ترجمة لوثيقة أمريكية يعود تاريخها الى 9-9-1969م، رُفعت عنها صفة السرية منذ مدة، تكشف ما كانت تعرفه الحكومة الامريكية عن سقوط الملكية في ليبيا.
الوثيقة عبارة عن مذكرة سرية أعدتها وزارة الخارجية الامريكية و وكالة المخابرات المركزية بناء على طلب مستشار الامن القومي هنري كيسنجر لتقديمها الى الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون، حول سقوط الملكية المباغت في ليبيا.
***
نص ترجمة الوثيقة
ملخص
الانقلاب العسكري الذي أطاح بالملك ادريس البالغ من العمر 79 سنة، في الأول من سبتمبر [1969]، كان مفاجأة فقط من ناحية توقيته و من ناحية السرية التي أحاطت بهوية قياداته.
وعلى كل حال فقد كنا مدركين من مدة أن الأخطار على تقاليد الحكم الدستوري الممتد لـ 18 عاماً آخذة في التنامي، لقد ذهبنا إلى أقصى الحدود غير المعتادة من سفارة اجنبية في لفت نظر الحكومة الليبية إلى نقاط ضعفها.
وفي السنوات الأخيرة يبدو أن تصدعاً قد أصاب القوى السياسية التي وُضعت في توازن دقيق منذ ان حصلت ليبيا على استقلالها سنة 1951م.
نقاط الضعف تلك بالإضافة إلى تزايد قدرات الجيش، و تزايد السخط فيه، تفاقمت إلى مستويات خطيرة خلال الأشهر الستة الأخيرة، و بالتحديد نتج ذلك إلى حد بعيد من الانتقادات للسياسة الخارجية الليبية الدفاعية السلبية، والقرف من استشراء الفساد ومن الضعف المتزايد والمزاجية للنظام الذي يحكم ليبيا، ولقد سلّطتْ الضوء على ذلك وزارة عبدالحميد البكوش المتنورة الذي عزله الملك من حوالي سنة مضت ولم يكن قد مضى على توليه الوزارة الا فترة قصيرة.
ليبيا التقليدية
طيلة الـ 15 سنة التي أعقبت الاستقلال الليبي عاشت البلاد في فقر، متقوقعة على حافة الشرق العربي. فقد حكم الملك ادريس البلد بالأوامر الشخصية، ولم تكن المؤسسات الحكومية سوى أوعية جوفاء تعكس قبضته على الحكم.
وكل مصادر السلطة الأخرى كانت إما هزيلة أو تم استخدامها ضد بعضها، ولم يكن هناك أي رمز وطني سوى الملك، فلم تكن هناك أي أحزاب سياسية، و كانت اتحادات العمال تحت السيطرة الحكومية، و تم مراراً و تكراراً التدخل لإجهاض محاولات طلاب ليبيا لتكوين اتحاد، أما الجيش فقد تم اضعافه، وتم تغليب القوة المتحركة الأكثر عدداً عليه.
منتصف الستينات – نقطة تحول
شهد منتصف الستينات بداية تغيرات جذرية أدت في المحصلة إلى خلق ظروف مواتية للمتآمرين وجعلت في النهاية نجاحهم ممكنا، و فيما يلي ثلاثة نقاط جديرة بالاعتبار.
تأجيج الرأي العام العربي
لم يُثر العدوان الثلاثي سنة 1956 أي مشاكل داخلية خطيرة للحكومة الليبية الموالية للإنجليز. لكن على العكس من ذلك، عندما اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967م، فقد انشق عدد من الوحدات العسكرية وانضمت إلى الجمهورية العربية المتحدة، وأخذت الحكومة على حين غرّة بعنف الغوغاء المعادي للنظام و للأمريكان، واكتسحت الفوضى البلاد طيلة أسبوع تقريبا، وبشكل رئيسي لم ينقذ البلد في ذلك الحين الا الانهيار السريع والاذلال الذي تعرضت له الجيوش العربية.
في أعقاب ذلك بقليل علّق وليّ العهد قائلا “اذا كُتب للحرب ان تتواصل لمدة 10 او 15 يوماً أخرى، فإن ليبيا تكون قد انتهت“.
في أعقاب حرب 1967م تأجج الرأي العام في ليبيا إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبح صعباً على الامريكان التواصل مع معظم المستويات في المجتمع الليبي، بالإضافة إلى ذلك فان التطرف الذي ساد المنطقة عموماً، قد وضع النظام الليبي المعتدل الموالي للغرب تحت ضغوط داخلية و خارجية شديدة.
ويجدر بالملاحظة هنا دعوات النظام الجديد إلى “مشاركة اكثر فعالية في التعاطي مع القضايا العربية في العالم العربي و القضاء على سلبية الماضي العقيمة فيما يتعلق بمشاركتنا في شئون العالم ككل“.
عائدات النفط و مشكلة الفساد
صادرات النفط الليبي وعائداته التي بدأت بمستويات صغيرة سنة 1961م، ارتفعت بشكل مذهل بعد اغلاق قناة السويس سنة 1967م.
ففي حين لم تتعدى عائدات الحكومة من النفط 6 ملايين دولار سنة 1961م، فإن ليبيا سجلت سنة 1968م اول ميزانية مليارية لها.
و قد نتج عن إنفاق تلك المبالغ -70% منها انفقت على التنمية، نتج عنه بالطبيعة تخلخلات اجتماعية، لكن الأكثر اثارة للقلق، هو أن الفساد الذي يصاحب حتمياً انفاق تلك المبالغ الطائلة، كان سبباً مباشراً في التوتر الاجتماعي –و هو فساد كانت بعض الشركات الامريكية والأجنبية ضالعة فيه.
لقد كانت اول جملة قالها احد أعضاء مجلس قيادة الثورة للقائم بالأعمال في سفارتنا هي أن الانقلاب كان “ردة فعل ضد الفساد وضد الفروقات الصارخة الموجودة بين الشعب الليبي و أولئك الذين في الأعلى“.
لقد كان القلق يعترينا إزاء التهديد الذي أخذ الفساد يشكله على الحكومة الليبية، فالسفير (نيوسوم) حذر الزعماء الليبيين في اكثر من مناسبة من الخطورة التي تشكلها هذه المشكلة.
فخلال زيارته للملك والملكة، عبر عن قلقه من أن التربّح من النفوذ يمكن أن يخلق اثار سياسية خطيرة، و قال “على ليبيا ان تمنع الافراد من كسب مبالغ طائلة من خلال استغلال النفوذ لأن ذلك على الأرجح سيؤدي إلى تنفير الرأي العام“.
أما مع وليّ العهد فان السفير قد قال “ان الفساد التجاري له اثار سياسية وخيمة جدا لأنه يستعدي الرأي العام، وفي الحقيقة، أن تذمر الشعب من الفساد كان سببا رئيسيا في الثورات ضد العديد من الأنظمة المحافظة في العراق والسودان و نيجيريا“.
وأخيرا وفي لقاء له مع أحد محاسيب الملك وأحد كبار المستفيدين من نظام الغنائم، قال السفير أنه ربما يكون من الطبيعي وجود بعض التربّح من النفوذ، الا انه قلق لأن “تفاقم هذا النوع من الممارسات يمكن أن يؤدي إلى عواقب سياسية خطيرة“.
تفاقم ازمة الزعامة
منذ منتصف الستينيات، أخذت قبضة الملك ادريس على زمام الأمور في التراخي عمليا. فقد اضمحلت قدرته على التركيز إلى حد أنه استغرق في النوم اثناء احد لقاءته مع السفير الأمريكي.
تلك لعلها هنات طبيعية من شخص يقارب الثمانين من العمر، لكنها اضعفت الملكية باعتبارها حجر الأساس في النظام السياسي الليبي. لقد كان تأثيرها اكثر جلاءً لأن الملك لم يسمح بنشوء أية مؤسسة سياسية تكون متنفساً للرأي السياسي.
لقد بذل سفراء أمريكا و بريطانيا جهودا متكررة لإقناعه بتقوية القاعدة المؤسساتية للدولة، لكن دون جدوى.
لقد أصبح في السنوات الأخيرة اكثر اعتباطية ومزاجية:
ففي سنة 1964م هدّد بالاستقالة لمجرد تحدّي مشكوك فيه لسلطاته الملكية.
وفي سنة 1966 اقترح تحويل ليبيا إلى جمهورية بأمر ملكي، و قد تم إقناعه بالعدول عن ذلك الاجراء المتطرف، لكن ذيوع نيته أدى إلى خضّة في المشهد السياسي الليبي.
و خلال الفترة ما بين 1966 إلى 1968م حظي 4 رؤساء وزارات برضاه ثم حل بهم غضبه فعُزلوا.
وفي السنة السابقة للانقلاب اعترت الشباب خيبة أمل عميقة إزاء قيام الملك بالطرد الفجائي لرئيس الوزراء الإصلاحي اللامع عبدالحميد البكوش، بعكس النصائح الامريكية والإنجليزية.
و ذكرت سفارتنا ما يلي: “أن في ذلك تذكير مقلق إلى أن ليبيا يحكمها ملك مطلق لا علاقة لممارساته الاعتباطية للسلطة بالاحتياجات الحقيقية للبلاد“.
وأخيرا في عشية الانقلاب خيّم الذعر على المشهد السياسي الليبي على أثر الانباء التي قالت ان الملك يفكر مرة أخرى في التنازل عن العرش بسبب منشور سري ينتقد فساد محاسيب قصره.
اختلال التوازن
الضغوط التي تعرضت لها البنية السياسية الليبية نتيجة للثروة وتأجج المنطقة وتطرف الشعب، و أسلوب حاكم البلاد الذي يتزايد في اعتباطيته خلق مناخاً مواتياً للتغيير.
لكن التغيير أتى من حيث لم يُحتسب، ففي منتصف الستينات أخذ الميزان في الاختلال بين القوة المتحركة والجيش، بسبب تردّي كفاءة البوليس، وضعف روحه المعنوية وتدريبه.
و يقول تقرير بتاريخ يناير 1969م انه بينما “كانت القوة المتحركة خلال الخمسينات منظمة كفؤة ذات قوة ضاربة، فإن المستوى العام للمعنويات والانضباط والتدريب فيها منخفض الان“.
إن محاولات الولايات المتحدة لتحسين الوضعية – تدهور الوضعية ناتج عن السياسة و ضعف القيادة– بتوفير مستشار من أرفع مستويات البوليس، لم تلق أية استجابة، كما أن عرضاً بقيمة بضعة ملايين من الدولارات تم تقديمه للحكومة الليبية لتدريب البوليس، تم تجاهله.
و بحسب تقرير يعود إلى ابريل 1969م فان الجيش الليبي كان في الاثناء آخذ في التحول عبر “نمو سريع في عدد الافراد و نوعيتهم، بالإضافة إلى ظهور اعداد من الضباط الشباب الأكثر اقتداراً، إلى قوة يحسب لها حساب في السياسة الليبية“. (وزير الدفاع السكير (حامد علي العبيدي) ورئيس الأركان (السنوسي شمس الدين) المعروف بالمحسوبية وانعدام الكفاءة، لم يكونا قادرين على توفير الامن للنظام) .
كميات هائلة من المعدات العسكرية كان من المزمع توفيرها للقوات المسلحة الليبية، و بحسب نفس التقرير فان “قيادة الجيش بدأت في الانتقال من مخضرمي الحرب العالمية الثانية إلى جيل من النشطاء الشباب“. و كانت المؤشرات السرية تفيد بأن السخط آخذ في التزايد.
في ابريل 1969م انتشرت اشاعات مفادها ان مجموعة منشقة تعرف باسم (البلاك بوتس) تقوم بتنظيم نفسها وتتكون من ضباط سرية [ما بين نقيب إلى رائد] و يقال انها غير راضية على حالة الفساد في الحكومة الليبية وتعتقد أن الوقت يقترب بسرعة من اللحظة التي يتوجب على الجيش فيها أن يأخذ بزمام الأمور في ليبيا.
وجاء في تقرير سفارتنا لشهر يوليو “الغضب يعتري عناصر الجيش الشابة بسبب غياب الرسالة وبسبب القيادات القديمة“.
و هكذا فانه بحلول صيف 1969م، كان جليا أن الحكومة الليبية كانت تعاني مشاكل، و كانت نقاط ضعفها بادية للعيان، و كذلك كان واضحاً المصدر الذي يحتمل أن يأتي منه أي عمل ثوري. و على كل حال لم تكن لدينا أية معلومات محددة عن توقيت الانقلاب و لا شخصياته قبل قيامه في الأول من سبتمبر 1969م.
فرادة الانقلاب و الوضعية الليبية
ربما لا يوجد في العالم العربي شعب اكثر تحفظاً واشد خوفاً من الغرباء مثل شعب ليبيا. فالشعب الليبي، الذي هو أحد اكثر الشعوب تقليدية في العالم العربي، تعرض لرجة شديدة في القرن العشرين نتيجة للغزو الإيطالي الوحشي في العشرينيات، وحملة شمال افريقيا العسكرية في الحرب العالمية الثانية، وصدمة الثراء الهائل في الستينيات.
أضف إلى ذلك أن الليبيين كان يعوزهم دائماً الإحساس بالهوية الوطنية، ولديهم عقدة نقص إزاء جيرانهم الأكثر تطوراً: مصر و دول المغرب.
وليس أدل على صعوبة التغلغل في المجتمع الليبي من المفاجأة التي شكلها الانقلاب لنا و أيضا للإنجليز –الذين كانوا منذ الحرب العالمية الثانية المسؤولين الرئيسيين عن تدريب الجيش الليبي وتطويره.
ومن نافلة القول أنه كان مباغتة تامة لكل واحد من افراد الطبقة الحاكمة الكبيرة، وأيضا على ما يبدو للاتحاد السوفياتي ومصر وبقية الدول العربية.
ليبيا لا تقبل ملحقين عسكريين، و إلى فترة ليست بالبعيدة لم تكن لدينا تغطية إلا على مستويات ضيقة من وكالة الاستخبارات الفنية الميدانية عبر قاعدة هويلس.
وطيلة السنوات كان تواصلنا مع الضباط الليبيين من خلال اتفاقية المساعدة العسكرية، التي لا تتضمن أي وظائف استخباراتية.
استسقاء معلومات عن التخطيط للانقلاب زاد من صعوبته المستوى الذي تم فيه التخطيط، فباستثناء قائد الانقلاب المرموق، الذي هو برتبة مقدم [سعدالدين بوشويرب]، فإن أغلب ممثلي مجلس قيادة الثورة الذين تواصلنا معهم لم تتجاوز رتبهم الملازم الأول أو النقيب، و لا يُعرف سوى القليل عن توجهات الضباط الصغار في الجيش الليبي –فاتصالاتهم مع الأجانب كانت مقيدة بشدة– وحركتهم كانت منفصلة عن كبار الضباط الذين توقعنا أن يكونوا مصدر الخطر على النظام.
وعلى كل حال فنحن نعرف أن اعداداً كبيرة من ضباط الجيش الليبي تلقت طيلة سنوات بعضا من التدريب في الولايات المتحدة. و لقد أعجب جميعهم تقريباً بما خبروه اثناء وجودهم في أمريكا. لهذا السبب هناك أساس للاعتقاد بأن ما عبرت عنه الزمرة العسكرية الجديدة في ليبيا من مشاعر صداقة قوية للولايات المتحدة هي مشاعر صادقة وليست مناورة تكتيكية.
انتهى
____________
المصدر: الوثيقة من أرشيف وكالة المخابرات المركزية الامريكية نقلا عن موقع الوكالة