سالم الكبتي

(لا نتذكر الماضي لجماله .. لكن لبشاعة حاضرنا)

***
..
وكانت الحكومات في ذات اللحظة كما أشرت سابقاً تواجه القبيلة بسلطتها ومنظومتها الاجتماعية والرافضة لما يعيق مسارها وتتمرد عليه بين فينة وأخرى.

 من الصعب أن تتفهم القبيلة نظام الحكومة بكل أشكاله وتخضع له. إنها ترى في الخضوع للحكومة مذلة مطلقة.

وفي كل الأحوال ظل شيخ المشايخ في القبيلة مهابا وكلمته مسموعة في نطاق القبيلة أكثر من الحكومة وكان الأعيان وأعضاء البلديات وشيوخ المحلات في المدن يبدون كما لو أنهم حكومة وسلطة مسموعة الكلمة وبهذا ظلت المسائل والأمور تمضي وتسير ولم يكن هناك وعي حقيقي لمعنى الحكومة بتفصيله السياسي والإداري والاجتماعي ولم تكن هناك في الغالب حكومة تخطط أو تنفذ أو تعقد المعاهدات إلا في فترات تاريخية مرت كالبارق الغربي.

ولاحقاً ستزول العديد من الالتباسات بين الأهالي والحكومة وسيرون أن الحكومة ستحقق مصالحهم وتدير شؤونهم ولذلك فإنهم سيقلبون ظهر المجن للعناد والمكابرة وينطاعون لنظام الحكومة بشكل كامل.

لقد تغيرت الأمور في زمن الحداثة والمعاصرة والتطور حتى وإن شاب ذلك اصطياد في المياه العكرة ووقع صدام لا بد منه تتم معالجته بالتسوية وبالتراضي وتطييب الخواطر وتنازل الأطراف عن بعض الأمور.

حين حدث الغزو الإيطالي للبلاد أواخر العام 1911 كانت بقايا الإدارة التركية أو حكومتها لم تزل باقية وماثلة أمام الأنظار لكن الطليان سعوا إلى تغيير الملامح التركية القديمة بأخرى إيطالية أو أوروبية ومسحت الصور القديمة لتلك المعالم التي ظلت في رأيها تحمل خلالها التخلف والجهل مع مراعاة الإبقاء على بعض التعليمات والقوانين السابقة دون مساس بأصولها وللدلالة على ذلك بقيت الموضوعات المتعلقة بضبط أعمال التسجيل العقاري والأملاك وحقوق الأفراد فيها وكذا ما يتصل بالأوقاف والأحباس..

ظلت في الغالب كما كانت مع إحداث المزيد من التطور رغم أن الطليان صادروا الكثير من الأملاك لصالح الدولة المحتلة وفي بعض الحالات عوضوا أصحابها إلا في حالات نظروا فيها إلى أصحاب بعض الأملاك بأنهم عصاة أو متمردون على الدولة أو هاجروا وتركوا البلاد.

حاولت إيطاليا تطوير الإدارة وواجهت بالطبع المقاومة واستقر لها الحال عندما أبرمت الاتفاقات وأصدرت القوانين (الدساتير) المنظمة للحقوق والواجبات في طرابلس وبرقة وانصرفت حكومتها (الاستعمارية) إلى متابعة وإنجاز هذه التفاصيل بشدة في كثير من الأوقات وأضحت مسؤولية المستعمرة التي اعتبرت شاطئاً رابعاً لإيطاليا تحت تعليمات وأوامر روما والحكومة والوزراء مثلما كان الحال أيام اسطنبول.

اتفقا ولم يختلفا.

كانت الأمور تدار عن بعد وتتحقق وفقاً للقرارات على أرض الواقع في ليبيا.

كان الولاة والمتصرفون الإيطاليون في ليبيا ينفذون ما يرد إليهم مع بعض الزيادة في المتن والحاشية.

كانوا يواجهون السكان ويتعاملون معهم بكل الطرق والأساليب والحيل والاستمالة.

ولم يكن ثمة وزراء محليون في هذه الحكومات على الإطلاق سوى مجموعة من الأفراد كما سلف القول الذين نالوا ثقافة وتعليما وعينوا في إدارة الشؤون العربية وإدارة الأوقاف والمديريات في النواحي وغيرها وبإشراف إيطالي مباشر.

وعلى وجه العموم تمتع أغلب هؤلاء باحترام مواطنيهم ونالوا ثقتهم ولجأوا إليهم وقضوا حوائجهم وفق المتاح بل وقاموا بحمايتهم في كثير من الأحيان وأنقذوهم من مواقف صعبة.

وكان هؤلاء أيضاً يمثلون النخبة الوطنية الليبية التي عرفت كيف تمسك الأمور من الوسط وظلوا على الدوام بين نارين مستعرتين.

إن العديد من هذه الخبرات والنخب ستحمل عبء بناء الدولة بعد استقلالها رغم ما نال بعضها من اتهامات بالخيانة والعمالة زمن الاحتلال.

لقد خلط الناس في مفهومهم السياسي والاجتماعي بين فرق الباندات المحلية ومجموعات الجواسيس وبين هؤلاء والفرق هنا بعيد بالطبع وفي صفحات التاريخ ترد الكثير من الأسماء التي نهضت بالخدمة حماية لمواطنيها وفق رؤيتها الشخصية والمحلية ولم ينشأ عن ذلك أي ضرر أو هلاك لأنها التزمت الواقعية وتعاملت مع ما يجري بصبر وتعقل وفهم من الصعب تصوره الآن بمقاييس الأجيال الحالية التي يلتبس عندها معنى الخيانة في المطلق وتحملت ما طاش حولها من سهام كثيرة.

ومن هذه الأسماء المهمة .. على سبيل المثال: محمود المنتصر والشارف الغرياني وعمر فخري المحيشي وعلي أسعد الجربي وحسين مازق ووهبي البوري ويوسف بن كاطو وعلي نورالدين العنيزي وعبدالقادر العلام وعمر جعودة وطاهر القره مانللي ومحمد بودجاجة ومصطفى ميزران وعبدالمجيد كعبار وعبدالحميد الديباني ومحمد أبوالأسعاد العالم وعبدالكريم عزوز ومحمد سرقيوه وسالم الصادق ومحمد الساقزلي وعلي الهنشير وحسين غرور …. وغيرهم الذين شكلوا بهذه النخبة تكويناً يستند إلى إلى الوجاهة العائلية والقبلية والاجتماعية وممن لم يكن في وارد عملهم بالإدارة الإيطالية المحتلة خيانة وطنهم أو مواطنيهم على الإطلاق.

كما أنه في جانب ثان ظل المعاصرون للمعتقلات الشائكة التي تفتق عنها الفكر الفاشي في المناطق القاحلة في البريقة والعقيلة والمقرون وسلوق يشيدون في رواياتهم وأحاديثهم بالدور الإيجابي الذي اتسم به البعض من مديري الأشواط في نواجع تلك المعتقلات وهم من الليبيين في تقدير الظروف وخدمة المعتقلين وعدم الإساءة إليهم وحمايتهم في كثير من الأحيان.

وفي جانب ثالث مؤثر وحيوي يأتي الدور الوطني البالغ الذي تصدى له المعلمون الوطنيون زمن الاحتلال وهم في الوظيفة الإيطالية وبأشراف مسؤوليها واستطاعوا صنع أجيال في ذلك الوقت مفعمة بالوطنية والإنتماء لليبيا.

وأود أن لا يساء فهمي عبر هذه السطور فلست أبرر أو أسوق لشيء أصحابه في ذمة الله والتاريخ ولكنني أردت الفصل بين ما كان يحدث ويقع بالفعل وفقا لتصور تاريخي يتفق بشأنه أغلب الثقاة دون النظر إلى العاطفة وبين تصور آخر خاطئ في معظمه يظل يتجه نحو المزيد من الخطأ بحسن نية أو من غيرها.

ولعل هذا كله يقودنا معا إلى الرؤية المنهجية الصحيحة لأدوار رجال التاريخ الليبي المعاصرون فيما قاموا به وتقييمهم بحيادية ومنطق ثم أن أغلب هذه الأسماء سترافقنا كما أوضحت في أغلب تشكيلات الحكومات الليبية المعاصرة.

لقد غلبت روح العقلانية في الدولة الليبية قبيل الاستقلال وعند إعلانه وتجاوزت عن كل التهم غير الصحيحة وأفادت من هذه الخبرات وحصيلة تجاربها في عملية النشوء والتأسيس.
..

ومع ذلك ظل مفهوم الحكومة يتراوح .. يتقدم ويتأخر إلى مسارب التاريخ . وصار حتى المجرم أو العاصي حكومة لوحده. حكومة افحيج الذي دوخ سلطات الأمن في ترهونة وما حولها في العام 1951. على سبيل المثال.

_____________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *