكسبتهم دربة وخبرة ومعرفة بالحراك السياسي والاجتماعي في دولة الخلافة وولاياتها الممتدة الأطراف والتقوا بالنخب العربية التي كانت تشملها عضوية المجلس وكانت إجادته اللغة التركية عاملاً مهماً في ثقافته وخبرته.

وحين وقع الغزو الإيطالي عام 1911 كان عمر باشا من أوائل الأعيان الذين أسهموا في حماية مدينة بنغازي وتشكيل دور بنينا والتنسيق مع السيد أحمد الشريف في تنظيم المقاومة المبكرة في وجه العدو، فيما قامت السلطات الإيطالية بنفي مجموعة من الأهالي إلى جزرها البعيدة وكان في مقدمتهم أسرته وأقاربه الذين بلغوا حوالي أكثر من عشرين فرداً ما بين والده وإخوته وأبناء وبنات الأسرة وأطفالها وقد حدث ذلك أيضاً للكثير من العائلات الليبية ذلك الوقت.

عمر باشا سيلاقي النفي في مرحلة ثانية بتهمة خيانة إيطاليا ومساعدة الأمير إدريس للخروج إلى مصر مدة عشرين سنة من 1925 إلى فبراير 1945 بعودته إلى بنغازي. شغل منصب مستشار للحكومة في العهد الإيطالي وفي كل الأحوال كان، وفقاً للمصادر التاريخية، مخلصاً لوطنه في تلك الفترة وكان السبب الرئيس في نفي الطليان له وإبعاده عن البلاد. وترافق ذلك كله مع وجوده في معية الأمير إدريس في حكومة إجدابيا وحضوره أغلب المفاوضات مع الجانب الإيطالي.

وهذه التجربة السياسية الثانية على النطاق المحلي والداخلي أضافت له المزيد من الخبرة والحنكة السياسية وسط تلك الظروف التي مرت بالوطن على مختلف الأصعدة. عرف الباشا السياسة وفقاً لمنظور وواقع فرض نفسه في كل الاتجاهات.

وستلاحق السياسة وإن اختلفت في تفاصيلها عن فترة الباشا بعض أفراد عائلته.. والده كان في الأصل كذلك. وابنه د. فتحي وأخوه الحاج رشيد ثم ابنه أيضاً منصور رشيد.

كان عمر باشا الذي سيعاني لاحقاً من سوء الفهم ويواجه الكثير من المصاعب وقصائد الهجاء قد خبر تفاصيل السياسة بحكم هذه التجارب التي تجمعت وكونت حصيلة كبيرة لديه في إدراك العديد من الأمور وملامسة الواقع والاقتراب من القبائل في برقة والعديد من أطراف القوى المحلية الفاعلة.

وفي هذا السياق التاريخي يعتبر الباشا عمر من ضمن جيل السياسيين العرب التقليديين الذين ولدوا في ثمانينيات القرن التاسع عشر وتعلموا في إسطنبول وتأثروا تأثراً مباشراً بالعقلية التركية وأسلوبها وتعاطيها في إدارة الشؤون.

كان ذلك الجيل يضم أشهر رجالات العرب من السياسيين والنخب في أماكن مختلفة من دنيا العروبة الذين حلموا بمجدها وتغنوا بماضيها وفي مقدمتهم على سبيل المثال: عزيز المصري ونوري السعيد الذي ربطته به صداقة متينة وعوني عبدالهادي وتوفيق أبو الهدى ورياض الصلح والأمير عبد الله بن الحسين وغيرهم من الذين سيلعبون مع مرور الأعوام والأيام أدواراً متابينة في القيادة والسياسة في أوطانهم عقب تحررها إلى فترة الخمسينيات من القرن العشرين.

إن أغلب هؤلاء تأثروا، كما أشرت، وأفادوا من العقلية التركية صعبة المراس وانعكس ذلك إلى حد واضح على أغلب تصرفاتهم وسلوكياتهم. وفي الوقت ذاته كان عمر باشا برئاسته لقبيلة الكراغلة ذات النفوذ الاجتماعي الواسع في مدينة بنغازي وما حولها حقق شهرة وحضوراً بهذا الانتماء القبلي والعائلي والخلفية السياسية السابقة وظل اسماً مهماً في برقة وبخاصة لدى قبائلها عقب عودته من المنفى إلى بنغازي عن طريق مصر عام 1945 إضافة إلى كونه رجلاً سنوسياً مثل أغلب أفراد أسرته يحترم الطريقة السنوسية ورجالها نتيجة لعلاقة تمتد جذورها إلى فترات قديمة.

لكن هذه العقلية الظاهرة والتجربة العثمانية لدى عمر باشا وجيله أيضاً خلقت له عداوات وحساسيات مستمرة في أيام لاحقة، على سبيل المثال مع دي كاندول المعتمد البريطاني في برقة الذي كان يرى في الباشا شخصية معقدة وصعبة ولم يلتقيا أبداً وفقاً لهذا الأمر ثم مع شباب جمعية عمر المختار بل والجمعية برمتها.

كان له أنصاره ومؤيدوه على مستوى القبائل وفي رابطة الشباب التي ظل يدعمها ويساندها بقوة في وجه تيار الجمعية ويحاول بشتى الطرق الحد من نشاطاتها وحراكها وقطع الطريق أمامها.

لم يتفق مع الجمعية في شيء وتنافرا تماماً وإضافة إلى هذا كله فإن ميول عمر باشا كانت دائماً واضحة باتجاه حقوق برقة ونيلها الاستقلال واهتمامه بذلك ضمن اهتماماته السياسية قبل أي شيء آخر. وهذه شكلت له أيضاً المزيد من الرفض والاستنكار لدى دعاة الوحدة بالكامل قبل الاستقلال.

وعبر هذه الخطوط والتقاطعات جميعا كان لا بد أن يحدث المزيد من الصدام والاختلاف مع عمر باشا من قبل هذه الأطراف طوال الفترة التي قضاها رئيساً للحكومة، غير أن الأمير إدريس سانده كثيراً في المسؤولية وظل يعرض على الأمير الكثير من الاقتراحات والآراء وصدرت بمقتضاها قرارات بتشكيل وتأسيس بلديات جديدة في إجدابيا والأبيار وطبرق وشحات والبيضاء وسيدي خليفة والقوراشة وسلوق وجرى تعيين الكثير من الموظفين ذوي الخبرة في بعض المناصب وثمة نظام دائم صدر بشأن عمل مجلس الوزراء وجلساته وإجراءاتها والمسائل المستعجلة وجداول الأعمال والتصويت والمناقشات إضافة إلى صدور قانون المطبوعات الذي أثار جدلاً والتباسات كثيرة سنعرض لها لاحقاً استناداً إلى مناقشات ومكاتبات جرت بين الأمير والباشا بشأنه في الأول من فبراير 1950.

وفي الثالث من ديسمبر 1949 أعفي خليل القلال من وزارة الصحة حسب طلبه لأسباب صحية وعين بدلا منه سعد الله بن سعود.

وفي هذا الغمار المتلاطم والصراع مع الحكومة الجديدة وبعد أسبوعين من توليها الأمر اعترف العالم في هيئة الأمم المتحدة بحق ليبيا في الاستقلال في اليوم الحادي والعشرين من نوفمبر 1949.

ثم في ديسمبر وعبر التجاذبات والتعصب للباشا وقصائد الهجاء ومقالات الجرائد حدث اعتداء بالضرب المبرح على بشير مصطفى المغيربي الناشط والعضو الفاعل في جمعية عمر المختار. كان ذلك في وضح النهار.. وبسبب الباشا رئيس الحكومة.

فماذا حدث بالضبط؟!

___________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *