سالم الكبتي

(من لا يتذكر الماضي قدره أن يكرره)

جورج سنتيانا

وفي الطريق نحو عام 1949 اشتعلت الحرب العالمية الثانية قبل ذلك بعشرة أعوام، لم يتوقف لظى معاركها، خراب ودمار يعم الدنيا بأسرها وملايين الضحايا وأنهار الدماء تسيل وتجري.

في ليبيا انسحبت إيطاليا حليفة ألمانيا واليابان بعد هزيمة لحقت بها عام 1943 وصار هناك وضع جديد في البلاد، أقبل بشوق ينتظره الليبيون بعد معاناة ومرارات ليطوي المسافات صوب طرق أخرى.. قد تتعدد، قد تنسرب منها مسارب، قد تكون شائكة، وفي المجمل ظِل ما بعد الحرب شيء آخر وحده ينتج عنه أمور تطرأ وتتداعى، الحرب وما بعدها.. هكذا دائماً.

شارك الليبيون وهم قليلو الحيلة في تلك الحرب، إما مجندين بالإكراه مع العدو الذي دخل بهم إلى الحبشة عام 1936، وثمة مجموعات غادرت الدنيا وكثير وقع في أسر الحلفاء وانضم إلى الجيش السنوسي الذي تشكل في صحراء الهرم قرب القاهرة عام 1940، وشارك في معارك تلك الحرب داخل البلاد بغية تحريرها وليس خارجها، شروط اشترطها الليبيون وقيادتهم، لا دخل لهم بشؤون الآخرين، يكفي أن يحرروا وطنهم ويحققوا له الاستقرار والطمأنينة وسط عالم يضج ويتحرك ويأكل بعضه كلما سنحت فرصة لذلك، تعلّم الليبيون الدرس تماماً وظل حلمهم في العودة إلى الديار وبناء الدولة الحديثة.

ثم نشأ عن انتهاء الحرب وجود آخر للسلطات العسكرية البريطانية والفرنسية، وحلت مكان المعسكرات والمواقع الإيطالية السابقة على امتداد المدن والدواخل الليبية، بحكم ما أسفرت عنه أحداث الحرب التي كانت بدأت عندنا اعتباراً من العام 1941، وانتهت في العام 1943، فيما تواصلت في باقي العالم إلى 1945 بسقوط الرايخ وإخفاق جنون هتلر.

وبرزت قوى جديدة وتحالفات سيصير لها نفوذ جديد وقريب في العالم بأسره، واقع فرضته الحرب وكان لابد أن ينشأ ويحدث عبر هذه التفاعلات والتغيرات.

كانت ليبيا أيضاً تطوقها أحزمة النار من هنا وهناك، كانت السلطتان المذكورتان تمثلان في الوقت ذاته واقعاً استعمارياً موغلًا في القدم يجاور ليبيا أو يمتد في البعيد.. ربما إلى أقصى العالم.

فرنسا تمتد بأذرعتها من تونس وعبر الجزائر إلى المغرب وإلى أعماق أفريقيا خلف الصحراء وبعض دول الشرق العربي.

وبريطانيا ظلت الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، كان الأسد البريطاني في مصر والسودان وشرق الأردن وفلسطين والعراق ويصل الهند ويتحكّم في قناة السويس ويقبع جزء منه في أفريقيا أيضاً.

ولم يكن مع هذا كله عسيراً أن تمسك السلطتان مقاليد الأمور في بلد يحتل موقعاً استراتيجياً وحيوياً لا يمكن التفريط فيه، كانتا معاً تنظران إلى الأمر بأن ذلك من (حقهما) فقد أسهمتا مساهمة كبرى في تحريره وإنقاذه من الطليان.
دخلت الدبابات والطائرات وكل الوسائل وبسطت نفوذها الكامل ومارست أعمالها اليومية وبالأوامر والتعليمات والمتابعة، قرارات ولوائح ونظم أصدرها عسكريون إنجليز وفرنسيون، في برقة وطرابلس وفزان.

إن ذلك عُرف لاحقاً مع مرور الأيام بالإدارتين البريطانية والفرنسية، وظلت تتابع سلطاتها فوق الأرض من الساحل إلى الصحراء وشكّلت (نظاماً جديداً) بدلاً من السابق الإيطالي، تخضع له كل المناطق من النواحي الأمنية والإدارية والاقتصادية.

وأضحى لديهما موظفون يتبعونهما إما من نفس الجنسية أو من رعاياها أو ممن وصل معها ومع قواتها العسكرية (فلسطين والأردن والسودان والجزائر) على سبيل المثال أو ممن عيّنتهم من أهل البلاد أصحاب الخبرة والثقة.

لم تكن هنا خلال هذه الفترة (الأجنبية الجديدة) أية حكومة محلية، كانت الصلة مع سلطات الإدارتين مباشرة، اللتين يديرهما ضباط كبار ذوي تجربة في بلدان مجاورة وبعيدة، وكانت التقارير خاصة الأمنية عن واقع البلاد ومستقبلها ترِد إلى عواصم الإدارتين بانتظام ودون انقطاع.

لم تترك الإدارتان شيئاً دون أن تلتفت إليه: الاقتصاد والأعيان والشيوخ والقبائل والأنشطة المحلية والتجارة والحدود والصحة والتعليم. وكل شيء كان يخضع للتقييم والمتابعة.

وضعت الإدارتان أسس المرافق والدوائر والوظائف، وبسطت سلطاتها مع مطلع كل يوم، وواجهت كثيراً من التحديات والصعوبات أيضاً في بلد تراه متخلفاً وفقيراً وظلت تتلقى التعليمات من قياداتها في لندن وباريس اللتين لم يخفت وعيهما بحيوية المكان وتأثيره أو(عبقريته)!

عبر هذه الفترة (القاهرة أو المفروضة) من التجربة العسكرية لبريطانيا وفرنسا في ليبيا التي ربما نسميها (تجاوزاً) بالفترة الانتقالية (الطارئة)، بين هزيمة إيطاليا وخروجها من البلاد إلى حين تكوين الحكومات والسلطات المحلية في وجودها بين الإدارتين بالطبع، تبلور مناخ سياسي في البلاد وأخذ يستشرف آفاق المجهول، لم يكن أحد يعرف بالضبط حال بلاده أو مصيرها، بمعنى يلح في طرح الأسئلة:

  • ماذا سيحدث؟
  • إلى ماذا ستصل تجربة ما يُسمى بالإدارتين؟
    ما هو موقف العالم كله من ليبيا؟
  • ما دورنا نحن؟

في جانب موازٍ آخر انعكست تجربة الإدارتين على الواقع بخدمات نَظر إليها البعض على أنها إيجابية خاصة في برقة وطرابلس: الخدمات الصحية، انتظام الإدارة، إيفاد بعض البعثات الدراسية إلى مصر (كان المنهج الدراسي في برقة وطرابلس مصرياً، فيما كان في فزان تونسياً وجزائرياً)، صدور الصحف، تكوين الجماعات السياسية ومشاركتها في الحراك السياسي والحلم بتأسيس الدولة وطرح وجهات النظر في واقع البلاد ومستقبلها المنظور، مع ترافق ذلك بالمظاهرات والاحتجاجات ورفض بعض تصرفات الإدارة.

وفي كل الأحوال ظلت البلاد، دون حكومات مستقلة في ظل الإدارتين حتى عام 1949، البعض يراهما احتلالاً جديداً أو وصاية، والبعض ينظر إليهما بأنهما وجود غير مرغوب فيه، البعض يصفهما بالتحالف الضروري، وتنفيذاً لوعود سابقة.

.. لكن العام اقترب، ومعه أطل زمن الحكومات المحلية الليبية التي كان أولها في برقة صيف 1949، وبدأت تتضح خلالهما معالم الطريق .. وإن كانت الرؤية أحياناً صعبة وغير ميسورة وسط الضباب والأدخنة والغبار.

______________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *