د. عبدالله الرابطي
أخي المواطن أختي المواطنة ، مثلما انبهر العالم بنا وأعترف بشجاعتنا وحسن تنظيم مقاومتنا التي أطاحت بأكبر مؤسسة عسكرية وأسكتت أقلام الجاحدين الذين أقل ما كتبوه عنا هو تقسيم ليبيا ودخول البلاد في حرب أهليه لا تبقي ولا تذر، فها هو العالم قبل ستين عاما يفتخر بنا نحن الليبيين ثانية رغم جهلنا وفقرنا وقلة إمكانياتنا آنذاك كما جاء على لسان كبير مثقفيهم والذي قال بالحرف الواحد : “عندما اقترب يوم الاستقلال في الأسبوع الماضي نظرت إلى الحكومة الليبية باحترام يصل إلى حد القداسة” .
وبناء على هذا فإنني أنقل لكم ترجمة نص المقالة بالكامل التي نشرت في صحيفة التايم الأمريكية يوم الاثنين الموافق 31 ديسمبر 1951م (بعد سبعة أيام من الاستقلال) تحت عنوان، ليبيا : مولد أمــــة LIBYA: Birth of a Nation .
***
ترجمة النص:
“( في طرابلس وبنغازي حيث ساد نواب الحكام الفينيقيين والقياصرة والعثمانيين ، وحيث تناثرت أخر بقايا إمبراطورية موسليني هباء تحت شمس إفريقيا لمعت رايات جديدة تعلن ميلاد المملكة الليبية المتحدة ، والتي أصبح لها قائد روحي مسلم مسن وحكيم ، أحدث ملك في العالم ، الملك إدريس الأول ملك ليبيا التي توحدت أقاليمها الثلاثة ” برقة وطرابلس وفزان ، تفصل بينهما صحراء شاسعة وانعدام ثقة متبادل ، تحت برلمان ذي طراز أوروبي ، ودستور مستمد من تشريعات اثني عشر بلدا أخر.
انه ميلاد فريد من نوعه لبلاد مكونة من مدن بائسة وواحات مبعثرة في براري رملية وقفار قاحلة مترامية الأطراف تبلغ مساحتها ثلاث مرات مساحة تكساس وهي أول دولة تولد بقرار من الأمم المتحدة دون أي عامل أخر.
ولكن هذا المولود الذي ولد تحت براثن الفقر وسط العالم العربي السقيم موصوما بلعنة الجهل ، ليس أمامه أي فرصة ليبلغ سن الرشد ،وسكان ليبيا البالغ عددهم مليون وخمسين ألف يعرفون كلمة “الاستقلال” ولا يملكون إلا إرث قليل لتفعيله.
ليس بهذا البلد كليات جامعية ، ولديهم فقط 16 فرد يحملون مؤهلا جامعيا ، وثلاثة محامين . ليس هناك طبيب ليبي واحد أو مهندس أو مساح أو صيدلي . فقط 250 ألف مواطن قادر على كتابة اسمه ، اما الباقين فيستعملون البصمة للتوقيع.
أمراض العيون خاصة التراكوما منتشرة جدا لدرجة أن 10% من السكان مصابون بالعمى . متوسط الدخل السنوي للفرد 35 دولار تقريبا , وهو اقل من أي قطر عربي آخر ربما باستثناء اليمن.
ولم يبقى من آلاف المهاجرين الإيطاليين إلى ليبيا لخلق مستعمرة موسوليني النموذجية سوى 47000 إيطالي متقلدين لبعض أحسن الوظائف ويمتلكون أحسن المزارع ويديرون أفضل الأعمال التجارية كما أن ثمانية أعشار الليبيين هم أما مزارعون أو رعاة ماشية وعلاوة على ذلك يذكر مسح غير مشجع للأمم المتحدة أن هذه البلاد “يصعب عليها توفير الطعام لسكانها“، باستيرادها لضعف ما تصدره فلا مناص لهذه الدولة من تسجيل عجز في ميزانيتها.
إن النقل بالسكة الحديدية في المملكة عبارة عن قاطرة بخارية واحدة وقاطرتا ديزل وقليل من عربات النقل المهترئة تسير على 200 ميل فقط من السكك الحديدية بين طرابلس وفزان .
ليس هناك خطوط هاتف آو تلغراف أو اتصالات راديو كما أنه لا يوجد تجانس كبير بين الولايات الثلاث : طرابلس(800 ألف نسمة) و برقة(300 الف نسمة) وفزان (40 ألف نسمة) ولم يتوفر لهذه الولايات إدارة مشتركة باستثناء السنوات الأخيرة من الحكم الإيطالي (من عام 1935 وحى الحرب العالمية الثانية).
حتى الأمم المتحدة ليست على يقين بأن مثل هذا الطفل المعلول سيضل على قيد الحياة .
ولأن القوى العظمى لم تستطع الاتفاق فيما بينها بخصوص مستقبل ليبيا المستعمرة الإيطالية سابقا ، فان دول الأمم المتحدة الصغيرة بقيادة الدول العربية العجولة ودول أمريكا اللاتينية استطاعت أن تمرر قراراً يمنح ليبيا استقلالها في مدة أقصاها أول يناير 1952م.
لقد ترك هولندي ممتلئ قصير القامة يدعى ادريان بلت ، عمله كمساعد للأمين العام للأمم المتحدة وعين كمبعوث للأمم المتحدة لدى ليبيا آخذا معه فريقا من الخبراء للعمل هناك ولقد قرر المجلس المؤقت والمكون من 60 عضو ليبي– 20 من كل ولاية– والمجتمع تحت جناح الأمم المتحدة أن يكون البلد ملكية فيدرالية ، وقام بكتابة مسودة الدستور والتخطيط للانتخابات.
وبدون أي جدال اجتمعت كلمة المجلس على تنصيب السيد محمد إدريس المهدي السنوسي ، أمير برقة ، ملكا على البلاد ويعتبر هذا الأمير زعيما روحيا وسياسيا للطريقة السنوسية ، كما يعتبر في ذاته أقوى شخصية في ليبيا.
لقد قاد الملك إدريس الأول رجال القبائل السنوسيين في حربين ضد الإيطاليين ، وهو يقطن الآن ثكنات إيطالية قرب بنغازي حُورت كقصر له ، إنه العربي المتناسق الأطراف البالغ من العمر 62 سنة والمتبحر في العلوم الإسلامية ويرتدي ثياباً زرقاء كتلك التي يرتديها ملوك البدو ويتكلم بصوت رفيع ذي نبرة عالية .
إنه يثق في الغرب ويصف في أحاديثه الخاصة الجامعة العربية المتكونة من سبع دول بأنها “تحالف الضعفاء” ولكنه يعترف بالعلاقة التي تربط ليبيا مع بقية العالم الإسلامي وفي نفس الوقت يخطط للانضمام إلى الجامعة العربية .
يقول خبير بريطاني في الشأن الليبي “اذا كان هناك شخص قادر على توحيد هذا البلد فهو الملك إدريس” ولأن هؤلاء الناس يؤمنون بالإسلام فإن الرابطة بينهم هي الإسلام .
إن اول خطوة في هذا التوحيد هي صدور المرسوم الملكي الذي يقضي بإنشاء عاصمتين، الرئيسية في طرابلس والثانية في بنغازي لتسكين مخاوف البرقاويين من سيطرة طرابلس.
بعد العمل لمدة سنة مع الملك ووزرائه المصابون بداء التفاؤل أصبح حتى بعض الأجانب المشككين تحدوهم الآمال “ثمة فرصة لديمقراطية حقيقية هنا” يقول أدريان بيلت “أظن أن الليبيين يستطيعون ان يجربوا حظهم فهم مفعمون بالنشاط وعلى استعداد لخوض التجربة وفي مرحلة استقلالهم هم محتاجون للعون الخارجي أكثر مما احتاجوا إليه عندما كانت بلادهم مستعمرة .
وبريطانيا التي تأمل أن تكون الأخ الكبير، وفرت عددا من الكوادر المدنية لتشغيل دولاب العمل الحكومي وخصصت 6 ملايين دولار لدفع الأمور إلى الأمام (مقابل مليون دولار من الولايات المتحدة الأمريكية) مع استعداد بريطانيا لضمان تغطية العجز في الميزانية السنوية والفرنسيون أعاروا بعض الخبراء لولاية فزان وهم يوفرون لها نصف مليون دولار سنويا.
جاذبية ليبيا لأمريكا وبريطانيا وفرنسا سوف يسمح لهم بالاحتفاظ بالحاميات العسكرية في ليبيا وأمريكا بقاعدة “ويلس” قرب طرابلس ولكن قادة ليبيا الجدد أظهروا أنهم لا يريدون أن يكونوا طالبي مساعدات دائما ، وقد علّق احد الدبلوماسيين الغربيين بالقول:”حتى ألان برهنو على أنهم يحرزون تقدما مشجعا، لأنهم طلبوا النصيحة الفنية مع المساعدة المالية“.
عندما اقترب يوم الاستقلال في الأسبوع الماضي نظرت الى الحكومة الليبية باحترام يصل إلى حد القداسة . فقد كان الوزراء يوزعون أنفسهم بين العاصمتين في طائرة مستعارة من الأمم المتحدة بهدف تنظيم احتفالات ستدوم ثلاثة أيام وقام أحدهم باستدانة مدفع هاورتزر أمريكي لتحية هذه المناسبة بإطلاق 101 طلقة وقد وجدوا عجوزا تركيا يعرف كيف يستخدمه .
وقام فريق من الفنيين بالجيش الأمريكي بزيارة الملك المعتكف في مكتبه لغرض تسجيل خطابه الذي سيزف إعلان الاستقلال وقد أعاد الملك قراءته أربع مرات وبعد أن تم بث التسجيل اتسعت عيناه دهشة وقهقه ضاحكا.
إن المواطن العادي المتجول في أسواق طرابلس الشعبية أو الذي يعيش في وسط تلال الرمال في فزان لا يبدو واثقا من معرفة ماذا يحدث ولكنه كما يملك دائما كلمة تطالب بالاستقلال فإنه يملك كلمة يعبر بها عن الأشياء غير المفهومة وهي “إن شاء الله” )”.
انتهى النص
وختاما أود أن أعلمكم بأن الذي دفعني لوضع هذه المقالة القديمة للنشر هو اعتزازنا بإبائنا وأجدادنا الذين ضحوا من أجلنا, واحترامنا لمقولة الملك إدريس السنوسي التي جاء فيها ” المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله” .
عاشت ليبيا حرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
____________
نشر المقال في صحيفة التايم الأمريكية يوم الاثنين الموافق 31 ديسمبر 1951م