سالم الكبتي
(كل دولة ولها رجال) مثل ليبي.
***
في حياتهم الخاصة والعامة تعامل الليبيون على حد سواء مع الحكومة – أية حكومة – باعتبارها سلطة ومركز قوة ونفوذ. وأنها ذات إمكانيات هائلة وذات مهابة وكلمة مسموعة عند الجميع وأنها في كل المستويات (تحبس وتطلق).
وعلى هذا كان دائما يحدث تنافر أو صدام أو عدم قبول ورضا مقابل ما تقوم به تلك السلطة الحكومية أيا كان نوعها، فهي أولا وأخيرا تستطيع فعل كل شيء.
وإذا كانت المصادر تتفق في تعريفاتها لمصطلح الحكومة وترى أنها هيئة حاكمة تتولى تنظيم شؤون الدولة في حدود القانون الوطني وتعتبر عنصرا من العناصر الثلاثة التي تقوم عليها أية دولة وهي: الشعب والإقليم والسلطة الحاكمة..
إذا كان الأمر كذلك، فإن الحكومة بمعناها الواسع والكبير في نظر الأجيال الليبية السابقة واللاحقة تظل تستدعي التحدي والمواجهة والإساءة إليها، ولم يكن قبول قراراتها وتعليماتها وأوامرها بالسهل لدى الكثيرين من الناس.
كان من الصعب لديهم، سوى بعض قلة، تقبل التوجيهات وتعتبرها شيئا متعاليا وفوقيا يصدر عن آخرين بعيدين عن الأرض وما يدور فوقها.
وكان من الصعب أيضا قبول رجالها أو التسامح معهم والتعامل بعيدا عن النقد والتجريح.
البطولة كانت تتمثل في مواجهة الحكومة ولعنها وشتمها وتحميلها تبعات الأخطاء بلا توقف (!!).
وهذا أمر يلاحظ في قوة العاطفة التي تسيطر على الناس دون التزام الواقعية ومعايشة الظروف. فالليبيون لم يمارسوا أصول السياسة ومداولة الشؤون بالمهنية السياسية والفهم لما يدور.
الحكومات كانت طارئة عليهم بحكم التنظيم الاجتماعي والقبلي الذي يخضعون له دون الركون إلى الحكومة – أية حكومة – وهذا أيضا لا ينفي في مجمله سلبيات وعثرات الحكومات التي خضعت لها الدولة من خارجية ووطنية. كانت أحيانا تصل إلى حدود الخيانة وارتكاب الكوارث وتستفز مشاعر الجميع.
وفي كل الأحوال كانت كل حكومة تقوم ببسط سيطرتها على الواقع وتواجه التحديات المعقدة على الدوام في مجتمع متباعد واسع الأطراف يعاني جله من الأمية والتخلف والمرض وعدم التواصل مع العالم والانفتاح عليه.
في منطق الفرد الليبي تشكل الحكومة مصدر قلق له وعامل قوة وتسلط ولذلك ظل ما يهدد استقراره ويقوض معيشته بسبب أو بدونه هو (حكومة).
كان يصف الترك بأنهم حكومة عصملي وبأن قوات الطليان عندما تواجه المقاومة هي حكومة وقد ظل الرواة والأخباريون في أحاديثهم وأسمارهم يقولون عن فترة الاحتلال بأنه ظهرت علينا حكومة. أو تجمعت قرب نواجعنا وقرانا وبيوتنا.. (حكايم). ما يعني جمع حكومات وهي في منظورهم تعني الجند والمدرعات والأسلحة والذخيرة القادمة من (حكومة الري).
الحاكم أو الملك.
وظلوا على المدى يرددون بأن الحكومة (أحبالها اطوال) وحتى في تغزلهم شعرا في الحبيبة يصفونها بأنها حكومة مدرعة يصعب على الشاعر أو القائل مقاومتها لجمالها ولحسبها وأنه أمامها مجرد شخص ضعيف وأدبك وتراس.
إذن، الحكومة – أية حكومة – صارت في المطلق محل شك وحذر وريبة وهي، بهذه المعاني والتفاصيل، تقع في درجة من سوء الفهم واستمرار المزيد من سوء الفهم على مدى حقب طويلة.
لم يتعامل المجتمع الحضري والقبلي إلا على هذا الأساس وبقي ثابتا ومعروفا سوى مجموعة من الأشخاص استطاعت الحكومة أن تظفر بولائهم والوقوف إلى جانبها. وفي هذا أيضا أسئ فهمه.
فمن تعامل أو تعاون مع الحكومة اعتبر (لقاقا) للسلطة ورجالها ويود تحقيق مصالحه ومنافعه الخاصة، وربما نبذ من الآخرين بناء على هذا التصور أو المفهوم.
ولعل ذلك كله لم يكن استثناء اقتصر علينا كليبيين فقط، فالتاريخ أيضا يشير إلى أن التمرد على الحكومة ومواجهتها ونقد السلطة ومحاربتها وقع في أقطار مجاورة وبعيدة. الحالة كانت عامة والرفض للسلطة تنقله المصادر وتوثقه وكذا كل الوسائل.
إن معنى الحكومة، كهيئة قانونية وشرعية حاكمة، لم يكن متكامل الأركان من الناحية السياسية والاجتماعية والإدارية، ولعله تطور مع الزمن بحدوث عوامل التغير والثقافة والمعرفة والوعي السياسي والفكري وأسهمت في هذا التطوير النخب والجماعات والكيانات المهتمة بالفكر السياسي ورجال الحكم والقيادة وأدوارهم. وأضحت الحكومة تعني السياسة في كل الظروف.
إن كل السلطات والحكومات التي مرت بليبيا كانت تعرف هذا الشعور الذي يغمر أهالي البلاد وتدركه تماما، وهو شعور المقت والكراهية، ولذلك استعملت كل وسائلها بالترغيب أو الترهيب في مخاطبة ودهم ومحاولة تقريب الصورة الحقيقية لها وكأنها تريد القول بصوت عال أن الحكومة والسلطة أساس الدولة والنظام وتسعى لخدمة الأهالي والعمل على إسعادهم والنهوض بهم.
وفي الواقع لم يتول الليبيون مناصب وزارية أو مسؤولية سياسية ذات أهمية قصوى على سبيل المثال في العهد العثماني. كانت الحكومات هناك على شط البسفور. وكانت ليبيا الولاية العثمانية بمتصرفياتها المعروفة وبلدياتها التي نظمت اعتبارا من العام 1870 يتبادل شؤونها الولاة القادمون من إسطنبول ويديرها شيوخ المحلات والبلديات.
كان شيخ البلد سلطة في حد ذاته.
وكان شيوخ القبائل والعشائر المختلفة في المناطق البعيدة والدواخل يمسكون بخيوط الحل والعقد والربط في نواحي القبيلة وعلاقاتها مع الجوار وكانوا يعصون تلك السلطة العصملية في رأيهم ويثورون في وجه الأثقال فوق ظهورهم جراء المطالبة بدفع الضرائب وجمع الأعشار وإساءة استعمال السلطة التي كانت تجرد حملاتها نحوهم لتأديبهم وإرجاعهم عن غيهم المتواصل، على حد رأيها.
وكان من ناحية أخرى بعض أعيان الحضر والمدن يمثلون متصرفيات الولاية الليبية في مجلس المبعوثان في عاصمة الخلافة فيما كان بعضهم بأوامر أو فرمانات صادرة من الحكومة أو السلطان أو الولاة يعين مسؤولا أو مديرا في مناطق القبائل.
كانت تعرف الحساسيات القائمة مع السلطة وبين القبائل ومايجاورها وأسباب تزاحم النفوذ وإنهاء لهذه المشاكل والحساسيات رأت أن تجعل من هذه الشخصيات المحايدة مسؤولة في وسط هذا الحشد القبلي الملئ بالصراعات والمنازعات على الدوام.
وكان ثمة فئة من البلاد أرسلت في بعثات برعاية السلطة ودرست في مدارس تركيا واستفادت مما تلقته من تعليم وخبرة واحتكاك بالآخرين وإجادة للكتابة والتكلم باللغة العثمانية ثم عينت للعمل في المراكز والسناجق التابعة للدولة خارج ليبيا وشهد اليمن ولبنان وسوريا، على سبيل المثال، وجود العديد من هؤلاء الليبيين المتعلمين والمتنورين يعملون كموظفين في مراكز مهمة في مرافق الدولة وإدارة سناجقها في تلك المناطق ويقع في مقدمة هؤلاء: حسين بسيكري وحسين كويري وبشير السعداوي وعمر شنيب.. وغيرهم.
إن ذلك شكل في واقع الحال تراكم خبرة ومهارة عند أولئك الموظفين وأكسبهم معرفة ودراية بالمسؤولية ومهام العمل وستسفيد منهم البلاد لاحقا في وظائفها ومناصبها مثلما استفادت من خبرة من تواجدوا في العمل بالإدارات الإيطالية ثم البريطانية والفرنسية.
غير أنه، في كل الأحوال، كانت القبيلة على مدى فترات متعاقبة حكومة وحدها خاصة في منطقتها وحدود (وطنها) كما يقال.
القبيلة كانت سلطة في مواجهة الحكومة.
…
يتبع
__________