كلمات في الموسم الحادي والسبعين

سالم الكبتي

وفي الضفاف الأخرى التي هي قريبة وليست بعيدة ظل التشويش من الخارج يلاحق الاستقلال ويترافق مع التشويشات الداخلية.

تشكيك وتشويش خارجي كان له تأثيره القوي في الساحة وعلى الكثيرين من المواطنين.

انصرفوا كلية بأسماعهم وعقولهم إلى مايرد من تشويش مستمر ويؤيدونه ويصدقونه في تعصب كبير.

والواقع أن هذا التشويش نجح في أن يخترق جيلا فتح عينيه على الاستقلال لكنه في مرحلة لاحقة أهمل اهتمامه وانتماءه للوطن وغاب تماما عن الوعي بالمسؤولية والارتباط بما يعنيه استقلال وطنه من الألف إلى الياء.

كان لابد أن تنجح فعلا هذه العوامل الخارجية المتمثلة في الخطاب الهادر وأصوات الإذاعات وارتفاع مد الأناشيد والبيانات..

كان لابد أن تنجح وسط ساحة الوطن بسهولة ومن دون تعب فلم تكن هناك رؤية مضادة عكس الاتجاه ولم تكن معها خطة مدروسة ومشمولة بالعناية والاهتمام تستهدف تنمية الوعي الحقيقي بمعاني الاستقلال في وجه هذه التقلبات والتيارات والأصوات.

لقد ظلت دولة الاستقلال تجامل وتبتعد عن المواجهة أو عن وضع برامج لحماية الوطن وصيانته.

وإضافة إلى ماقلناه وتؤكده وثوقية أحداث التاريخ القريب والمعاصر أن هذا التشويش الخارجي الطاغي والمؤيد من أطراف مختلفة داخل الوطن اعتمد أيضا في مهمته على توجيه مجموعات شرعت في كتابة مقالاتها ونشر إصداراتها خارج البلاد في فترات متقاربة وقام بذلك أفراد من غير أهلها وربما كانوا في الأصل يفتقرون إلى المصداقية والعلمية والمنهجية المطلوبة.

كان يوجه تلك المجموعات والأفراد أفراد من ليبيا نفسها يقيمون خارجها بعضهم كان له مشاكل أو خصومات شخصية مع النظام تداعت أثر حادث اغتيال ناظر الخاصة الملكية.

وحفلت الصحف والدوريات بالكثير من التشويشات والتشويهات غير المنطقية والبعيدة عن روح النقد الحقيقي والكشف عن مواطن الخلل أو الضعف في الدولة.

ظلت تلك الكتابات عديمة الرؤية الصادقة للواقع الليبي وظلت على نحو مستمر في ذات الوقت تتأثر تأثرا واضحا بما يدور في الجلسات والصالونات.

تسقُّط الأخبار والبحث عن العيوب والتكالب على النشر بصورة ملفتة للنظر.. كان ذلك هو الحقيقة الساطعة التي توصل إلى الطعن في الاستقلال من أساسه وظل هذا المبدأ هو الشغل الشاغل لهؤلاء جميعا دون استثناء.

من ذلك تأتي على سبيل المثال كتابات سامي حكيم في جريدة الأهرام في القاهرة في بداية الخمسينيات بعد الاستقلال بعامين. كان أحد كتابها وصحفييها.

تصدر المشهد هذا الحكيم ولعله اشتهر منذ سفره إلى عمان وتغطيته لوقائع محاكمة قتلة الملك عبدالله في يوليو 1951.

ثم حضر إلى ليبيا وتجول في بنغازي وطرابلس ووصل إلى سبها ورأى الواقع الذي تعيشه الدولة نتيجة لخرائب الحرب والظروف الاقتصادية وضعف الإمكانيات والتقى العديد من المسؤولين الذين حدثوه عن المشاكل التي تواجهها ليبيا الوليدة والأحلام الصعبة وعاد إلى مكتبه محللا ما رآه بعينيه وحدده بأن البلاد برمتها غير مستقلة ولكنها محتلة من أقصاها إلى أقصاها.

كان هذا مجمل رؤيته غير العادلة وسط الظروف والعوامل التي لمسها بيديه وأبصرها بعينيه تلك الأيام .
ثم تتابعت جهوده التي لم تتوقف وأضحت مؤلفات تمتليء هي الأخرى بالعديد من الأخطاء لأنه كان ينقل شفاهة ولم يعتمد على أية وثائق حقيقية في الغالب.

تلك المؤلفات للسيد الحكيم أخذت من اسم ليبيا عنوانا بارزا مضافا إليه موضوع آخر يختاره وفقا للمزاج والهوى الشخصي وأقوال الآخرين فأصدر كتبه التي اكتفت ليبيا بمصادرتها.. (حقيقة ليبيا) و (معاهدات ليبيا) و (استقلال ليبيا) و (هذه ليبيا) و (ثورة ليبيا) و (الواحة المغتصبة).

كانت هذه المؤلفات تصدر وتنال التشجيع في الخارج ولم يتم التصدي في أي حال من الأحوال لتصحيح ما ورد فيها من مغالطات كادت بكل كيد للاستقلال دون سبب ظاهر.

لم يتم الرد الذي تستوجبه حرية الرأي ويستدعيه المنطق بمؤلفات مماثلة وتصويبات لازمة سوى من مقال ظل هو الوحيد كتبه رشاد الهوني مدير صحيفة الحقيقة في بابه الإسبوعي بالصحيفة أواخر 1968 ردا على كتاب استقلال ليبيا وكان عنوان المقال (مواقف الأساتذة) ورغم ذلك أضحت تلك المؤلفات مراجع ومصادر لطلابنا وباحثينا في كل الظروف ولم يتحرك أحد منهم بتصويب مواقع الخطأ.

وفي المجمل فإن مثل هذه الكتابات أسهمت تلك السنوات، بطريقة أو بأخرى، مساهمة واضحة وكبيرة في التشكيك في استقلال ليبيا والطعن فيه والنيل من قدرات الليبيين.

والعجيب كما أدركنا أنها كانت حربا إعلامية لم تقابل بما تستحقه من أبناء الوطن.

فلماذا تم ذلك ولماذا ينساق الكثيرون للإضرار بوطنهم واستقلالهم وتسخير الآخرين وتحريكهم وتزويدهم بالمعلومات المشوشة.

إن الإجابة واحدة تتحدد بكل وضوح في أن الليبيين اجتمعوا بطريقة أو بأخرى على الكفر باستقلالهم في وقت يندر فيه ذلك لدى الشعوب الأخرى التي تنهض بأدوارها للدفاع عن وطنها الذي تنتمي إليه.

إن الاستقلال انتماء بالدرجة الأولى ونحن باختصار فقدنا ذلك الانتماء وصرنا نحرص على الدوام على الإساءة إليه والبعد عنه.

ورغم محاولات الدولة لنشر الوعي الوطني وتدريس منهج التربية الوطنية إلا أن جهودها ظلت قاصرة في هذا المجال عن تحقيق الكثير وزادت الهوة بذلك وانعدمت الثقة بين المواطن والمسؤول.

ومع تلازم مظاهر الفساد الذي لم يكن في الواقع عنوانا للدولة ولكنه ظل يقتصر على أفراد ومجموعات ربطتها مصالح مشتركة مع بعضها بدا واضحا في إقامة المشاريع والحصول على الصفقات والترحاب بالشركات الأجنبية.

مع تلازم ذلك لم يتوان الملك في ملاحظته والحديث عنه في بيانه الشهير (بلغ السيل الزبى) الذي أطلقه في يوليو 1960.

وأكد على أنه سيغيره ويحاسب المسؤولين عنه ثم حذر أيضا من الركون إلى الفساد وحياة الدعة مشيرا إلى أن الكفر بالنعمة من موجبات زوالها في خطابه بالعيد العاشر للاستقلال في ديسمبر 1961 ثم في بيان آخر عن موضوعة الفساد وتفشيه في الدولة في ديسمبر 1963.

لكن هذه البيانات والتحذيرات الواضحة من قمة رأس الدولة ظلت للأسف مجرد كلام وأمنيات فلم يكمل الملك مشواره إزاء هذه التصحيحات المنتظرة ولم يجد أيضا من يجاريه في هذا الاهتمام بالإصلاح وتدارك الأمور التي بلغت حدا لا يمكن السكوت بسببه.

كان الشارع عبر هذا كله يتحدث علانية عن مظاهر الخطأ والفساد وانتقل ذلك إلى البرلمان وناقش العديد من جوانبه ومن بين ذلك مشروع طريق فزان وملابساته وانتشرت تلك الأيام القصيدة الشهيرة للشاعر جعفر الحبوني (وين ثروة البترول ياسمسارة .. اللي غير ع الجرايد نسمعوا بخباره).

يقال أن الملك عندما سمعها أشار بأنها فقط للقيام بثورة!.

ومن جهة أخرى أسهمت أو ساعدت بعض النخب المثقفة نتيجة الخطاب الهادر

و دون أن تدري في الطعن والتشكيك في الاستقلال ووصفه بالنعوت الكثيرة ولم تحاول لظروف عديدة الإسهام في الإصلاح إلا بقدر محدود.

وفي مرحلة تالية فطنت تلك النخب إلى أنها أخطأت في حق الجيل الذي صنع الاستقلال وتراجعت عن العديد من مواقفها السابقة.

وذلك جعل من الدولة أن تبادر إلى الاهتمام بالعديد من الكفاءات الجديدة والوجوه الشابة من الجيل الثاني للاستقلال وأخذت تقحمه في المشاركة وشهد الواقع اختيار مجموعات من هؤلاء وزراء في الدولة ووكلاء وزارات وسفراء ومديري جامعات.. وغيرها.

وبدأت العديد من الوجوه القديمة التي شاركت في تأسيس الدولة في الراحة والابتعاد.

لقد وصل جيل جديد ليقود تبعات الاستقلال ويتحملها في وجوه التشكيك والتشويش.. الذي لم يتوقف!

يتبع

***

سالم الكبتي ـ كاتب ومؤرخ ليبي

_________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *