سالم الكبتي
(إن الرعية إذا قدرت أن تقول.. قدرت أن تفعل)
أرسطو طاليس
***
وسط ظروف الصيف وأحوال شهر الصوم شكل د. فتحي الكيخيا حكومته وضمت معه خمسة وزراء تولوا حقائب مختلفة خلالها لمواجهة أعباء المسؤولية.
تولت الحكومة الأمر في السابع عشر من يوليو 1949.
كان الأمير إدريس يستعد للسفر إلى لندن وقد غادر بنغازي براً إلى طرابلس ومنها بحراً إلى أوروبا وسافر معه أيضاً رئيس حكومته وستطول الزيارة إلى ما يقارب الشهرين.
في أجواء تشكيل الحكومة وأيام الصيام وسفر الأمير وصحبه شهدت بنغازي حدثاً مهماً يطرأ على المدينة لأول مرة تمثل في قدوم ثلاثة من الشبان المصريين ينتمون إلى حركة الإخوان المسلمين وهم: عزالدين إبراهيم ومحمود الشربيني وجلال سعده
هولاء الثلاثة احتموا بالأمير وطلبوا منه الموافقة على اللجوء في ساحته والبقاء في بنغازي.
كانوا يواجهون تهمة في القاهرة تتعلق بقضية عرفت بقضية الأوكار اتهموا خلالها بجمع وتخزين أسلحة وذخائر في أحد أحياء القاهرة. وافق الأمير على طلبهم وظلوا في بنغازي إلى يوليو 1952.
نشأ عن هذا اللجوء للثلاثة المصريين وتعاطف الأمير معهم لظروف إنسانية دون النظر إلى الشأن السياسي أزمة حادة مع مصر تداعت عنها نقاشات في جلسات المؤتمر الوطني البرقاوي والحكومة وتأكد عبرها رفض تسليمهم إلى مصر لأن العرف والاستجارة والنخوة العربية لا تتماشى والتسليم أو الغدر بهم.
وظلت حكومة الملك فاروق تطالب بضرورة إعادة الثلاثة الفارين وتسليمهم إليها وحاولت بالمزيد من الضغط على المسؤولين في برقة إرسال من يقوم باغتيالهم في بنغازي.
وقضت سلطات الأمن على ذلك، ثم قامت في ذات الوقت بقفل الحدود في وجه النشاط التجاري بين برقة ومصر وقبضت على اثنين من التجارالليبيين ووضعتهم رهن الاعتقال لديها.
وفي كل الأحوال ورغم هذه الإجراءات رفض الأمير تسليمهم وتولت الحكومة معه الاهتمام بوضعهم في بنغازي ومرت مع الأيام تلك الأزمة السياسية التي اجتازها الأمير وحكومته ببراعة ودبلوماسية ودون المزيد من المشاكل.
كان الأمير إدريس يبحث عن كفاءات تتقلد المناصب الجديدة في الحكومة الأولى إضافة إلى ثقته المباشرة في شخوصها.
وفي الأصل كانت نسبة المتعلمين وأصحاب الخبرات قليلة في البلاد بأسرها. لكنه وجد في فتحي الكيخيا المكانة التي تؤهله لإدارة هذه الحكومة فهو ابن رئيس ديوانه الأميري ومستشاره القديم في حكومة إجدابيا عمر باشا الكيخيا وهو أيضاً من العائلات الحضرية المعروفة بأصولها الكرغلية.
-
كان الأمير ينظر إلى اعتبارات كثيرة لا تستند على الجهوية أو القبلية الضيقة وكانت نظرته تتسع وتمتد إلى روح المواطنة دون الأمور الأخرى بالدرجة الأولى.
الكيخيا في سطور
ولد الكيخيا في مدينة بنغازي في الرابع عشر من أكتوبر 1901. -
ونفي مع أسرته إلى إيطاليا عام 1911.
-
ودرس لاحقا في مدرسة الفرير بالإسكندرية وأنجز علومه الثانوية بها عام 1922.
-
وواصل دراسته بكلية الحقوق في باريس وتحصل على شهادة الدكتوراة في القانون من جامعة روما عام 1928.
-
وعقب عودته اعتُقل ثانية عام 1930 مع غيره من الوطنيين في معتقل بنينا الذي قضى به ثلاث سنوات.
-
وهاجر إلى مصر 1938 حيث تزوج من كريمة محمود خيري باشا.
-
واشتغل في المحاكم المختلطة بالإسكندرية حتى عام 1949 .
-
ثم عمل محاميا بالمحاكم الوطنية المصرية بعد إغلاق المحاكم المختلطة.
وجد الأمير في هذا الاختيار تجربة قانونية سابقة وكفاءة في د. الكيخيا وعلى هذا سيسهم في بناء دولة الاستقلال باختياره في مدد لاحقة نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للعدل في أول حكومة بعد الاستقلال ثم وزيراً مفوضاً في الولايات المتحدة وسفيراً في إيطاليا إلى وفاته في أغسطس 1958 سفيراً مرة أخرى في واشنطن.
والواقع أن إسهامات الدكتور الكيخيا تمثلت في ترسيخ أسس القانون ومبادئه فلم يكن بعيداً عن وضع الدستور البرقاوي في سبتمبر 1949 وفي تأسيس المحكمة العليا عقب الاستقلال ووضع جملة من القوانين المهمة أيضا باستدعائه للفقيه القانوني عبدالرزاق السنهوري الذي صاغ مجموعة قوانين منها خاصة القانون المدني والتجاري والبحري والعقوبات وغيرها.
وإضافة إلى رئاسته للحكومة فقد جمع د. الكيخيا في المسؤولية وزارات الدفاع والعدل والمعارف، وبالتنسيق والتشاور مع الأمير اختار أعضاء حكومته لمعاضدته في تحمل الأعباء الوزارية ومعالجة شؤون الإمارة الوليدة.
ضمت الحكومة الأولى لبرقة تركيبة من الوزراء وعددهم خمسة الذين سيخوضون غمار التجربة الوزارية للمرة الأولى.
أغلبهم كانت لديه خبرة ماضية في ممارسة الوظيفة والإدارة في فترة العهد الإيطالي.
لم يكونوا من خريجي الجامعات أو حملة الشهادات العليا مثل رئيسهم بل تفاوتت مراحل التعليم والثقافة والخبرة بينهم بحكم السن والتجربة والمعرفة وكانوا يحظون أيضاً بثقة الأمير.
وعلى سبيل المثال طلب شخصياً من سعد الله بن سعود المهاجر منذ زمن في تركيا العودة إلى بنغازي وكلفه بمنصب نائب رئيس الحكومة ووزارة الداخلية. ووفقاً للواقع وندرة المتعلمين والخبرات، كما سبقت الإشارة، فقد جمع وزراء هذه الحكومة في مسؤولياتهم في الغالب بين وزارة وأخرى.
ولخبرة محمد الشويب بودجاجة في العمل المصرفي والمالي اختير وزيراً للمالية والتجارة.
و علي أسعد الجربي وزيراً للأشغال العامة والمواصلات.
و حسين بومازق وزيراً للزراعة والغابات
و خليل القلال وزيراً للصحة.
وباشرت الحكومة، بناء على هذا الاختيار المباشر والثقة أيضاً، أعمالها في وقت يشتد فيه العسر قبل اليسر من النواحي الاقتصادية والإمكانات والوسائل إضافة إلى التحديات السياسية المتلاحقة التي تمر بها البلاد.
لم تدم فترة الحكومة الأولى طويلاً فقد انقطعت أخبار رئيسها منذ مغادرته لندن مرافقاً للأمير إدريس في زيارته.
ذهب إلى باريس ثم وصل إلى الإسكندرية وظلت الحكومة بلا رئيس يديرها سوى بتكليف خجول لسعد الله بن سعود إلى نوفمبر 1949.
ويبدو أن اختيار الكيخيا ومرافقته للأمير كان ترشيحاً في الأصل ولم يمارس سلطاته الفعلية على أرض الواقع فقد رافق الأمير مباشرة إلى لندن وشارك في بعض اجتماعاته مع المسؤولين الإنجليز ولعل ما دار فيها لم يرق لتصوراته فآثر المغادرة.
زادت الترشيحات هنا لتكليف مباشر لبن سعود لرئاسة الحكومة الثانية، لكن بعض المستشارين في الإدارة البريطانية لم يؤيدوا هذا الترشيح.
وهنا اختار الأمير إدريس عمر باشا الكيخيا والد الرئيس السابق رئيسا للحكومة الثانية في برقة التي سيقودها من نوفمبر 1940 إلى مارس 1950 ولاحت فيها الكثير من بوادر الصراع والمشاكل التي تلقي بظلالها فوق كل الجدران والأبعاد.
____________